العراق الجديد: مكافحة الفساد أم تشريعه؟!
أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، أن مكافحة الفساد والإصلاح الاقتصادي من أولويات الحكومة. وأن الفساد هو التحدي الأول الذي تواجهه حكومته. كما كشفت هيئة النزاهة الاتحاديَّة، في العراق، عن أوامر القبض والاستقدام الصادرة، في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2022، التي شملت « 68 من كبار المسؤولين من ذوي الدرجات العليا» بضمنهم وزير الثقافة الأسبق ومدير مكتبه، بتهم فساد مختلفة، والتي تلت إصدار أوامر بالقبض على 4 مسؤولين سابقين بينهم وزير مالية، ومقربون من رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، لاتهامهم بـ “تسهيل» الاستيلاء على 2,5 مليار دولار من الأمانات الضريبية، أو ما أطلق عليه « صفقة فساد القرن».
هل تعني تصريحات رئيس الوزراء هذه، وأوامر إلقاء القبض والاستقدامات، أن العراق مُقبل على التشافي من فيروس الفساد الذي جعله يُصنّف، بجدارة، في العقدين الأخيرين، ضمن الدول الأكثر فساداً في العالم، حسب مؤشرات مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية؟ وهل سيختلف السوداني، من ناحية معالجة البلد من الفساد، عن غيره من رؤساء الوزراء الذين تعاقبوا على حكمه، منذ غزوه واحتلاله؟
تزودنا تفاصيل خطب رؤساء الوزراء الذين سبقوا السوداني ووقائع ما تم تنفيذه، على أرض الواقع، بصورة أبعد ما تكون عن التفاؤل. بل وتقودنا، عند رصد الأعراض المزمنة إلى خلاصة مفادها أن فيروس الفساد، عند توفر البيئة الملائمة، يواصل الاستشراء ولكن بتحويرات جديدة، تمنحه البقاء، مع كل رئيس وزراء جديد.
ولنعد إلى الوراء قليلا. في مراجعة سريعة لسجل من سبق السوداني من رؤساء الوزراء، سنجد أن تصريحاتهم، جميعا، بلا استثناء، مطلية بوعود محاربة الفساد. وكأن الفساد لعنة آلهة مجهولة أو مادة مصدرة من أماكن نائية في العالم أو نقمة الطبيعة وليست ممارسة ساسة يجدون في الفساد آلة لتفكيك الدولة وإحكام هيمنتهم عبر بدائل يرون فيها مصلحتهم. ولعل أبرز ما يميز تعامل الحكومات المتعاقبة، هو اتهام كل حكومة جديدة سابقاتها بالفساد وإصدار أوامر اعتقال نادرا ما تُطبق أما لكون المتهم ينتمي إلى حزب متنفذ أو هارب ليتنعم بما سرقه خارج العراق.
ولنبدأ بحكومة إبراهيم الجعفري (2005 ـ 2006). حيث استّهل خطابه الأول مشيرا إلى « قضايا الفساد الإداري وما يفرزه هذا الفساد من معـوقـات على صعيد التنمية والسبل الكفيلة بمعالجته وعلاقة الفساد بالوضع الأمني المتدهور». ثم أمر بإصدار مذكرات توقيف بحق اثنين من وزراء الحكومة السابقة «. ولم يتم ذلك بل أن الجعفري نفسه الذي تم تعيينه وزيرا للخارجية واجه اتهامات» فساد مستشر في سفارات العراق في الخارج، وهدراً لأموال الدولة، فضلاً عن المحسوبية والوساطات في أروقة وزارة الخارجية». واعتبر حيدر العبادي (2014 إلى عام 2018) أن الفساد تهديد يضاهي الإرهاب، واعدا بمكافحة هذه الآفة ولو كلفه الأمر حياته، مشيرا إلى أن الحكومة تدفع رواتب نحو 50 ألف جندي غير موجودين.
محمد شياع السوداني في مسيرة المزايدات بمكافحة القضاء على الفساد، يكرر ذات الأسطوانة المُهينة للشعب، فيلقي الخطب ويُوجه بتشكيل هيئة عليا لمكافحة الفساد، كبديل للجنة العليا لمكافحة قضايا الفساد التي شكّلها الكاظمي، وكأن تغيير الاسم سينظف البلد من شبكة الأحزاب والميليشيات
وعند مقارنة إجراءات هيئة النزاهة اليوم بالأمس سنجد أن رئيس الوزراء نوري المالكي (2006 ـ 2014) هو الأب الحقيقي لسيرورة الفساد تحت ستار النزاهة، متفوقا بذلك على نهب الشركات الأمريكية وعقودها الخيالية. ففي27 -5-2009، أعلنت هيئة النزاهة حملة «مكافحة التلاعب بالمال» العام في المؤسسات الحكومية. وأصدرت 387 أمر اعتقال في إبريل/ نيسان وحده، مؤكدة أن الحملة ستشمل ألف مسؤول بسبب الفساد. وأن الحكومة لن تلتزم الصمت إزاء الفساد بعد اليوم وستلاحق جميع الفاسدين وستقدمهم للعدالة. لكن ما لم تذكره البيانات الحكومية الصادرة من مكتب المالكي أن حملة الاعتقالات كانت لتعزيز طائفية حكومته وحصر العقود بأنواعها بين أتباعه لأحكام هيمنة حزبه على المؤسسات.
وفي 10 مارس 2019، لم يُشر رئيس الوزراء الذي تلاه عادل عبد المهدي (25 أكتوبر/ تشرين الأول 2018 ـ ديسمبر/ كانون الأول 2019) إلى خلطة الطائفية والمحاصصة والفساد السامة، بل توقف عند الفساد لوحده، متحدثا عن وجود أكثر من 40 ملفاً ضمن ما أسماه « خارطة الفساد» وتغطي كل مؤسسة في الدولة وكل جانب من جوانب الحياة في البلد من تهريب النفط إلى الاتاوات و «القومسيونات» والسجون ومراكز الاحتجاز والمخدرات وتجارة الآثار إلى مزاد العملة والتحويل الخارجي وبيع المناصب
والعقود الحكومية والكهرباء والوظائف الوهمية والاتجار بالبشر. والمفارقة أن تم مناقشة الخارطة في مجلس النواب برئاسة محمد الحلبوسي (الذي لايزال في ذات المنصب) وحضور رئيس الجمهورية، برهم صالح « لمناقشة توحيد جهود مكافحة الفساد الإداري والمالي الذي بلغ حجمه في تسعة آلاف مشروع حكومي، بنحو ثلاثمئة مليار دولار أمريكي. ولم تتم استعادة دولار واحد من تلك السرقات. أعقب ذلك تعيين مصطفى الكاظمي رئيسا للوزراء (7 أيار 2020 حتى 13 أكتوبر 2022). حيث، وكما بات مألوفا، تم توجيه تهم الفساد إلى حكومة المهدي حالما شرع الكاظمي بإلقاء الخطب عن محاربة الفساد وتفعيل دور الأجهزة الرقابية المختصة واعتقال عدد من مسؤولين صغار بدون مس الكبار، وتشكيل لجان محاسبة أصبحت هي نفسها، عبر السنوات، جزءا من منظومة وملهاة الفساد.
وها هو محمد شياع السوداني في مسيرة المزايدات بمكافحة/ محاربة/ القضاء على الفساد، يكرر ذات الأسطوانة المُهينة للشعب، فيلقي الخطب ويُوجه بتشكيل هيئة عليا لمكافحة الفساد، كبديل للجنة العليا لمكافحة قضايا الفساد التي شكّلها الكاظمي، وكأن تغيير الاسم سينظف البلد من شبكة الأحزاب والميليشيات المتنفذة خارج نطاق القانون والمافيات القريبة منها. وكما بات مألوفا، أيضا، أصدر الكاظمي بيانا يدين فيه اتهام واعتقال مسؤولي حكومته ليتهم بدوره إجراءات السوداني واصفا إياها بأنها كيد « يكشف محاولات التستر المستمرة على المجرمين الفعليين، وهروب إلى الأمام واستهداف خصومٍ سياسيين» مضيفاً «ما جرى ليس سوى استحضار عرض إعلامي وسياسي، ومحاولة خلطٍ للأوراق للتستر على السرّاق الحقيقيين، بدلاً من السعي الجاد لإحقاق العدالة وكشف الحقيقة».
المضحك المبكي أن تحمل تصريحات رؤساء الوزراء كلهم الحقيقة حالما يُتهمون بالفساد ليس لتنظيف البلد من الفيروس المستوطن ولكن لتوجيه الأنظار بعيدا عن دورهم المنهجي في نشر الفيروس. ولعل السوداني، يتهيأ من الآن بإعداد بيان يتهم فيه من سيليه بالكيد والتستر على السراق الحقيقيين. فالكل يلتهمون وجبات الفساد والاختلاف الوحيد بينهم هو حجم اللقمة.
كاتبة من العراق