سردية قصيدة الملحون: قصة الحراز
يتميز شعر الملحون عن مقابله الفصيح بالمغرب بعدة سمات أجملها على النحو التالي: عدم خضوعه للتقاليد التي تكرست في التجربة الشعرية العربية العمودية، من جهة، وتحرره من قيود الأغراض القديمة، وارتياد موضوعات تتصل بالحياة اليومية، من جهة ثانية، واختراعه عروضَه وأوزانه الخاصة به، من جهة ثالثة، واتصاله بالإنشاد والغناء، من جهة رابعة. هذا إلى جانب كون لغته وسطى بين الفصحى والعامية، فجمعت بذلك أجمل ما فيهما من دقة في التعبير، وصفاء العبارة، وانتقاء المفردات الجميلة صوتيا ودلاليا. لكل هذه الاعتبارات أعده الإبداع الحقيقي التي تفتقت عنه القريحة المغربية، وعبرت بوضوح عن واقعه، ومتخيله، ورؤيته للعالم، وجعلته بذلك متميزا عن الشعر العربي في المشرق أو الأندلس. ومن أراد معرفة الشعر المغربي فعليه بالملحون.
لم يحظ هذا الإبداع قديما بالاهتمام لدى المنشغلين بالثقافة المغربية، فلم يدون منه إلا القليل، ولم تنتبه إليه كتب تاريخ الأدب، وظل مبعدا من دائرة اهتمام الثقافة العالمة، ولكن عشاقه بذلوا الجهد في جمعه والتعريف به، وتدوينه. وعلى رأسهم البحاثة محمد الفاسي الذي يرجع إليه الفضل في تسليط الضوء عليه، وعلى نصوصه، وأعلامه، ووضع عروضه، ومصطلحاته في معلمة المغرب في عدة مجلدات صدرت عن منشورات أكاديمية المملكة. وواصل عباس الجراري مع نخبة من الباحثين العمل على إصدار أحد عشر ديوانا من عيون شعر الملحون من حقب مختلفة. بدأ يتزايد الاهتمام به منذ الاستقلال من خلال باحثين أفردوا له حيزا في برامج الإذاعة، وبعد ذلك في التيلفزيون، ومنهم شعراء يعرفون أسرار الملحون، ومن بينهم الشيخ أحمد سهوم. وانشغل به باحثون وأكاديميون من خلال إعداد دراسات وأطاريح تتناول بعض قضاياه وخصوصياته الفنية والثقافية. لكن كل هذه المجهودات ما تزال عاجزة عن إيفائه ما يستحق من عناية، سواء على مستوى الطبع أو البحث. وأعتبر الاهتمام به باعتماد الدراسات السردية الجديدة كفيل بتطويرها، وجعلها تنفتح على مسائل مختلفة لما هو سائد نظريا وتطبيقيا في الأبحاث المعاصرة.
نظم في هذا الشعر فقهاء، وحرفيون، وأمراء وملوك (السلطان عبد الحفيظ مثلا له ديوان شعري)، وفنانو فضاء الساحات العمومية (الحلاقي). واحتضنته بيئة الحواضر بصورة خاصة، لذلك نجده متميزا عن الفنون الشعبية الغنائية في البادية. وعلى رأس هذه الحواضر: فاس، مكناس، سجلماسة، مراكش، آسفي، تلمسان. ومن أشهر النصوص الأكثر حضورا وانتشارا إلى الآن على مستوى السماع، نجد قصيدة الشمعة، ويا لطف الله الخافي، والدمليج والخلخال، وسواها. لكن على رأس كل هذه القصائد، في رأيي، نجد: الحراز التي أراها أيقونة الملحون المغربي.
الحراز هو الشخصية التي تحرز (تمنع) المرأة عن الظهور. فلا يراها أحد من الناس، ولا شغل للحراز إلا حراستها من أن يظفر بها أحد ما. والقصة تتخذ عدة أبعاد واقعية ورمزية. وتتجلى من خلال عدة صيغ، أعمها: الحراز الشيخ يحرس فتاة جميلة وصغيرة في السن. لها عاشق، والحراز إما خاطب لها، أو متزوج بها. هي لا تحبه، لأنه تزوجها أو نالها بدون رضاها. ولكنه يمنعها من مبتغاها وهي الاتصال بعاشقها. والعاشق يحتال عدة مرات، متخذا صفات تنكرية كثيرا، يكتشفها الحراز، وتكون النهاية الظفر بالعشيقة.
أول قصيدة في هذا الموضوع كانت للشاعر الجيلالي امتيرد في منتصف القرن التاسع عشر (1850)، وآخر قصيدة في الموضوع نفسه للشاعر حسن اليعقوبي السلاوي (1955). نظمها إبان نفي محمد الخامس، محملا إياها دلالات تمتح من هذا السياق الوطني. وبين الزمنين أحصى محمد الفاسي حوالي خمسين قصيدة تدور في الفلك نفسه لشعراء متعددي المشارب والميولات، وكل يحملها دلالات خاصة، ويبدعها بكيفية تتلاءم مع خصوصية تجربته الشعرية. لكنهم جميعا يشتركون في صياغتها على نحو بديع لغويا وإيقاعيا ودلاليا. وما تزال إلى الآن تغنى، وتقدم لنا اليوتيوب عدة تسجيلات خاصة بها لرواة متعددين. من بين هؤلاء الرواة: الحسين التولالي، لطيفة رأفت، وأوركسترا عسري، وغيرهم من المغرب، والهاشمي كَرباوي، وعمر الزاهي من الجزائر. ويعتبر محمد الفاسي نظم الشاعر علي البغدادي أحسن القصائد. لكن أكثرها ذيوعا وانتشارا هي قصيدة المكي واجو الزموري. وفي رأيي من الصعوبة بمكان القطع بأفضلية قصيدة على أخرى لأن لكل منها ملامح مميزة، تجعلها مختلفة عن غيرها. لذلك فالقراءة السردية المقارنة هي التي تمكننا من الكشف عن خصوصية أي منها. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما الذي يجعل تيمة الحراز تتحول إلى نص سابق، تتعلق به كل النصوص اللاحقة، ويحاول كل منها أن يبدع على طريقته الخاصة، ساعيا جهد الإمكان إلى وضع بصمة خاصة به على هذا الموضوع؟ إنه سؤال التفاعل النصي في النمط الخاص بالتعلق النصي.
أما السؤال الثاني الذي يمكن أن تهتم به السرديات، فهو: كيف يمكن لمادة حكائية واحدة (القصة) أن تتحقق من خلال خطابات سردية متعددة؟ وفي سياقات زمانية مختلفة؟ يجرنا هذا السؤال إلى إعادة النظر في العلاقة بين القصة والخطاب من خلال استكشاف خصوصية العلاقة بينهما وهي تتحقق من خلال نصوص متعددة.
إذا كان سؤال العلاقة بين القصة والخطاب، والعلاقة بين النص السابق واللاحق يرتبط أولهما بالخطاب، والثاني بالنص، فإن هناك سؤالا ثالثا يمكن أن يثار حول تاريخ النص، وهو يتطور في الزمن من 1850 إلى 1955: كيف تطور إنتاج «قصيدة الحراز» مع الزمن. ولعل سرديات التاريخية هي التي يمكن أن تجيب عن هذا السؤال المتعلق بتطور تجربة سردية محددة، وما يطرأ عليها مع الزمن، من خلال انطلاقها من القصة والخطاب، والتعلق النصي. ويفرض علينا سؤال رابع نفسه في هذا النطاق، وهو يتصل بـ«نوع» سردي، والذي يمكن أن نصوغه على النحو التالي: كيف ومتى يمكن أن تتحول تيمة أو موضوعة سردية إلى «نوع سردي»؟ فهل كل تيمات النصوص تتحول إلى نوع خاص ينخرط في الكتابة فيه مبدعون. ولنا في الرواية البوليسية مثلا نموذجا لذلك. فالبحث عن المجرم هو التيمة المركزية، ولكنها تحولت إلى نوع أبدع فيه الكتاب، وتفننوا فيه. فهل يمكننا الحديث عن نوع سردي اسمه «الحرازية»؟ نبحث في نشأته، وتأريخ تطوره، ونوعيته، وسرديته، ونصيته؟ هذا إلى جانب السرديات المقارنة التي تعمل على اتخاذ متون في حقبة معينة للمقارنة بينها.
إن تعدد القضايا التي تثيرها قصيدة الحراز تجعلنا فعلا أمام مباحث متعددة لم نتطرق إليها لأننا لم نفكر فيها من منظور السرديات كما عملتُ على الاشتغال بها. ويبدو لنا غنى سردية قصيدة الحراز في أنها ما تزال إلى الآن تفرض جماليتها على متلقيها. بل إن سحرها جعل الطيب الصديقي يحولها إلى نص مسرحي يمكن اعتباره من بين أهم المسرحيات، ليس المغربية فقط، بل العربية أيضا. لقد تفتقت عبقرية الصديقي فحولت هذا النص من الحلقة التي كانت هي الأصل في إنتاج الشعر الشعبي المغربي إلى الركح، فلم تقل إبداعية المسرحية عن القصيدة ـ القصة. ويكفي أن فرقتي ناس الغيوان وجيل جيلالة وغيرهما في السبعينيات قد خرجت من معطف قصيدة الحراز وقد حولت إلى خطاب الخطاب المسرحي لتأكيد أن الأصالة المغربية لها عبقريتها وتاريخها.
*كاتب من المغرب