مسارات الحروف وكواليس الكتابة – القسم الأول- يوميات كاتب في المنفى
الحلقة الأولى : مسارات الحروف وكوالبس الكتـابة ك
( يوميات كاتب في المنفى )
د. خيرالله سعيد
* * *
مسارات الحـروف وكـواليس الكتـابة – القسم الأول – د. خيرالله سعيد
* * *
( يـــوميّـات كـــــــاتـب في المــــــنـفى )
* * *
” الحــــــــروفُ أئِــــمــــــــــــة الكــلـــمــــــــات ”
إبـن عـربي
* * *
الإهـــــداء: إلى الصـديق الشاعر والإعــلامي أحمـد اليـاسـري .
* * * ح 1
المقــــدمـة :
كـان صيف عام 2022 هـادئـاً، واللّـيل في كـندا، يغري الناس في السـيرِ والتـنـزّه ، وكانت ريـاضتي اللّـيلية تجذبني إلى التجوّلِ في شـارع ( Gladeston ) الطويل، وبعـد أن أقضي سـاعـة في الرياضة الليلية، أعـود إلى شـقّـتي، حيث سيتـم برنـامج قـراءاتي وكـتاباتي ، والذي يمـتـدُّ أحيانـاً إلى الثانية بعـد منتصف اللّـيل .
كانت الساعة تقتربُ من العاشرةِ مساء، إذ رنَّ هـاتف اللكمبيوتر، من خلال ” برنامج الرسائل الصوتية في – الماسنجر- في الفيسبوك ” . كان صوت الصديق الإعـلامي أحمد الياسري ، قـد باغتني في التحية والسلام ، وهـو يتحدّث من استراليـا ، قال : سلامات أيهـا العزيز أبو سعـاد . فردّيت السلام بأحسنِ مـنه، وبعـد ذلك خاطبني قائلاً : يا صديقي العـزيز ، كثير من الأصدقاء المحبيّـن ، وأنـا واحدٌ منهـم، نرى أن لـديكَ بُـخلاً علينـا، من الناحية الثقافية، ونحن نـود أن نقـرأ لك على الـدوام ، وأنت تنشر أبحاثك ودراساتك في المجلات الدوريـة ، ومراكز البحث الأكاديمية الصارمـة، ممـا يحرمنا من الإطـلاع عليهـا، نظراً لسيطرة ” وسائل التواصل الإجتماعي ” على كل حياتنـا، نـاهيك عـن إنشغالاتنا في الإعـلام ومتابعـة الأخبار ، والحضور الإعـلامي المتعـب، ولكن أحيانـاً نحتاج إلى ” تغييّـر الطقس الإعـلامي” الذي نحنُ فيه، فنحتاج إلى قراءة بعض الموضوعات التراثية، والدراسات الفولكلورية التي تقوم بإعـدادهـا والخوض فيهـا، ونحن نميل إلى إسلوبك الجميل في البحثِ والتقصي.
قلتُ : طيب ، ضع إسمي على محرّك البحث ” ﮔــوﮔـــل ” وستجد ما تريد قـراءتـه ! قـال : رفقـاً بنا يادكتور، فـنحن نـريد ما هـو في متناول اليـد ، أقصد، نريد أن نقـرأ على صفحتـك في ” الفيسبوك ” فما عـاد الوقت يسمح لنـا في العـودة إلى مصادر البحث، والتمسّـك بالإحالات المرجعية الأكاديمية، فرفقـاً بنا يا صديقي، هـذا أولاً ، وثانيـاً : ليس كل الناس – مثل حضرتك – لديهـم ” القرصاغ ” في التقصي والبحث والمطاولة في البحث والتنقيب، وهـذا الأمر ، لا يخصني وحـدي، بل يخص أصدقاء آخرين يـودّون الإطلاع على ما تكتب ، فياحبذا لو نشرت ” بعضاً من هـذه الدراسات ” على صفحتك في الفيسبوك ، لا سيما وأن بعض الباحثين ارادوا أن يطّـلعـوا على ” تجربتك الشخصية في البحث والدراسة ” فلا تحرمهم من ذلك ! قلت : وما ذا تقترح ! قال : تكـتب لنا عـن تجربتك الشخصية في ” أساليب الكتابة والبحث، والشروط الأكاديمية ” التي تلتزم بهـا أثناء الكتابة والبحث ، لا سيما في أمور الفولكلور والتراث الشعبي ، وأنا أقترح أن ” تكتب لنا عـن ” كـواليس الكتابة ” وما رافق حياتك الإبـداعية في البحث والكتابة، بغية أن نستفيد منـها ، والأمرُ مطروحٌ عليك ، ليس من قبلي وحـدي، بل رغبة الكثير من الأصدقاء في هـذا الأمر. قلتُ حسنـاً، لقـد حمّـلتني عِـبئـاً كنتُ قـد أجّـلت الخوض فيه إلى ” نهايـة المشوار ” ثم وعـدتـُه خيراً بأن أباشر الكتابة في هـذا المضمار، في القريب العـاجل . وانتهى الحديثُ بينـنا في هذه النقطة .
* في هـذه الأثـناء، التي اتصل بهـا الصديق أحمد الياسري، كنت منغمسـاً في الكتابة عـن أمور التراث الشعبي، لا سيما بعـد وصول كتاب د. هاشم العقـابي ” غـزل العـراقيّـات ” والذي يتحدّث فيه عـن ” بدايات نشوء الـدارمي العراقي” مما دعاني لأن أتفرّغ للـرد عليه، وفعـلاً أنجزتُ دراسة هـامة عـن هـذا الموضوع حملت عـنوان ” ممـاحـكات فكرية في الأدب الشعبي ” وهـو كتابٌ كبير، بيّـنت فيه عراقة هـذا النظم في العراق، وأساسيّـات تكوينه، مع الإشارات إلى المصادر التاريخية وغيرها من أمور البحث الأكاديمي ، وحين أنهـيت تلك الـدراسة والتي تقع في ( 340 صفحة ) من القطع الكبير، بـدأت بعـدهـا بـإعـــداد العُـدّة للكتابة عـن ” تجربتي الإبـداعية في البحث والتـأليف ” في أمور التراث والأدب الشعبي ، وما رافق ذلك من امور شخصية وسياسية وإبـداعية، فرضت نفسهـا عليَّ في التـدوين والذكر، فرحتُ أتـذكّـر تلك الأحداث التي مـررتُ بهـا في حياتي ، مـنذ الطفولة وحتى ما أنـا عليه اليوم، ورحتُ أعتـمد على التـأريخ ، كمفصلٍ مهمٍّ ، أتوقّـف عـنده، بين مرحلة وأخرى، بغية أن أحكم على ” تجربتي الشخصية ” سـلبـاً أو إيجـابـاً، في هذا المشوار، فتبيّـنت لي أحـداثـاً وشخصياتٍ ، كانت عامل إعـاقة ونشاز، لكني إستطعت أن أتجـاوزهـا بصبرٍ عـالٍ، رغم أنـها تركت نـدوبـاً في حياتي ، ما زالت آثـارهـا تشدخ الذكريات ، وتـؤلمُ في النفس، ولذلك ذكرتـها ، حتى يتعلّـم الناس كيفية التعامل مع مثلِ هـذه النماذج ، وكل الأشخاص والهيئات المذكورة، هـم أشخاصٌ حقيـقّـيون ، / ولهم حق الرد مكفول / إذا أرادوا ذلك، فـإنّـنا نبحث عـن الحقيقة ، مهما كانت النتـائج، وليس هـناك كيانٌ أو شخص فـوق النقـد .
وهذا العمل الطويل، هـو تجربة شخصية لي ، أردتُ من خـلالهـا أن أوضح للأصدقاء والقرّاء ، على حـدٍّ سواء، الرؤية المنهـجية والتجربة الشخصية ، وشكل الكتابة عـندي فمن رأى فيهـا إفـادة إستفاد منـها، ومن رأى فيهـا خروجـاً عـن المـألوف ، فهـذا حقٌّ لـه، وستبقى هذه التجربة تخصّـني وحـدي .
* كــــــــــــلام البــــــدايـــــات :
كان العـام الـدراسي الأول في حياتي هـو عام 1960 م ، حيث انتظمت في الصف الأول الإبتــــدائي، في مدرسة الإخـلاص الإبتدائية للبنات، في كرادة مـريم في جانب الكرخ / بغـداد .
دخلت المدرسة حـافي القدمـين، فـاستغربت المُـدرِّسة ( السِــت أديبة ) ، نلك المُـدرّسة المسيحية، والتي تشبه المطربة اللُّـبنانية ” صـباح ” في طولهـا وملامحهـا .
– سـألتنـي برفـق وأدب : لمـاذا جـاي حـافي !؟
– قلتُ بخجـلٍ وخوف : ليس لـدي حِـذاء !
– قالت : كـم قياس رجـلك ؟
– قلتُ : لا أعـرف، لأني لم أرتـدي حـذاءً من قبل !
* نظرت إلى قـدمي وقالت : غـداً سـأجلب لك حِـذاء. وعِـند اليوم التـالي، اسطحبت معهـا ” حِـذاء بـاتـا نمرة 7 ” مع زوج من الجـوارب . لم تُـقـدّم الحذاء لي في داخل الصف، بـل سحبـتني إلى داخل ” غرفة المدرِّسات ” بعـد أن طلبت منّـي أن أغسلَ رجليَّ تحت ” حنفية الحديقة ” الملاصقة لغرفة المُـدرِّسات، فـارتـديت الحِـذاء لأوّلِ مرة في حياتي، في ذلك العـام ، وقالت لي ” السِـت أديبة ” : إذا أصبحت شاطر في الصف، وتحضّـر دروسك جيداً، فسوف أجلبُ لك حـذاءً في كل عـام .
* كـان هـذا الأمر، أبلـغ درس لي، تعلمت منـه معنى الفقـرِ والعـوز، ومعـنى أن يعـتني بك شخصٌ ليس من أفـراد أسرتـك، بـل من أبناء وطـنك، وليس رجُـلٌ ، بل إمـرأة، أظهـرت ذلك الموقف النبيل في نفسي، وقـرّرت أن لا أخـذل مُـدرِّستي في تعليمي، فكنت الأول على الصف في نهـاية السنـة، وقـد قَـبّـلتني وهي تُـسلَّمني ” شهـادة النجـاح ” من الصف الأول الإبتـدائي .
* في بداية عـام 1963 م ، عندما أصبحنا في الصف الثالث الإبتـدائي، عـزلونـا نحن الطلبة الكِـبار في السِـن بعض الشئ، وحوَّلونا إلى ” مدرسة الإخـلاص الإبتـدائية للـبنـين ” بنفس البناية، لكن دوامها صباحي على طـوال السنـة، والمدرِّسين فيهـا رجـال . وفي هـذا العـام حـدث انقـلاب عسكري في 8 / شباط / 1963 ، وعرف في المدوّنات العراقية – السياسية بإسم ” شـباط الأسود ” ، حيث تمّـت الإطـاحة بزعـيم الشعب عـبد الكريم قـاسم . وكانت مـدينتنا ” مدينة الشاكرية ” وهي مجموعـة بيوتـات عشوائية، بُـنيت من الطين وسعف الجريد، وعلى غـيرِ نظام هـندسي، كباقي نظام البيوت الجنوبية في العـراق ، وأهـلهـا من الوافـدين إلى بغـداد، وهي تقع في الجهـةِ اليمنى لناحية كـرّادة مـريم، وتسمى الآن ” المنطقة الخضراء ” وكان غالبيـة سُـكّـان هـذه المدينة، من البـالغين، ذوي نـزعـاتٍ يسارية، فكانت لهـم ردّةَ فعـلٍ ثورية على انقـلاب شباط الأسود .
* لم نـكن ، نحنُ الصغـار، نعلم ماذا تعـني كلمات ” يسـار ويمين، وشيوعي وبعثي وقومي، لكن إنتمائنا إلى مدينة الشاكرية، وأصولنا الجنوبية، جعل بعض المدرِّسين أن يعاملونـا بقسوة وجلافة، نـاعتين إيّـانـا بــــ ” الشـروﮔـيـة ” *1 ، ولم نكن نعي هـذا المصطلح، ولا أبعـاده ولا مضامينه .
* كان مشرف الصف الأستاذ طـارق الأعـظمي، يُـدرِّسنا مادة ” القـراءة والكتابة ” لكنّـهُ كان يتـأفّـف منّـا نحنُ الشـروﮔـيـة، وأيّ واحـد منّـا يخطئ يعاقبه في الضرب على يـدية في ” الخيزرانـة ” وكان يخلقُ لنا نفـوراً نفسيّـاً داخليّـاً، يُـكرِّهُـنا بالدراسة والمدرسـة ، وكانت لـه ” ميولاً قومية بعثـية ” فكأنه يريد أن ينتقـم منّـا، نحن أبناء الشـاكــــرية ، الذين ثـاروا ضد نظام البعث في 8 / شباط / 1963 ، وكنّـا نحن الصغـار ضحية هـذا الموقف .
* وفي هـذه السنة، ظهـرت عـندي( حـالة نفسية سيئـة) نتيجة تلعثُـمي بحرف الألف المهـموز، لا سيما غذا جاء في بداية الجملة، فكـنت ” أإتـئت ” بهـذا الحرف، ممـا يجعل الطلبة يضحكـون عليَّ، فيستغـل الأستاذ طارق الأعظمي ذلك، ويُـصَـنِّـف علينا، وأحيانـاً يضربني بالعصا ويقول : إنتَ ما محضّـر لدرس، إفـتح إيـدك ، ويضربني .
*1 الشـروﮔـيـة، مصطلح سومري – بابلي، ظهر في زمن الملك ” نبوخـذ نصّر، ويعني السكّـان الأصليّن، أصحاب الشعور السوداء .
* * *
* ذات مـرّةٍ، وكان لـدينا ” جـدول الضرب ” وكنت احفظه على الغيب، مخافة أن يعاقبني الأستاذ طارق، وكان يتقصدني داخل الصف، فطلب مني ” قراءة جـدول الضرب ” فتلعثـمت في القراءة، نتيجة وجود حرف الألف المهموز في بعض الأرقام، فقـال : إنتَ ما محضّـر! فقلت : أستاذ خلّيني أﮔــــوم عالصبورة وأكتب جـدول الضرب كاملاً، وإذا اخطـأت عاقبني! فقال : قُـم على الصبورة واكتب جدول الضرب . فكتبت جـدول الضرب كاملاً بـدون أي خطـأ، فاستغرب الأستاذ طـارق وقال : لعـد ليش متـﮔـولهـا بشكل صحيح!
فقلت استاذ إلساني ما أعرف إشبيه، يتلعـثم في كل حرف يبدأ بالألف المهـموز، وفي هـذه الأثـناء دخل معـاون المدير، وكان إسمه ” صالح يونس أو مهـدي يونس ” وكان من اهـل الموصل، وتطغي اللّـهـجة الموصلية على كلامه، وقـد سمع حديثي مع المُـدرّس، فقـال لي ك مُـرْ عليّ أثناء الفرصة، بعـد الدرس، وفعـلاً زرتـهُ في غرفة المدرّسين، فخرج بي إلى ” الكليدور ” داخل المدرسة وقال لي : هـل تُـريد أن تتتخلّص من هـذه الأتـأتـة التي في لسانك !؟
قلنُ : نعم والله يا أستاذ، فـإنهـا تعـذّبني وتحرجني أمام الطلبة، فقـال : عـليك بقـراءة الشعر بصوتٍ عـالٍ، واحفظـهُ على الغيب، وردّدهُ بشكلٍ دائم، فسوف يستقيم لسانك.
ومن ساعتهـا بـدأت أقـرأ الشعر العربيـ ةاحفظه على الغيب، الأمر الذي حـدا بي لأن أشتري ” المعلقات السبع ” للزوزني ” وبـدأت بحفظهـا على الغيب، وبـدت عقـدة لساني تَـنـفـكُّ شيئاً فشيئـاً، ثم تلاشت تلك الظاهرة من لساني، وبـدأ الشَـعـر يجـد لـه مكانـاً في روحي وفي حـافظتي الشعرية، وشعرتُ بـأني أقترب كثيراَ من هذا الأدب الرفيع .
* في عـام 1964م ، إنتقلت إلى مـدرسة أبي العـلاء المعرّي الإبتـدائيّـة للبنين، والواقعـة بنهـاية زقاق ” جامع أحمد مظهـر الشاوي ” القريب من محطّـة الإذاعـة والتليفزيون في منطقة الصالحية في الكرخ ، وبناية المدرسة تقع على كتفِ نهـر دجلة من ناحية الكرخ، وكان صَـفُّـنا في الطابق الثاني، ممّـا يتيح النظر لنـا لرؤية نهـر دجلة عـند الصباح، وفي أوقات الفرصة بين الدروس، والنهـرُ يتهـادئ بأمواجهِ المنسابة، ورقصات طـائر النـورس على تلك المويجـات المنسابة مع مجرى النهـر، الأمر الذي يشكِّـلُ لوحـة فنيّـة، تـأخذُ لهـا حيِّـزاً في ذاكرتنـا الطفولية .
*في مدرسة أبي العـلاء المعرّي، كان طـابور الصباح يتخلّلهُ إلقاء القصائد الشعرية من قبل الطلبة، قبل الدخول إلى الصفوف أو الحُصص، وكان هـناك طـالبٌ إسمه ” نشمي حسين ” كان في الصف الخامس الإبتدائي ، كان أنيقاً، ويرتـدي بـدلةً وربطة عـنق، والكل يحترمه، وهـو قليل الإختـلاط مع الطلبة، كان هـذا الطالب من التلاميذ النابهين، فكان كل يوم تقريبتً ، عند طابور الصباح، يخرجه المدرّس أمام الجميع ليقـرأ قصيدة لأحد الشعراء، على الغيب، وذات مـرّة قرأ قصيدة ” أبو القاسم الشابي – الحيـاة والحريّـة ” والتي يقول في مطلعهـا :
” خُـلقتُ طليقـاً كطيف النسيـــــم ….. وحُـرّاً كنور الضُـحى في سَـمـــــاه
تمشي كمـا شِـئت بيـن المـروج ….. وتـقـطِـفُ زهــرَ الـرُبى في رُبــــــــاه
كـــذا صاغـــك الله بين الوجــــــود ….. وأنقـذك في الكـونِ هــذهِ الحيــاه
فما لــــك ترضى بــذلِّ القـيـــــــــــود ….. وتحـني لمـن كبَّــــلوك الجبــــــــــاه ”
تـرسّـخت هذه الكلمات في ذهني وفي روحي، وحفظتـهـا ذاكرتي من أوّلِ مرّة، وقـرّرت أن أحفـظ هذه القصيدة كاملةً ،، وفي الفرصة الأولى بعـد انتهـاء الدرس الأول، ذهبتُ إلى ذلك الطالب ” نشمي حسين ” وقدمت نفسي لته وقلت : أنا في الصف الرابع الإبتدائي – أ – وأريـد أن أحفظ هـذه القصيدة التي ألقيتهـا اليوم، مـمكن أن تكتبها لي ! قال : غـداً سـاجلبها لك مكتوبةً مع التشكيل، فشكرته ، وتعارفنا من تلك اللّـحـظة ، وأصبحت هـذه القصيدة، واحدة من أهـم الدوافع لي في ادراك معنى الحريّـة ومعنى الشِـعر، ومعنى استقلالية الإنسان في فكرهِ وحياتـه .
* ثـمّـة مسـألةٍ هـامة ، على الصعيد الدراسي ، كانت مُـقرّرة علينا، ألا وهي ” تعـلّـم الخـط العـربي ” وفق أصولٍ فنيّـة، فقـد وُزِّعـت علينا ، ونحن في الصف الرابع الإبتدائي ، كُـرّاسة الخـط العـربي – خـط الرقعـة ” بخط وترتيب خطّـاط العـراق البـارز الأستاذ هـاشم محمد الخطّـاط البغـدادي ، الأمر الذي حرّك في دواخلنا ” كـوامن الإبـداعات الفنيّـة، في الخـط والرسم، وراحت هـذه ” الهـواية الفنيّـة ” تجـد لهـا مكانـاً في روحي الإبـداعية، وبـدأت أُمارس الـخط على دفاتري المدرسية، وعلى أكياس الورق الأسمر ” أكياس الكاغــد ” التي يستخدمها العطّـارون في وزن بضاعاتهم التي يبيعـونـها في محـلاّتـهم . وللمرّة الأولى بـدأت أستخدم ” اللّـيطة ” في الخط العـــــربي، لا سيما تلك العـيدان الموجودة في ” المرطّـبات المثلّـجة – الموطـا ” حيث نـأخذ العـود ونجعله ريشـةً للخـط ، بعـد أن نقطّـهُ بزاوية معينة، فيصبح ريشـةً للـخـط .
* هـوايـة الخـط العـربي، بـدأت تشتعـل في روحي، وتحسّـن عندي خـطُّ الكتابة بشكلٍ مُـلفـت، لا سيما عندما أصبحتُ طالباً في الصف الخامس الإبتـدائي عام 1965م ، حيث رحتُ أتـأمّـل ” لـوحـات الخـط العربي” عـند مجموعـة من الخطّـاطين البغـداديّين، والذين أمـرّوا عليهـم في طريقي وأنا متوجّـهٌ إلى مدرستي، حيث أن الطريق من ساحـة النهـضة ببغـداد يقـودني لأن أسير على الأقـدام من ساحة النهـضة في الرصافة، إلى منطقة الصالحية في الكرخ ، وعـند منعطف ” العَـبّـخـانـة ” ورأس القرية ” قبل الولوج في شارع الرشيد، هُـناك ثـلاثـةُ خطّـاطين، لهـم مكاتبهـم الخاصة، الأول إسمه ” الخـطّـاط زُهـدي ” وكان موجوِّداً في خـط الرقعـة ، وبعـده يـاتي مكتب الخـطّـاط إحسان علي، وكان موجَوِّداً في الخـط الفارسي، ثم يليهـم مكتب الخطّـاط العَـسماوي، وكان متميّـزاً في خـط النسـخ ، وكنتُ أقِـفُ عـند مكتب كل خـطّـاط، وأتـأمّـل شكل كتابتـهِ في القصبةِ وفي الفرشاة، وكان وقوفي يطيل أمام مكتب الخطاط العسماوي، أكثر من غيره، لأنـه كان يخط ” اللّافـتات ” خارج مكتبهِ، وكنت أراقبه بـدقّـةٍ متناهـية، حتى أنّـه إنتبـه إليَّ وقال : عـمو ليش إنتَ متروح للمدرسة ؟ فقلت : دوامي ظُـهـري – أي بعـد الساعة 12 ظهـراً ، وامامي وقت . فقال : هـل تحب الخـط العربي ! قلت : نعـم . قـال : هـل خطّـيت لوحة أو لافتة من قبل !؟ قلت : لا ، قال : إمسك الفرشاة واكتب على هـذه اللّافتـة، ولا تخرج من الخـط المكتوب بقلم الرصاص الخفيف، فارتعشَ كُـلّي، واحمـرَّ وجهي فقال : لا تخف، هـذا ” بنتلايت ” فرسمتُ أوّلَ حرفٍ على لافـتـة، وأخذ هـو يوجهني كيف أقف واثقـاً، وكيف أبـدأ دون تـردّد، وصرتُ أمُـرّ بـهِ كل يوم، وأمارس الخط في مكتبهِ بشكل بسيط وعلى اللّافتات فقـط ، اغـرتني هـذه اللّـعبة في الخـط العربي، وبـدأت أبحث عـن ” كرّاسة الخـط العربي ” الكاملة، والتي وضعهـا الخطاط هـاشم البغـدادي ، وتوجهـت إلى مكتبهِ الكائن في شارع الرشيد، منطـقة ” المـربْـعـة ” . حين وصلتُ إلى هـناك، وعبرَ النـوافـذِ الزجـاجية، رأيتُ آيـاتـاً من الجـمال الفـنّي، بخـطِّ هـذا الخطـاط والفنـان المُـدهش، وكانت لوحـاته الأكثر شهـرةً وأهمية، تلك التي خطّـهـا ” بقلم الثلث والجِـلي ديواني” فقـد كان لا يُـبارى بهـذين الأسلوبين من الخـط العربي .
* سحرني المكان، وتبسمرتُ في مكاني، وأنا مدهـوش لتلك اللّوحات الخارقة بخطِّ هاشم البغـدادي، جمعت كل قواي النفسية، وتقدمت نحو الباب وطرقتهُ بلطف، فقال : تفضل عـمو . فـدخلت ووجهـي يتصبّب عرقـاً، فقلت : أستاذ هـاشم، آني إستوني بادي في الخط العربي” وأخرجتُ من حقيبتي المدرسية، كُـرّاسته ” خـط الرقعـة ” فشاهـد كتاباتي على التمارين التي وضعهـا هـو في ذلك الكرّاس، فقـال : جيّـد أسلوبك في الكتابة، ولكن أحفُـظ قـواعـد خـط الرقعـة . قلتُ : كيف ! فقـال : أضبط المسافات والنقاط بين حرفٍ وآخر، وحركات الإلتـواء، وعـدد النقاط في كل حرف. قلت : لا أفهـم ذلك، وأنت لم تذكر ذلك في ” كراسة خـط الرقعـة ” قال : هـذا صحيح، ولكني ذكرتهـا في ” الكرّاسة الأخرى” المعـنونـة ” كـرّاسة الخـط العربي ” قلت : هذه ليست مقرّرة لدينا في المرحلة الإبتـدائية. قال : نعـم هـذه مقرّرة ومخصصة لطلبة معهـد الفنون الجميلة. قلت : وكيف الحصول عليهـا ؟ فنهـض من مكانـه، وتـوجّـه إلى بعض الرفوف، واستـلَّ واحـدة من تلك ” الكرّاسات ” وقال لي : إنتَ من وين عـمو ! فقلت : أنـا مـن مدينة الثـورة، فرمقني بنظرة فاحصة وقال : خُـذ هذه الكرّاسة، هـديّةً مني إليك ، فقبلت يـده، فتأفّـف من ذلك وسحبهـا بسرعة وقال : لا تفعـل ذلك مع أي شخص، مهـما عـلا شـانـه، مفهـوم عـمو ! فقلت : صار معلوم، ولكنّـك خطّـاط العرب الأول، وشرفٌ لنـا أن نقبّـل يديك الكريمتين. فقال : هـذا لايجوز، واحفظ كبرياءك على الـدوام ، فشكرته، وخرجتُ منتشياً وفرحـاً بحالة لا يمكن وصفهـا، ولكن فاتني شيئ ما وهـو : أنني لم أطلب منه أن يكتب لي إهـداءً بخـطِّ يـده على هـذه الكرّاسة، ولكن فرحي وخجلي منعاني من ذلك.
* في اليوم التـالي، وصفت لمدرّس اللغـة العربية الأستاذ أحمد تـوفيق الحلّـي حكايتي مع الخطاط هـاشم البغـدادي فقال : أنتَ محظوظ، فهـاشم الخطاط قـد عـاد قبل أشهـر من ألمـانيـا، حيث أوفـدتهُ الحكومية العراقية إلى هـناك، وتفرّغ لمدة سنتين لخـط القـرآن الكريم، والإشراف عليه في المطابع الألمانية .
* ظلّ هـذا اللّـقاء مع الخطاط هاشم البغـدادي نقطة هـامة في مسارات حياتي الثقافية، كما ان كرّاسة الخط العربي، فتحت لي الآفاق للدخول ومعرفة أسرار الحرف العربي، في الكتابة والإبـداع، ومعرفة الهـندسة الإبـداعية لرسمِ هـذا الحرف الجميل، وفـق أُسِسٍ علمية – أكاديمية . فقـد حرّك ” الخـط العربي ” كوامن إبداعية أخرى في داخلي، أوّلهـا الإنتبـاه إلى كتـابتـهِ السليمة في اللّـغة العربية، وفق قـواعدهـا النحوية، وموقعه من الناحية الإعرابية، الأمر الذي دعاني إلى التركيز في ” دروس اللغة العربية ” حيث كنّـا في الصف الخامس الإبتـدائي نـدرس، ضمن المنهـاج المقرّر ” قـواعـد اللغـة العربية” فعشقت هـذا الدرس، منذ تلك السنة وأنا في الخامس الإبتدائي، ورحتُ أسـألُ كثيراً مدرّس اللغة العربية الأستاذ أحمد توفيق الحلّي، المدرّس للغة العربية، وهـو يفرح بذلك كثيراً، وكان يُـركّـز عليّ داخل الصف، عندما يبدأ يـدرس ” النحـو ” ويصحح لي إذا أخطأت، وكنت مستجيبـاً إلى ذلك بشكل إيجابي، رغم طفولتي المندفعـة للتعليم، في تلك المرحلة، وكنت أُصغي كثيراً وأتابع محاضرات الدكتور مصطفى جـواد في برنامجه الإذاعي ” قُـل ولا تقُـل ” والتي كان يبثها اثير إذاعـة بغـداد في الساعة الرابعة عصراً، فكنت أجلس قرب الراديو، لأسمع أكثر وبدقّـة عالية، لتلك المعلومات اللغوية، وأحفظهـا بذاكرتي، وأكتبها بدفاتر خاصة باللغة العربية ، وأُركّـز في استيعابهـا، وما لم أدركه من هذه المحاضرات القصيرة، أسـألُ فيه أستاذنا مدرّس اللغة العربية الأستاذ أحمد تـوفيق الحألّي، في اليوم التالي، وكان يفرح بذلك، ويحضّني على متابعة هذا البرنامج، كما أشار عليّ بمتابعة برنامجاً آخرَ للدكتور مصطفى جـواد، والذي يعرضه التليفزيون العراقي ، إسمهُ ” الـنـدوة الثـقافيـة ” الأسبوعي، والذي يقـدّم مساء كل يوم أربعـاء، ويقدمه الأستاذ سـالم الآلوسي، ضمن برنامج السهرة، حيث يبدأ بالعاشرة مساءً، ولمدة ساعـة، وكنت أرتـاد ” مقهـى جـواد بن العلوية ” الملاصق لدارنا في قطاع 39 في الـﭽـوادر مدينة الثورة ، وأستمع إلى ذلك البرنامج، حيث يستضيف الأستاذ سالم الآلوسي نخبة من العلماء والأدباء والأكاديمييّن العراقيين، وأغلبهم حائز على شهادة الدكتوراه في اختصاصهِ، وكان د. مصطفى جـواد من بين الحضور الدائميين، وكانت هيئتـهِ الجسيمة، وشعره الأصلع، ولغته العالية، ومداخلاته العلمية، كانت تحضى باحترام الجميع، حيث كان يتمتّـع بكاريزمـا علمية عالية الحضور.
* في هـذه المقهـى، كنت الوحيد من بين أقراني مَنْ يتابع هذا البرنامج، إسبوعيّـاً، فيما يذهب الآخرون إلى النـوم، حتى صاحب المقهـى ” جـواد بن العلوية ” يقول لي : لك هسّه إنت شنو! عِـلم ، فِـهـم، حتى تسمع هـؤلاء العباقرة، يالله روح نـام وخليني أعزّل الـﮕـهـوة ” وكنت أرفض بشكلٍ حازم وغريب، وفيه شئ من الشدّة والتنمّـر ، فاقترح علي صاحب المقهـى أن يعيد لي إجرة المقهى ” عشر فلوس ” وأذهب ، لأنه تعبان ويريد أن ينام، وكنت أرفض ذلك بشدّة وبـإصرار، حتى أنّـه شكى أمره إلى أخي الأكبر ” حسن رحمه الله ” فقال أخي : إنتَ تعرف إحنا ما عـدنا تلفزيون في البيت، ويبدو أنّـه يحب هـذا البرنامج، ولا أعتقد أنه من الصبيان المؤذين لك. فيئس جواد بن العلوية من ذلك، وأخيراً إقترح علي أن ” أطفئ التليفزيون ” عند إنتهـاء البرنامج، وهـو ينام في زاوية من المقهى، فوافقتـه على ذلك .
* ومن تلك الجلسات الثقافية، زرعَ فيَّ د. مصطفى جـواد نـزعـةً موسوعيةً، تركّـزت على ” تـاريخ بغـــداد ” في العصر العبّـاسي، حيث أنّـه كان يتحدّث عنها بشكلٍ مُحـبّـب ، وبعمقٍ تاريخي مـذهـل، لا سيما حاضرهـا الثقافي في تلك الفترة الذهبية، وذات مرّةٍ ذكـر مفــردة ” الـورّاقـين ” ودورهـم الفاعل في التـأسيس المعرفي لصناعـة الكتـاب العربي، حتى أنّـه قال: إذا أمـدَّ الله في عُـمري، سوف أكتب عـن الـورّاقين، فانطبعت هـذه الجملة في ذاكرتي، ولم أكـن أعرف معـناهـا في ذلك السِـن الطفولي، وعـندما أدركت معناهـا المعرفي العميق، فيما بعـد ، كانت موضوع أطروحتي للدكــتوراه، ومن ثم وسّـعـت موضوعـهـا وكتبت ” موسوعـة الوراقة والورّاقين في الحضارة العربية – الإسلامية ” في 6 أجزاء ضخمة، وسوف يـأتي الحديثُ عـنهـا لاحقـاً . ( نشرت في بيروت عام 2010 ) .
* شـكّـل الصف الخامس الإبتدائي، مرحلة مفصلية في حياتي، وفي توجهـاتي الثقافية القادمة، لأنه ارتبط بحياة المراهـقة، وحُـب الظهـور الصبيـاني، حتى إنّـنا في هذا الصف كُـنّـا نضع ” كـتاب اللغـة الإنجليزية ” ذو الغـلاف الأزرق، فوق كل الكتب والدفاتر، متباهـين بـهِ، كـوننـا بـدأنـا الحديث والتكلّـم باللغـة الإنجليزية، وحتى عـندما نسير في الأزقـة والشوارع، كنّـا نتحدّث ببعض المفردات الإنجليزية الأولى ، لنجلب انتبـاه الفـتيات الصغيرات مثلـنا، وكُـنّـا ” نـدرخ ” كل الكلمات الإنجليزية، التي يترجمهـا لنـا الأستاذ صالح مهـدي، وكان أكـفـأ مُـدرِّسـاً للمادة، وفق تصنيفات مديرية التربية في الكرخ، ولعـدّة سنوات .
* ذات مـرّة ، كان لي زميـل من الأخـوة المسيحيّين السـريـان، إسمه ﮔـورﮔـيس إيشو، وأخـوه شليمون إيشـو ” كُـنّـا بنفس الصف الخامس الإبتـدائي ، وكـنّـا نسير سويّـة، عـند الخروج من المدرسة، ونتوجّـه صوب جسر الجمهـورية، ونعبر الجسـر من الكرخ إلى الرصافة، ونحن نتحدّث بتلك الكلمات الإنجليزية، وكان ﮔـورﮔـيس أعلمـنا جميعـاً بتلك اللّـغة ، ويتــفـوّق علينا جميعـاً، وكنا نراجع درس اللغة الإنجليزية، ونحن نسير في الطريقِ وفـوق الجسر، وشكّـلت هـذه الحالة اليومية، حـالة إيجابية لنـا نحن الثلاث ، حيث وثّـقت صداقـتنا وعلاقاتنا الإجتماعية، وقـوّت لغـتنا الإنجليزية، وعرفنا كيف نستفيد من الوقت ، حتى ونحن نسير في الطرقات .
ﮔـورﮔـيس وأخـوه شليمون، حين نعبـر جسر الجمهـورية،، هُـم يتوجّـهون إلى ” منطقة البـتـّاويين، حيث يسكنون هـناك، فيما أميُـل أنـا إلى ” صاحب مكتبة التحرير بنّـاي جـارالله ” في أوّل شارع السعدون، وأبـدأ بتقليب الكتب المرمية على الرصيف، ضمن بسطيـة الكتب القديمة، فحظيت بكتابين جميلين، الأول للشاعر النجفي ” حسين قسّـام النجفي ” بعـنوان ” سنجاف الكـلام” وهـو مطبوع في بداية الستينات من القرن المنصرم، وكـتاب آخر هـو ” مجموعـة الرسّـام غـازي – الكريكتيرية ” وسـالت صاحب المكتبة عـن سعرهـما فقال : كل واحـد بخمسين فلس ” فـانتابتني الحيرة والإحـراج، لأني لا أملك ذلك المبلغ، ولا أستطيع أن أطلبه من أهـلي! فقلت للبـائع : عـمّي ، الله يخليك، آني ما عـندي غير 20 فلس، خلّـيهـا عـندك، وكل يوم أمـرّ عليك وانطيك 20 فلس، إلى أن ينتهـي المبلغ، ولكن إعـزل لي هـذين الكتابين ! . تـأمّـلني الرجلُ بنظرةٍ فاحصة وقال لي : إنتَ منـين ؟ قلت : مـن أهـل الثـورة . قال : بيـا صف إنتَ؟ قلت : في الصف الخامس الإبتـدائي . قـال : شتسوي بيها هاي الكُـتب ؟ قلت : أقـراهـا . قـال : إشـﮔــد يوميتـك ؟ أي مقدار مصروفك اليومي . قـلت : درهم ، أي 50 فـلس، أربعين فلس تـروح للكـراوي، و10 فلوس آكل بيهـا عمبـة وصمون ! .
أطرق بـرأسه نحو الأرض مليّـاً ثم قال : خُـذ الكتابين منّـي هـدية إليك ، قلتُ لا أقبل ذلك، قـال : حسنٌ، إعتبر سعرهـما ” دين عليك – أي قرضة ” وعندما يتوفّـر المبلغ، إدفعـه لي، ولو بعـد سنين، وابتسـم. فوافقت على ذلك، وأعـدته إليه بعـد أكثر من 10 سنوات، عـندا اشتغلت بـدائرة الكهـرباء، وأصبحنا صديقين، وأشتري مـنه الكتب ، بشكلٍ مستمر، دون أن يحـدد سعراً لهـا .
* الشاعر حسين قسّـام النجفي، أذهلني بإسلوبه الشعري الشعبي الناقـد ، بشكلهِ الكاريكتيري، في معـناه وكلماته، ولم أتوقّـع أن هُـناكَ ، في الشعر الشعبي العراقي، إسلوبـاً خارج المـألوف، وبكلماتٍ بسيطة ناقدة، فعشقت هـذا الأسلوب الشعبي في الشعر، ورحت أبحث عـن بقية دواوينـهِ الشعرية الأخرى ، حتى عثرت عليهـا وهي : قـيطان الكـلام ، و درنفيس الكـلام، و ربّـاط الكـلام و محراث الكلام، والجميل في الأمر ، بهـذه الدواويين الشعرية ، أن المفكّـر الراحل ” د. حسين مروة ” هـو من يكتب ” المقدمـات ” لهذه الدواوين الشعرية .
* أمّـا الكتاب الثـاني، فهـو ” مجموعـة الرسام غـازي الكريكتيرية ” وهـو أسلوب فريـد في الرسم ، ذو نكهـةٍ بغـدادية، جسد فيه التراث الشعبي البغـداي، بهـذه الرسوم التشكيلية، وتحت كل رسمٍ منـها ” تعليقات شعرية شعبية ” مع هذه الصور الكاريكتيرية، والتي تثير الإنتباه إلى أهمية هـذا الفولكلور البغـدادي، بكلِّ صورهِ وأشكاله، ممـا يخلق البهـجة والسرور عند المتلقّـي، فحفظت هـذا الكتاب المصوّر كلّـه على الغيب، وشكل لي مع كتب حسين قسّـام النجفي، العَـتبة الأولى والقوية، لتراكم التراث الشعبي في ذاكرتي، وهـما – أي الكتابين أعلاه – كانا الـدافع الأساس في بداية كتاباتي الشعرية الأولى في الأدب الشعبي، وشكّـلا ذائقتي الشعرية الأولى، والتعليم الرمزي في الأدب الشعبي، مع معرفة تلك الدلالات الرمزية على بعض المفردات، وخصوصيّـاتهـا في الأدب الشعبي ، في بغـداد والنجف، وهـو ما سيظهـر في دراساتي النقدية القـادمة في الفولكلور والأدب الشعبي العراقي .
* دفعـتني الحاجة إلى الكُـتب واقـتنائهـا لأن أبحث عـن عملٍ مـا، يسـاعـدني في احتياجاتي اليومية، وما أحتاجه من مال لشراء الكتب، فرحتُ أشتغل في ” العمّـالة” أي أعمال البنـاء، في كل يوم جمعـة، مقابل 7 دراهـم، أي ( 350 فلس ) وهي تعادل دولاراً واحداً، في هذه الأعمال الشاقة ، وبقيتُ مـدّة طويلة أمارس هذا العمل ، في كل يوم جمعـة ، حتى أنهـيت المرحلة الإبتـدائيّـة، وأنا على هـذه الحـال، وحتى العطل الصيفية كنت أشتغلُ فيهـا، فـبدأت أشعر بالإستقلال الشخصي، ورحتُ أشتري الكُـتب التي أحتاجهـا، ولكنهـا من ” كُـتب البسطات ” وليس من رفوف المكتبات الكبيرة، واغلب هـذه الكتب كانت عـن ” شعراء الجـاهلية وصدر الإسلام، والتي كانت تُـطبع ” من غير تحقيق ” في دور النشر اللبنانية، ووقـتـها لم تكن تعنيني، إن كانت هـذه الكتب محقّـقـة أو غير محقّـقـة .
* وما أن أنهـيت المرحلة الإبتـدائيّـة في عام 1966م ، حتى كنت قـد اطّـلعت على كل كتب التراث الجاهـلي، وحفظت أغلب ” المعلقـات الشعرية ” وما زالت عـالقـة بـذهني حتى هـذه اللّـحظة .
* * * يتبع .