لقاءات مع ثلاثة قادة في الجيش العراقي
العميد الركن هاشم عبد الجبار
اللواء الركن سيد حميد سيد حسين الحصونة
اللواء الركن إسماعيل العارف
التقيت هذه الشخصيات العراقية المعروفة، وبعض وكان تعرفي عليهم بشكل شخصي وتكونت بيني وبينهم صداقة قوامها الثقة والاحترام، ومن خلالها تحدثوا لي بما لا يتحدثون به ربما مع الآخرين، وقد احتفظت لسنوات كثيرة ما أباحوا به لي من قبيل الحفاظ على أسرار الأصدقاء، ولكني اليوم وأنا أشعر بأن النهاية لم تعد بعيدة، وإن ما أدلى به هؤلاء القادة هي من حق التاريخ العراقي، وهم قادة لهم بصماتهم في تاريخ العراق السياسي والعسكري. وقد تسلسلت في استعراض الأحداث بحسب تعرفي عليها وليس بسبب القدم العسكري الذي أحترمه وأقدره، ولكني هنا في مجال سرد للأحداث التاريخية.
* العميد الركن هاشم عبد الجبار :
اشتغلت لفترة وجيزة إلى جانب عملي الأساسي كمستشار في سفارة الجمهورية العراقية في برلين / جهورية ألمانيا الديمقراطية، كقنصل بسبب الشواغر في الملاك، ومن بين مهام القنصل هي إصدار وتمديد جوازات سفر المواطنين العراقيين، ولم يكونوا في تلك الأيام بأعداد هائلة كما هي عليه اليوم، وحتى مع إضافة برلين الغربية التابع لألمانيا الغربية، إلا أننا كنا تسهيلاُ لأمور المواطنين نتعامل معها في سفارتنا، لم تكن الأعداد كبيرة، ربما بضعة مئات فقط.
ذات يوم دخلت علي سكرتيرتي الألمانية (النصف الثاني من 1975)، تخبرني أن مواطناً عراقياً يريد تجديد جواز سفره، وأعطتني الاستمارات، ولما قرأت الأسم وإذا به : هاشم عبد الجبار. فطلبت منها أن يتفضل إلى مكتبي ريثما ننجز جواز سفره احتراماً وتقديراً له. وعندما دخل على الرجل وهو متوجس بعض الشيئ، نهضت من كرسي تقديراً وصافحته ورحبت به. وطلبت له فنجاناً من القهوة.
وفي فترة إعداد الجواز علمت أنه يسكن في مدينة بوتسدام القريبة من برلين (40 ـ 45 كم) أعزب وغير متزوج. وبعد دقائق أرتاح من طريقة تعاملي معه، وأنا أظهر له الاحترام، فهو على كل حال أحد قائد إحدى القطعات الهامة في جيشنا العراقي (آمر اللواء العشرين مشاة) بصرف النظر عن الأحداث السياسية التي رافقت أسمه وتاريخه العسكري. فتلك أحداث مضت والرجل في شيخوخته، وهو إنسان وطني ومعاد للأستعمار، ومحب لوطنه العراق وهذه أهم الاعتبارات.
عندما شعر بالراحة التامة صار يحدثني عن تاريخه العسكري، وإنه يعرف معظم القادة العسكريين العراقيين وخاصة الذي عملوا في خلايا الضباط الأحرار، ولم يظهر عاطفة خاصة تجاه عبد الكريم قاسم، وملاحظاته عنه لم تكن إيجابية، ولكنها ليست سلبية، اكتفى بالمرور السريع، وهي إشارة إلى عدم رضاه التام. ولكنه أبدى ملاحظات سلبية جداً بحق الرئيس المشير الركن عبد السلام محمد عارف، ومن ذلك سباب وشتائم بألفاظ مقذعة.
وعندما أنهينا الجواز سلمناه له بكل احترام، ورجوته أن يزورني كلما تردد إلى برلين، وقد فعل ذلك بعد فترة وجيزة، إذ قام بزيارتي للمرة الثانية، وقمت تجاهه بكل الاحترام الذي يستحقه، إلا أني لاحظت بأنه كان متعباً(صحياً) وأبديت استعدادي لأي خدمة يطلبها، من السفارة أو مني شخصياً.
وبعد فترة قصيرة، ربما لم تتعدى بضعة شهور، جاءت سكرتيرتي لتخبرني أن هناك سيدة ألمانية تطلب مقابلتي، وهي صديقة العميد الركن هاشم عبد الجبار وكان قد توفي قبل أيام قليلة فحسب. وعندما دخلت على السيدة الألمانية لاحظت أنها تبلغ حوالي الستين من العمر، والحزن يكسو موقفها وملامحها وثيابها، واستقبلتها بود واحترام، وطلبت لها الضيافة من القهوة. وعرفتني بنفسها أنها صديقة المرحوم هاشم عبد الجبار، وأنه كان يسكن في بيتها، وأنها رغم معرفتها بحالته الصحية السيئة، فوجئت بوفاته، إذ فارق الحياة وهو في ترامواي المدينة. وقالت لي أنه كان ممتناً جداً من تعاملي معه كمسؤول في السفارة أو بشكل شخصي، وطلب منها أن تراجعني في حال حاجتها لشيئ، فأكدت لها ذلك.
وهنا أخرجت بعض النقود(قليلة)، من العملات الألمانية والعملة الصعبة، وقالت أنها كانت بحوزته وهي تريد إعادتها، فقلت لها أن بوسعها الاحتفاظ بها، ولكنها رفضت بصورة قاطعة، ولكنها، (ولن أنسى ذلك أبداً من الناحية الإنسانية) نظرت إلى بعيون يترقرق الدمع فيها: ولكني يا سيدي المستشار أريد منك شيئاً واحداً فقط، وإذا رفضت ذلك فإني سوف أتفهمه بدقة، أن هاشماً كان قائداً في جيشكم وليس ملكي أنا، فأيدت قولها نعم أن هاشم عبد الجبار كان أحد قادة جيشنا الوطني، وأنا أحترمه وأقدره كثيراً، أخرجت صورة من حقيبة يدها، وإذا بها صورة للعميد الركن هاشم عبد الجبار قد ألتقطها ربما في ستوديو بابل بقيافته العسكرية الأنيقة التامة ويضع أوسمته على صدره ويعتمر السدارة العسكرية، قالت لي ودموعها تجري على وجهها، ” أتسمح لي بالأحتفاظ بهذه الصورة ..؟ إنها الشيئ الوحيد الذي بقي لي من هاشم ” ..
وأمام هذا الوفاء الرائع لم يكن لي سوى أن أوافق على طلبها، وأكدت عليها أن تراجعني إن كانت بحاجة إلى شيئ، إلا أن السيدة غادرت بأحترام وشيعتها إلى باب السفارة تقديراً لوفاءها لضابط عراقي هو أحد قادة جيشنا الوطني.
* اللواء الركن سيد حميد سيد حسين الحصونة.
أثناء خدمتي في السلك الدبلوماسي، وفي سفارة الجمهورية العراقية ببرلين / ألمانيا الديمقراطية كمستشار في السفارة، تصادف وجود الأخ والصديق والرفيق العزيز المرحوم عبد الله غركان الحصونة كمدير لمكتب الخطوط الجوية العراقية في برلين.
وأخي عبدالله كان من ضباط الجيش العراقي أحيل لأسباب سياسية للعمل في وظائف مدنية في الخطوط الجوية العراقية في أستامبول وبرلين. وهو أبن عم اللواء الركن سيد حميد سيد حسين، وصهره(زوجة الأخ عبدالله هي كريمة السيد حميد الحصونة)، وعندما كان السيد حميد يريد الحضور إلى برلين كان الأخ عبدالله يطلب مني أن أرتب دعوة من السفارة للسيد حميد وهو ما كنت أفعله بسرور.
والحق أن السيد حميد الحصونة وبعد أن تعرفت عليه بصورة جيدة، وجدت في الإنسان الفاضل المثقف، المخلص للعراق، ويتمتع بلطف معشر، يجد القدرة على التلائم معنا وكنا نصغره سناً بكثير(ربما بثلاثين عاماً) ويقرأ باللغة الإنكليزية ولديه أفكار تستحق الاستماع. وبعد تلك المعرفة التي تحولت إلى صداقة بحيث زارني في برلين حتى بعد نقل الأخ عبد الله إلى بغداد، وبالضبط تابعنا معاً بأسف هو وأنا ومن تلفاز بيتي ببرلين، نقل وقائع زيارة الرئيس أنور السادات إلى الكيان الصهيوني. تلك الأجواء الصداقية وفرت إمكانية أن أتقدم إليه بسؤال وأنا كنت قد أنهيت الماجستير في التاريخ السياسي المعاصر، فسألته أن يروي لي بالضبط ما يقال عن أوامر الزعيم عبد الكريم قاسم لأحتلال الكويت وعن امتناعه أو تلكؤه من تنفيذ الأمر، وأخبرته إن شاء أن لا أكتب ذلك يوماً في كتاب أو مذكرات وما شابه، وإن شاء أن ننسى الموضوع. فقل لي بالعكس أنه يقدر كوني مؤرخ سياسي شاب وأنه يثق بنزاهتي بصورة تامة وأنه من هذا المنطلق سيروي لي قصة اوامر الزعيم عبد الكريم قاسم بأحتلال الكويت.
وابتداء لم يخفي محبته واحترامه للفريق الركن عبد الكريم قاسم(وتلك رتبة الزعيم يوم مصرعه)، لجهتين: احترام الرتبة الأدنى للرتبة الأعلى، ثم العلاقة الشخصية التي كانت تربطهما. وروى لي بعض من ذكرياتهما الشخصية البحتة التي تدل على صداقة بين الرجلين. وأن الزعيم كضابط قائد كفوء لا يجادل أحد في ذلك، وكصديق شخص رائع ووفي . ولما قلت له : وفي السياسة. أجابني: أنا لا أفهم فيها ولا أستطيع أن أقدر، قالها مبتسماً وكأنه يريد التخلص من إجابة لا يريدها إخلاصاً لذكرى الزعيم وهذا ما أكبرته فيه.
وعن الأمر المزعوم الذي أصده الزعيم بأحتلال الكويت أجاب : ثق يا أخي، وأقسم لك أن الزعيم لم يصدر مثل هذا الأمر، ولو أنه أصدره كيف لي وأنا العسكري منذ أول صباي أن أتمرد عليه ولا أنفذه، وكيف يقبل مني الزعيم هذا التمرد ولا يحاسبني عليه وهو القائد الفذ للقوات المسلحة. بل وبعد أن أنهيت خدمتي كقائد للفرقة الثالثة، نقلني إلى منصب محافظ ديالى، وأستمر على تقديره ومحبته لي.
سيد حميد الحصونة كان يعيش في القاهرة، وقد تعرض لحادث على أيدي موظفين طائشين، ولكنه وكما أخبرني أنه أرسل رسالة إلى الرئيس أحمد حسن البكر يشكو فيه ضيق الحال ويرجوه بصرف راتبه التقاعدي، فأمر الرئيس البكر بذلك وصرفت له رواتبه وهو في القاهرة.
السيد حميد كان يتمتع بصحة جيدة، ويسير مسافات طويلة، ويقرأ كثيراً، ودقيق الملاحظة صافي الذهن، وعندما بلغنا وفاته في لندن وهو في رحلة شخصية لزيارة ولده الطبيب الذي يدرس هناك، كان الأمر مثار دهشتنا وهو قضاء الله وما تدري نفس ماذا كسبت وما تدري نفس بأي أرض تموت. استقبلنا جثمان اللواء الركن سيد حميد سيد حسين الحصونة، من مطار بغداد الدولي بتشيع عسكري مهيب شارك فيه الكثير من رفاق السلاح وفي مقدمتهم الشخصية الوطنية الكبيرة اللواء الركن ناجي طالب(الوزير ورئيس الوزراء) إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف. فعلى روحه الطاهرة الطيبة ألف سلام.
* اللواء الركن إسماعيل العارف.
تعرفت على اللواء الركن إسماعيل العارف (الوزير والسفير، والدكتور فيما بعد) تعرفت عليه في ألمانيا وكنت دبلوماسياً مجازاً لدراسة الدكتوراه في العلوم السياسية عام 1982 والرجل قائد عسكري كان منذ مطلع حياته مهتماً بالعمل الوطني ويفكر بمستقبل بلاده، ثم أنه شغل مناصب مهمة في الجيش منها منصب الملحق العسكري في واشنطن، ووزير التربية في مطلع الستينات، ثم سفير للجمهورية العراقية في براغ، وفيها أكمل دراسة الدكتوراه، وأحيل على التقاعد وسكن في الولايات المتحدة قرب أولاده الذين درسوا هناك واستقروا فيها.
والرجل على ثراء تجربته الشخصية والسياسية في الحياة، يحاذر من إقامة العلاقات، ولكن بمرور الوقت وبعد لقاءات كثيرة، تحولت علاقتنا إلى صداقة كنا نتجاذب أطراف الحديث في موضوعات شتى، وبالطبع منها ذكرياته عن منظمة الضباط الأحرار. وإذا كان العارف قد ذكر الكثير مما يعرفه في كتاب له بهذا الخصوص، إلا أن هناك ما يستحق أن يسجل من مذكراته، لا سيما أنه كان يعتبر من بين أصدقاء الزعيم عبد الكريم قاسم المقربين.
أخبرني أنه كان قد تعرف على الزعيم عبد الكريم قاسم منذ فترة طويلة سابقة ل 14 / تموز / 1958 وما شد علاقتهما بربط قوي هو تقاربهما في الأفكار الوطنية، كما في العلاقات الشخصية، وسألته فيما إذا كان قاسماً ذا أريحية في العلاقة الشخصية، فأبدى عظيم شوقه لصديقه القديم، مترحماً على روحه وكان يسميه كرومي قائلاً : ” من …؟ كرومي …؟ وهل تحلى جلسة ليس فيها كرومي الورد …؟ ” وتأخذه صفنة طويلة وكأنه ينظر إلى الأفق تكسو ملامحه حزن عميق … أستطاع وإن ليس بسهولة، الإعراب عنها وتصويرها وأنا أحترم فيها عمق التجربة والمشاعر، وأساعده لنضع ملامح الصورة … نعم حزين على الماضي وما حصل، وكأنه ينظر للمستقبل ويقول ما نهاية هذه الصراعات بين العراقيين وهم أخوة في الدين والوطن والقومية …؟ ولمصلحة من تدور هذه الصراعات ..؟
كان يستطيع أن يكون موضوعياً وعلمياً، ولعل دراسته للدكتوراه أعانته في ذلك، أن يعيد تقيم كل شيئ، منذ العمل في منظمة الضباط الاحرار والانقلاب على الملكية، ومرحلة الزعيم عبد الكريم قاسم، وهي مراحل كان هو فيها نافذ الرأي والموقف، والتجربة والزمن كفيلة بإجراء تعديلات على ما كنا نظنه ثابتاً ومستقراً كالأرض والجبال الرواسي، ليس هناك من الثوابت في السياسة سوى العراق والأمة والمصالح الدائمة وسوى ذلك زائل يتكرر ويتغير كل بضعة عقود.
روى لي أن ما حدث في الموصل كانت نقطة مفصلية، وإعدام الضباط القادة كانت الغلطة الأكبر التي ارتكبها قاسم، أرتكب تلك الغلطة تحت ضغط من عناصر كانت تحوم حوله، فالجميع يدرك أنها كانت أحكام مسيسة، لم يقبل بها حتى إثنان من أعضاء المحكمة ممن تخلصوا من الضغوط العقيد فتاح سعيد الشالي، والرائد إبراهيم عباس اللامي، وكان الوزير العارف في سفرة عمل خارج العراق، ويقول كنت الاحظ من بعض حاشية الزعيم التحريض على إعدامهم، لذلك وقبيل سفري بيوم واحد جلبت المصحف وجعلت قاسماً يقسم عليه أنه سوف لن يعدم الضباط القادة، وأكد لي بأنه سوف لن يفعل، وسافر العارف وعند عودته إلى العراق عن طريق بيروت التي أضطر للمبيت فيها ليلة واحدة ليأخذ الطائرة العراقية، وقبل مغادرتهم بيروت بوقت قصير أخبره مرافقه أن الإعدام قد نفذ بالقادة، وتوجه العارف من المطار إلى مقر الزعيم فور وصوله بغداد، والمظاهرات تعم العراق، ويقول، سألته بربك لماذا فعلت ذلك … ألا تعرف ما هي قيمة رفعت الحاج سري وناظم الطبقجلي ..؟ ألا يكفي أن العشرات من الضباط الوطنيين إعدموا وقتلوا وسحلوا ..
يستطرد العارف، أن الزعيم كان يقابله بالصمت مطأطأ الرأس وكأنه يدرك فداحة الخطأ الذي أرتكبه، ولكن لات ساعة مندم … وبرأي العارف فإن الزعيم قد أرتكب غلطة العمر …
بقول العارف أدركت ومعي الكثيرون أن قاسماً قطع الجسر بينه وبين الضباط الأحرار وسلك طريقاً آخر بأختياره أو مرغماً وأنه رسم نهايته بيده، ومنذ ذاك طبعت الكثير من التصرفات وفقد النظام هويته، وصار حكماً فردياً محضاً لا غير. عبد الكريم فاسم يصلح أن يكون قائداً عسكرياً من طراز رفيع، وهو صديق شخصي رائع، يخدم ضيوفه بيده، ولكن الحكم سلب عقله، وهو الزعيم الأوحد يحكم كل هذا العراق من شماله إلى جنوبه كما يمليه عليه ضميره وسعة مداركه العقلية فقط، وهو غير مؤهل قطعاً لأن يحكم دولة ويحدث التحولات المطلوبة. وحتى رفاق الثورة بدأوا يستشعرون فداحة أن يكون العراق بخير ومستقبله واضح وزاهر بهذا الأسلوب …
توفي إسماعيل العارف في الولايات المتحدة تغمده الله بوافر رحمته، ورحم الله كل قائد عراقي مخلص عمل وكان قصده خير العراق وأزدهاره، بلا تعصب بلا تشدد، ولنأخذ العبرة من تلك الأحداث كلها، فوطننا اليوم محتل، والسيادة فيه مهلهلة، والبلاد يعبث بها من يشاء مسلوبة منهوبة وقد فقدت استقلالها الذي شيد بالغالي والنفيس، ولا حول ولا قوة إلا بالله