دردشة مع نوري عبد الرزاق (5- 5)
صدام يرتاح الى مكرم الطالباني لهذة الأسباب
عبد الحسين شعبان
ماطلتني كتابة هذه الدردشة، وكلّما سعيت إلى تدوينها سردًا وإضافة وتعقيبًا وجدتها لا تأتي مطواعةً، وفي الوقت الذي تطلّ فيه بقوّة أحيانًا، تغيب في أحيان أخرى أو تندسّ في خضم تفاصيل مختلفة حاولت الابتعاد عنها. وهكذا لا هي جاءت منسابة سمحة لتفسح في المجال كي أستكملها بهارموني متّسق، ولا هي استعصت كي أغضّ النظر عنها أو أؤجّلها إلى وقت آخر.
المتبقي من الروّاد
سألني نوري: من تبقى من “قيادة الحزب” السابقة بعد وفاة كريم أحمد؟ فقلت له كنت قد زرت كريم أحمد مرّتين قبل وفاته في كويسنجق، حيث صادف إلقائي محاضرتين في جامعة كويا، وانتهزتها فرصة لإداء واجب أخلاقي وإنساني. وتربطني بكريم أحمد صداقة ومحبّة، فقد كان سكرتير المكتب الأيديولوجي للحزب، الذي ضمّ مهدي عبد الكريم وأبو سمير من العمارة الذي استشهد في بشتاشان وكاتب السطور. وهو شخصية مسالمة وودية، واستذكر نوري تقديرنا له ومحاولته رأب الصدع وتسوية الخلافات، وهو ما كلّفت للقيام به حينها واللقاء بكريم أحمد بصحبة الدكتور محمد جواد فارس العضو القيادي في المنبر، لكن الاتجاه السائد لم يكن يميل إلى ذلك على الرغم من الوعود التي سمعها نوري كما يقول من الرفيق عزيز محمد ومن آرا خاجادور، لكن الرياح سارت باتجاه سفن التطرّف والمغامرة والاستحواذ. واستذكرنا باقر ابراهيم وقلت له: لقد احتفل بعيد ميلاده ا? 90? وكنت زرته مؤخّرًا في هلنسبوري في السويد، كما التقيت قبل فترة بجاسم الحلوائي في كوبنهاغن التي يستقرّ فيها، وعدنان عباس الذي يقيم في لندن، وسبق لنوري أن التقاه أكثر من مرّة، وعمر علي الشيخ (أبو فاروق) وقد تجاوز التسعين ببضع سنوات وقد زرته في إربيل بعد وفاة والدة زوجته الصديقة بخشان زنكنة “أم بهار” ووضعه الصحي في غاية الصعوبة.
مكرّم الطالباني
كما أن مكرّم الطالباني ما يزال على قيد الحياة، وقال لي لم أسمع عنه منذ فترة ليست بالقصيرة. فحدثته عنه، وسألني نوري هل التقيت به في إربيل؟ قلت له كنت في السليمانية، حيث قمت بزيارة مكرّم الطالباني، وكنت قبل ذلك قد زرت بهاء الدين نوري قبل وفاته، وذلك من باب التواصل الاجتماعي والتقدير للمناضلين من كبار السن، ناهيك عن الأدوار التي قاموا بها بغضّ النظر عن الرأي فيها.
وعلّق نوري: كنت أظنّ أن مكرّم فارق الحياة، فقد انقطعت أخباره، قلت له ما يزال حيًّا وبصحة جيدة، وحين أرسلت له خبرًا مع إحدى قريباته برغبتي في زيارته إذا كان وضعه الصحي يسمح بذلك، وحين عرف بوجودي بالسليمانية استقبلني بحفاوة كبيرة، وكنت قد تعرّفت عليه في بغداد في العام 1969? والتقيته 3 مرّات؛ الأولى تسليمه محضر لقاء للعلاقات الوطنية حول المفاوضات الطلابية؛ والثاني حين أوصلت له أحد البشمركة الذي رافقني إلى بغداد في أيار / مايو العام 1970 من قاعدة بيرسرين في كردستان، والثالث في إربيل بعد الاحتلال، وكان أن التقيت به على نحو عابر ومصادفة مع جلال الطالباني في براغ العام 1989? حين جاء “وسيطًا” بتكليف أو دون تكليف من قيادة صدام حسين.
قال لي مكرّم: أن عمره الآن 100 عام وشهرين (كان ذلك في شهر أيار / مايو 2022) وأن كريم أحمد أكبر منه بعام واحد، وذلك قبل وفاة كريم أحمد بفترة قصيرة في 1 تموز / يوليو 2022.
أهديت مكرّم كتابي عن سلام عادل وقد ارتاح كثيرًا لأهمية التعريف بتاريخنا للجيل الجديد. كان ما يزال واعيًا جدًا واستقبلني بكامل قيافته ونهض لتوديعي عند مدخل منزله ودون مساعدة، وذلك بعد ساعة ونصف من اللقاء. وسألته كيف استمرّ في وجوده في العراق بعد انسحاب الحزب من الجبهة؟ قال: اتفقت مع عزيز محمد على عدم خروجي من العراق. وكتبتُ رسالة إلى الرئيس صدام حسين أبلغه بأنني أقدّم استقالتي وسأبقى داخل العراق وفي منزلي.
سألته: كيف كانت العلاقات مع الحكومة؟ قال: علاقتي بالرئيس صدام كانت جيّدة وهو مستمع جيد، وقد حاولت أن أعيد لُحمة العلاقات بعد الحملة البوليسية ضدّ الحزب الشيوعي، وبما أنه ليس لدينا خطّة كاملة وأنهم أبدوا استعدادًا للتراجع عن فكرة إنهاء الحزب، وأن عزيز محمد كلّفني بالاتصال بصدّام وحمْل رسالة له، وكان ذلك في موسكو وعدت وأنا أحمل مقترحات محدّدة.
ولكن قبل وصولي كان عبد الرزاق الصافي قد اتصل بقيادة حزب البعث وأبلغهم جوابنا وهو غير المتفق عليه. وحين اتصلت بالرئيس صدام وطلبت اللقاء به لأنني أحمل مقترحات جديدة من قيادة الحزب، أبلغني أنها وصلت وليس هناك داع من أن تصل الاشياء التي تريد إيصالها، وكان يتحدّث بألم. وعلّق نوري أن البعثيين عرفوا ماذا حدث، وهو ما رواه مكرّم له أيضًا عند لقائهما في العام 1989 في براغ. وقال لقد التقينا به عامر وأنا مثلما التقى به جلال طالباني وآرا خاجادور وعزيز محمد في فندق الحزب الجديد، وكان صدّام يرتاح لمكرّم كثيرًا ويثق به، ولذلك حين كان يريد السفر ويستأذن منه اللقاء بالمعارضة، والمقصود بذلك الحزب الشيوعي والحركة الكردية، كان يأذن له، علمًا بأن السوفييت حاولوا أن يتوسطوا في العام 1982 بين البعثيين وبيننا، خصوصًا بعد معركة المحمّرة وانسحاب القوات العراقية من الأراضي الإيرانية، لكن الأمر لم يتّخذ منحًى جديًا ، ولم تكن هناك استجابة أو قبول أو ثقة.
مع صدّام حسين
قلت له أن مكرّم الطالباني أخبرني أن العلاقة بينه وبين صدّام حسين شابها نوع من الفتور إثر الالتباس الذي حصل بشأن جواب إدارة الحزب الذي وصله من مصدر آخر، لكنها عادت بعد برود استمرّ عدّة سنوات، علمًا بأن مكرّم ظلّ يكتب له بين فترة وأخرى. وأخبرني كذلك أن لديه 23 رسالة من صدام حسين وبخط يده وعليها ترويسة الرئاسة الرسمية، وعندما قلت له لماذا لا تنشرها، أجابني أنها ضمن مذكّراته التي اتفق على نشرها مع جهة إعلامية وسياسية، لكنها لم تصدر حتى الآن. وسألته عن مذكّراته التي سمعت أنها نُشرت في إحدى الصحف الكردية على حلقات أو نشرت أجزاء منها. أجابني أنه أنجزها بالفعل وتحت عنوان “الحياة لا تجري دومًا حفيفة ناعمة” وذلك منذ العام 2011. وهي مكتوبة بخط اليد.
قلت له أن خالد حسين سلطان أطلعني على نصّ مأخوذ منها بشأن الموقف من أحداث كركوك العام 1959 وقد اقتبست منها فقرة تنمّ عن موقف نقدي متقدّم لما هو سائد لدينا ، والذي بتقديري يحتاج إلى مراجعة جادّة.لا شكّ أن نشر مذكرات مكرّم سيكون له أثر كبير في تاريخ الحركة الشيوعية خصوصًا والحركة الوطنية عمومًا
فمكرّم الطالباني شخصية فكرية وسياسية واجتماعية معتدلة ولها وزن كبير على الصعيد العراقي (العربي والكردي) والعالمي، فقد احتلّ مواقع وظيفية وسياسية متقدّمة وخلال فترة بين 1972 – 1979 كان وزيرًا ، إضافة إلى موقعه في قيادة الحزب الشيوعي، علمًا بأنه تعرّض للسجن أكثر من مرّة وقضى أكثر من 7 سنوات فيه (5 منها في العهد الملكي). وقال لي أنه دافع عن الرفيق فهد بعد أن تخرّج من كلية الحقوق العام 1946? لكنه اعتُقل هو بعد حين وحُكم عليه.
كما اعتقل بعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963? ونُقل إلى سجن نقرة السلمان ، وفي أواسط الستينيات وحين أصبح صبحي عبد الحميد وزيرًا للداخلية أرسل في طلبه فاستُقدم من سجن نقرة السلمان إلى بغداد، وحين قابله خاطبه قائلًا : لا يصحّ أن أكون وزيرًا وأنت معتقلًا، فأصدر أمرًا بإطلاق سراحه، ولكن مكرّم كما أخبرني، رفض الخروج من السجن إلّا بالإفراج عن عدد من أقاربه ،وهم بسببه كانوا قد اعتقلوا، وهو ما تمّ بالفعل بعد أن اتّصل صبحي عبد الحميد برئيس الوزراء طاهر يحيى وطلب منه أن يصدر أمرًا بإطلاق سراحهم، وتلك إحدى مفارقات زمننا اللاحق فقد افتقدنا إلى مثل تلك المبادرات حتى وإن كانت محدودة وشخصية.
سألني نوري عن الحزب الشيوعي اللبناني، فقلت له الحال من بعضه، واستذكر صداقته التاريخية مع كريم مروّة، و جورج البطل، الذي قال عنه أنه شجاع ونقي ومنفتح، وعلاقته مع يوسف مرتضى ونشاطه في التضامن الأفرو – آسيوي، واتفقنا على الحيويّة التي كان يتمتّع بها الحزب، لكن انهيار الاتحاد السوفيتي واختلال موازين القوى العالمي وصعود قوى أخرى، لاسيّما التيار الإسلامي أضعف من دور الحركة الشيوعية وتأثير ها، فقد عاشت أزمةً فكريّةً وسياسيةً وتنظيميةً ونكوصًا ذاتيًا قياديًا أدّى إلى تخلّفها كثيرًا وتراجعها، على الرغم من التضحيات الكبيرة والمعاناة الشديدة التي عاشتها بسبب القمع المزمن الذي تعرّضت له والإقصاء والتهميش الذي عانت منه، وليس بعيدًا عن أخطائها. واستعدنا قولًا طريفًا كان الراحل عزيز شريف يردّده بقوله: نحن الشيوعيون مثل راكب الدرّاجة لا نستطيع أن نتوقّف، نسير ونسير لاعتقادنا أن الوقوف يؤدي إلى سقوطنا كما هو راكب الدرّاجة. ونحن بحاجة إلى مراجعة في ما يتعلّق بالاستراتيجية والتكتيك والتحالفات وأساليب الكفاح الجديدة، والعلاقة بالمجتمع الدولي، ومفهوم الحزب وقواعد العمل التنظيمية ، فالمسافة بيننا وبين كتاب لينين “ما العمل؟” تزيد عن قرن وعقدين من الزمان، ناهيك عن قراءة المستجدات والتطورات الحاصلة في العالم بما فيها الطور الرابع من الثورة الصناعية.
حين ودّعت نوري شعرت بأنني كنت في زيارة للتاريخ وبقدر ما فتحت هذه الدردشة من قضايا فيها الكثير من الاستعادات والاستذكارات والهموم، فإنها في الوقت نفسه أنعشت روحه لأنها لامست شغاف قلبه وكانت قريبة من عقله واتفقنا على استكمال هذه الدردشات عند كلّ زيارة لي إلى القاهرة، وتمنيت أن ألقاه وهو في راحة بال وصحة وعافية، ونحن على أبواب العام الجديد.
