لا بيروت في بيروت!
من زمان أصدرت كتابي الثاني بعنوان “لا بحر في بيروت”، واليوم أكتب بكل أسف أن بيروت صارت مدينة شبه منكوبة.. التيار الكهربائي توفي ويعيش المرء على ضوء الشموع كما من زمان، إذا لم يكن يملك ثمن محرك كهربائي لتوليد الضوء إلى جانب ثمن (المازوت) لتغذيته كل شيء تدهور، والليلة اللبنانية انهارت وفقدت قيمتها والبنوك أغلقت أبوابها وصارت ترفض إعادة المال إلى الذين وثقوا بها وأودعوا فيها أموالها.. (كمن يرمي بها في البحر!).
المغتربون يتوقون للعودة إلى بيوتهم في بيروت ولكن بيروت لم تعد بيروت..!
بيروت تكافح لتستمر
ماتت الكهرباء في بيروت، والبنوك، ولم يتم انتخاب رئيس لجمهوريتها حتى لحظة كتابة هذه السطور. لا وزارة جديدة تهتم بأمورها ولكن بيروت تحاول دائماً أن تجد أسلوباً للاستمرار كمدينة حضارية!
تريد إرسال نقود لم تودعها في البنك لحسن حظك ويهمك إرسالها إلى ابنتك/ ابنك الذي يتابع دراسته في جامعات الغرب؟
اخترع اللبناني وسائل وشركات لإيصال المال عن غير طريق البنوك (المرحومة)! وهكذا نشأت شركات تستلم المال منك في بيروت وتوصلها إلى ابنك في الغرب.. هذا إذا كنت تملك المال في بيتك وليس في (المرحومة) البنوك.
أعوام من الشوق!
لم يسبق لي أن انقطعت عن زيارة بيروت من مكان إقامتي في باريس.. منذ حوالي ثلاثة أعوام لم أذهب إليها. لأنه لا بيروت في بيروت، التي تحولت من عاصمة عربية للفرح إلى مكان للكآبة والمخاوف الليلية في الظلام. كم أفتقد التسكع في شارع الحمراء، ومقاهيها وأناقة الثياب في واجهاتها وبسطة بائع الصحف أمام الأرصفة والمكتبات والمقاهي التي أغلق معظمها أبوابه وتوقف العديد من الصحف عن الصدور. وباختصار: بيروت لم تعد بيروت!.. وإذا ركبتُ الطائرة غداً إلى بيروت وهبطت فيها فلن أجد بيروت التي عرفت.
أين الوزارة ورئيس الجمهورية؟
في مناخ كهذا تعذر منذ أشهر انتخاب رئيس للجمهورية ووزارة جديدة، ونشطت الاغتيالات كاغتيال شاب من آل سليم وصار كل من ليس معنا هو ضدنا ولا بد من إلغائه بالاغتيال.. التلفزيون الفرنسي قدم برنامجه “مبعوث خاص” لهذا الأسبوع (وقت كتابة هذه السطور) عن الوضع في بيروت وبالذات البنوك.. لكن بيروت تظل تحتال على الموت لتستمر. وبدلاً من تحويل المال إلى الأبناء الذين يدرسون في الغرب يتم تحويل الأموال إليهم عن طريق شركات جديدة تقوم بالمهمة، وصحيح أنه لا بيروت في بيروت لكنها لن تموت!
«لا بحر في بيروت» حقاً!
في زيارتي الأخيرة قبل أعوام مشيت على رصيف (الكورنيش) الذي يطل على البحر.. وفوجئت حقاً بأنه لا بيروت في بيروت ولا بحر فيها.. فقد تم تشييد المقاهي على الشاطئ كما المطاعم وتمت سرقة منظر البحر خلافاً للقانون.. ومشيت حتى شاطئ الرملة البيضاء في بيروت ولم أر البحر إلا حين وصلت إلى رصيف ذلك المكان. أما شاطئ البحر في بيروت فوداعاً له. ولعلهم خلال الأعوام الثلاثة الماضية التي لم أزر فيها بيروت شيدوا فندقاً يطل على البحر في الرملة البيضاء وسرقوا بحر الفقراء من أجل بناء فنادق للأثرياء..
لكن مَنْ الذي يأتي لقضاء إجازته في مدينة لا كهرباء فيها؟
أبو القاسم الشابي والقدر
كلما حننت لزيارة بيروت أتذكر الشعر الذي كتبه ذات يوم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، وفيه يقول:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
فمتى تعود إرادة الحياة إلى لبنان، ومتى ينكسر القيد في بيروت، وفي طرابلس وصيدا وكل مكان في لبنان المنهوب المنكوب؟
الأمانة ظاهرة نادرة
ليت بعض الذين يحكمون لبنان يتعلمون الأمانة من أمريكية موظفة صغيرة تكدح للحصول على المال. فقد عثرت في الأرض على حقيبة فيها مبلغ 15 ألف دولار اسمها ديانا غوردن (65 سنة) وبدلاً من الاحتفاظ بالمال وتصليح سيارتها المعطلة لافتقارها إلى المال سلمت الكيس البلاستيكي الذي فيه المال المفقود إلى الشرطة!.. وكوفئت أمانتها بتبرعات لها بلغت أضعاف المال الذي وجدته على الأرض وهو خبر تناقلته وكالات الإعلام ونشرته الصحف بما في ذلك جريدة “القدس الأسبوعي” وبلغت التبرعات لهذه السيدة النزيهة متوسطة الحال أضعاف المبلغ الذي عثرت عليه وسلمته لرجال الشرطة..
متى يحظى لبنان برجال دولة على هذا القدر من النزاهة ورفض (سرقة) وطن بما في ذلك بنوكه وكهرباؤه وأموال شعبه؟