في بلد سهر الورد سحر الورد ….
مؤيد داود البصام
عندما وصلتني رواية (سحر الورد) من الصديق الروائي والكاتب المبدع نضال الصالح، خطر لي الهاجس الذي دائما ما يأتيني عندما يصلني عملا من الاصدقاء عبر الانترنيت وانا اقلبها على الشاشة،( أنا ورقي القراءة)، ولكن ما أن بدأت حتى جرتني للاستمرار متناسيا ومتتبعا القراءة على الشاشة ومتاعبها للعيون التي اتعبها السهر مع عشاقها في قصصهم وحكاياتهم وكتاباتهم.
رواية (سحر الورد ) كما هي رواية (حبس الدم) التي سبقتها، والتي سبق ان كتبنا عنها، قصة المدينة التي يعشقها الراوي صاحب الروايات الثلاثة والقاص والباحث لعشرات الدراسات النقدية والثقافية والتنظيرية، جاءت الرواية في 168صفحة والصادرة عام 2022 عن دار “الآن ناشرون موزعون” .
وقائع السرد….
تاخذ الرواية مصادرها من الواقع المعاش الذي عاشه الكاتب واهل مدينة حلب طيلة سنوات الحرب الضروس التي شنتها القوى الامبريالية مجندت ذيولها للقتال بالإنابة عنها في تدمير بلد الجمال والحب والزهور، وهنا تكمن صعوبة كتابة رواية عن احداث ما زالت قائمة، بالمكان والزمان والشخوص، متنها ومنبع حكايتها حوار حضاري بين قطبين يمثلان روح حلب والشام ونقاء الانسان في هذه البقعة من الارض من كل العصبيات والمتمثلة بروح التسامح والمحبة دون تفريق بين قومية أو دين أو مذهب، متمثلة بالعائلة المسيحية بشخص الدكتورة ورد القصَّار أو ” سَهَرُ الورد ” المسيحية الأرثذدوكسية ذات الانتماء العروبي ، الدكتورة في الأنثروبولوجيا من جامعات فرنسا ، والمحلقة في الانتماء لسوريا تاريخا وتراثا والمرتبطة حياتها ومستقبلها بها، وعشقها لحلب مدينتها ، وذات مستوى ثقافي عالي، والتي تتوائم في هذه الصفات مع ندها دكتور يحيى المهندس بن حسيب بن حسن الحلوي المسلم والمثقف أيضاً كما يتبين لنا من خلال الافعال والرؤى، الممثل المقابل لهذا الحوار الحضاري عبر علاقة الحب التي ربطتهما، ليأتي التداخل التاريخي بين الحاضر والماضي بشخصية الشيخ شهاب الدين السهروردي الملقب بابي الفتوح(فيلسوف إشراقي، شافعي المذهب، ولد في سهرورد الواقعة شمال غربي إيران، وقرأ كتب الدين والحكمة ونشأ في مراغة وسافر إلى حلب وبغداد، عرف عنه حلبي الهوية والهوى)، لتضعنا الرواية في المفارقة التاريخية أن الاحداث تعيد نفسها على هذه المدينة، وبها حاول المؤلف أن يكشف عن وجه التاريخ بكل حسناته وسيئاته، لما حدث ويربطه بما يحدث للمدينة وأهلها، بخفة تسلسل في دمج الحاضر بالماضي دون أن يجعله درسا في التوثيق التاريخي، أنما سرد أختلط النثر بالشعر ليمنحنا دسامة اللغة في موسيقى الاحساس بعالم الواقع من دون أن يثقل علينا الشعور بحمل مجريات التاريخ.
لا نستطيع أن نقول أنها رواية تأريخ مدينة، بقدر ما هي تتحدث عن مدينة لها تاريخ يمتد عبر العصور، عاشت الاهوال والحروب والاحتلالات، ولكنها خرجت ويقال عنها (حلب الشهباء)، وهذا الماضي العريق رسخ بنائها الحضاري وشكل وجودها المملوء بالجمال والحب، وحكاية ورد ويحيى هي نتاج هذا السحر الملازم لها، والذي يكشفه السر المتنامي على وقع الرصاص والقنابل والخراب، وكذلك نقل لنا تاريخ الواقع الاجتماعي الذي اودى بحياة عالم من علمائها بالحسد والنميمة، وقارن بما يحدث من حسد ونميمة وتهالك للاضرار بالأخر عبر الاشاعة وتلفيق الحديث وبالذات في اهم مرفق من مرافقها الحضارية (الدراسات العليا)، كل هذا ضمن حركة السرد المتنامية بين ماضيا يعيش الحاضر وحاضرأ ينقل ما حدث من متشابه في الماضي، وعبر هذا التواشج بين الحبيبين يكشف لنا عن البعد الثقافي والانساني الذي تتمتع به المدينة في النظر للإنسان ببعده الانساني والجمالي، لا تغتصبه الافكار المتعصبة او الفئوية أو النظرة المحدودة للعلاقات الانسانية.
البناء الهندسي للسرد…
يعاود السارد نضال الصالح كما في روايته (حبس الدم) هندسة البناء السردي لمتن الحكاية، عبر المبني الحكائي ببناء هرم يشكل منه المبنى الحكائي للمتن باوجهه الثلاثة، فتكون الصياغة التي تتناوب بين الاطراف على صفحات الهرم (ورد) التي تبدء الحكاية وتنهيها، ويحيى الوجه الثاني للهرم عبر صوت (كأن الريح)وفي كلا الوجهين للهرم يختلط صوت ورد ويحيى مع صوت الشيخ القتيل السهروردي، ثم الوجه الثالث للهرم صوت السهروردي واشعاره(أشراق) وما اخبرتنا عنه الكتب في محنته والدسائس التي اوصلته للموت مع اصوات المؤرخين بكل ما حملته كتب التاريخ بعنوان ( المؤيد بالملكوت) وفيها ما يستعيد تاريخ حلب عبر مساجدها وكنائسها ويستعيد التاريخ وصولاً لمحنتها المعاصرة، بعنوان (نهر الذهب)مؤرخا مبانيها واعظم ما فيها من مآذن ومساجد وكنائس، وكما كتب الروائي حمزة الحسن في خواطره ( أن الواقع ليس ما تراه بل ما لا تراه لأنك ترى السطح ولا ترى شبكة العلاقات الخفية التي تكون صورته الحقيقية)، أذ ينقل لنا حالات مختلفة للعلاقات الشائكة التي فرضتها الحرب في الماضي وفي الحاضر، في مفارقات من أجل أنتزاع الروح الحية للمدينة وتحويلها لمدينة تاكلها الاحقاد والضغائن وتسود الروح الفردية بديلا عن روح الحب والتسامح الجماعية.
تقنية السرد…..
بمهارة السارد يتحرك السارد ضمن تعدد الاصوات ، ناقلا وقائع الحاضر رابطاً أياها بما حدث في الماضي، عبر لغة موسيقية سلسة شعرية، مع الاستشهاد بكشف وقائع التعصب الديني والعرقي الذي يحاول أعداء المدينة فرضه قسرا على الواقع الاجتماعي لتخريب البنية الاجتماعية في التنوع والاختلاف واحترام هذا التنوع والاختلاف عبر التاريخ، جاء عبر تعدد
الاصوات في الرواية:
- سهر الورد
- يحيى
- مؤرخو سيرة السهروردي
صوت السهروردي وآرائه عبر مقاطع من اشعاره.
صوت مؤرخي حلب ومثقفيها الذي يستعيد تاريخ عمران ومساجد وكنائس بقاع حلب.
وهذا ما يضعنا امام عمل روائي متكامل بعناصره المتعددة، وفي قدرته على تحريك الحبكة عبر النثر والشعر والتضمين وبث الافكار المتجانسة بين مجموع الاشخاص، وطرح الافكار التي حاول السارد الرئيسي ان يوضحها عبر شخوصه وعلى لسانهم وبوضوح الزمان والمكان، ألا اننا نتوقف للبحث عن الفعل الدرامي الذي يجب أن تقدمه لنا الرواية حتى تخرج من نطاق الحكاية او (الحتوته)فعند تحليلنا للعمل سنجد أولاً: اننا امام نقل حكاية عن مدينة لها تاريخها وماضيها، في حركة التمدن والحضارة على مدى البعيد والقريب من التاريخ، بكل الابعاد الحضارية، الا انها ابتليت بمن يريد تخريبها وتهديم بنائها، فيتجه إلى علمائها ومرسخي حضارتها( الشيخ شهاب الدين السهروردي ) حتى يتمكنوا من أقصائه، وبالمقابل هناك في العصر الحديث بما ضرب لنا من أمثلة عمل على تخريب البحث العلمي المتمثل (بالدراسات العليا) ، ثانيا: أبرز لنا حالة من حالات التحضر وروح التسامح والفهم الانساني لاختلاف الاتباع الديني او القومي وبقية المسميات دون ان تمس في جوهر الانسان وعلاقة الانسان بالانسان الآخر بغض النظر في الاختلاف الذي عمل أعداء حلب وسوريا على جعله الترسانة التي يختبوا خلفها لبث سمومهم، فكانت ، وظلت علاقة ورد مع يحيى شاهد على عمق وصلابة وجودها تمثلت بعودة ورد إلى يحيى حين قررت المغادرة. وهي حالة ليست بالغريبة او تحمل شيئاً من الغرائبية ، فهي حادثة تتكرر في حياة شعوب هذه المنطقة وبالذات في حياة أبناء سوريا وحلب.
وهنا السؤال هل نستطيع من تجنيسها رواية على الرغم من اكتمال كافة الشروط وعناصر الرواية الا الفعل الدرامي ، رواية (سهر الورد) تضعنا في وقفة تامل لوضع تجنيسها، فهي رواية بكل الابعاد، الا انها تفتقر إلى الفعل الدرامي الذي يحدد جنسها عن بقية الاجناس السردية، ممكن أن تكون رواية تاريخية ، لكنها ليست رواية تاريخية انما تتكأ على التاريخ لاثبات الحاضر، طبعا أنا اكتب بمواجهة كاتبها أحد أساطين الادب والرواية عمليا ونظرياً، فله عشرات الدراسات والنقودات نظرياً، وامامنا الرواية الثالثة عملياً.
ولسوق أمثلة على الفعل الدرامي ( حسب راينا) للرواية بخلاف القصة القصيرة ( الومضة)الجريمة والعقاب لدستويفسكي، الفعل الدرامي كشف نهاية الصراع بين الفكر الاقطاعي لحلول المشكلات الحياتية وظهور المجتمع الصناعي بافكار مغايرة وذات أبعاد مادية صرفة،( البؤساء، لفكتور هيجو) نقطة التحول الدرامي في تفكير المفتش الذي اعتقد انه مناصر للحق، واستهجانه أن يكون محكوم بسرقة من الطبقات الدنيا هو من كان يعمل للحق والخير….الخ والامثلة كثيرة مما تزخر به الرواية في العالم، لحظة القطع بين ماضي وحاضر. وكأن الراوي أراد أن يقول لنا…
شَآمُ يا ابْنَةَ ماضٍ حاضر ابداً كأنّكِ السيفُ مَجْدَ القولِ يَخْتَصِرُ
حَمَلْتِ دنيا على كَفَّيْكِ فالْتَفَتَتْ إليكِ دُنْيا وأَغْضَى دُوْنَكِ القدرُ