الطعام والذاكرة: حكايا على سفرة الروائيين والمدن العربية
شكّل موضوع الطعام في السنوات الأخيرة مدخلا جديدا للعديد من الروائيين والكتاب، للسؤال عن الماضي وتحولاته. إذ لم يعد الطعام يشكّل مجرّد مذاق ولحظات عابرة، بل يحمل، في وصفاته وطريقة إعداده وطقوس تناوله، عشرات، إن لم نقل مئات التجارب والأحداث، سواء الشخصية منها أو العامة. والطريف في هذا الشأن، أنّ تدوين ذاكرة الطعام في المدينة العربية، لن يقتصر على الرجال. فعلى امتداد قرون طويلة، بقي التأريخ للطعام في التراث العربي الإسلامي محصورا بالرجال، فلا نعثر إلى يومنا هذا ربما على مخطوطة من إعداد سيدة في القرون الوسطى. وقد يعود هذا إلى كون إعداد الطعام في الفضاء العام بقي محصوراً بالذكور. لكن في السنوات الأخيرة، يلاحظ دخول النساء في تدوين هذه الذاكرة، إما من خلال الرواية والسير الذاتية (بلقيس شرارة) أو عبر محاولة استغلال الطعام للكتابة عن ذاكرة بعض المدن. وهذا ما نراه في سوريا مثلا في العمل الضخم (خمس مجلدات) الذي ألّفته الكاتبة السورية نادية الغزي بعنوان «حضارة الطعام» واستطاعت من خلاله رسم خريطة ذوقية/اجتماعية لسورية في القرن العشرين، من خلال كتابة تواريخ محلية للأطباق السورية.
كما نعثر مؤخرا على كتاب طريف من نوعه للكاتبة المصرية دينا صلاح «سفرة دايمة.. حكايا الطعام والبشر» معجم للنشر والتوزيع. ستحاول المؤلفة في هذا الكتاب الصغير الجمع بين ذاكرتها الشخصية عن الطعام، وذاكرة بعض الروائيين والكتاب المصريين عن الطعام في مدنهم. والمهم في ما كتبته المؤلفة، أن هذه التواريخ الشخصية، أو لنقل ذاكرة الطعام الصغيرة، سرعان ما تكشف عن تواريخ اجتماعية وسياسية أوسع عاشتها مدن عربية في مصر وتونس.
على سبيل فتح الشهية
تبدو المؤلفة منذ البداية مدركة لأهمية تدوين الذكريات الشخصية، كمدخل لفهم التحولات التي عشناها في الماضي، فالقصص والحكايا التي عادة ما نتذكرها ونحن نتناول وجبة ما، هي ليست توابل لفظية للاستمتاع بالطعام، بل هي مكان للسؤال عن قضايا وتجارب عديدة عشناها. ولذلك نراها تذهب تارة لتدوين تفاصيل إعداد الملوخية في منزلهم، فهذه الأكلة كما تقول عادة ما تذكرها بيوم الخميس أو الجمعة، فقد كانت وجبة الغذاء الرئيسية لها ولمئات العائلات المصرية إلى يومنا هذا. كما تبدو الملوخية في قصصها رديفا لعالم الترابط والحب والعلاقات الاجتماعية، وتحضيرها كان يمرّ بطقوس معينة (تقطيعها) مقارنة باليوم. ينطبق الشيء ذاته على وجبة المحشي، فقد كانت سيدات العائلة يجلسن بالساعات في المطبخ يتبادلن أحوال الدنيا، في حين لم يعد هذا المشهد موجودا في حاضر المؤلفة. إذ لم تعد الأمهات قادرات على إعداد المحشي، وأصبح البديل الإبحار في عوالم المحشي الجاهز. ويبدو من خلال قصصها، أنّ معرفة فتيات جيلها بفنون الطهي لم يعد من أولوياتهن. صحيح أنه لا يمكن تعميم هذه الرؤية، لكن ما لوحظ في العقود الأخيرة في عدد من المدن العربية، هو أنّ إعداد الطعام لم يعد من شروط الزوجة الناجحة.. وأنّ الكثير من النساء العاملات والطالبات الجامعيات أصبحن يعتمدن على وجبات السوق، بينما كان يُعدُّ ذلك أمراً معيباً في السابق، ولذلك يرى بعض الأنثروبولوجيين أنّ هذا التحوّل لا يعني ولادة نزعة استهلاكية فقط، بل أيضاً تراجعا لدور الطعام في تكوين الهوية الأنثوية ومصادر قوتها داخل العائلة.
في مقابل ذاكرة الملوخية، تقف بنا المؤلفة أمام ذاكرة نعيم صبري (روائي وشاعر مصري) وصاحب رواية «كلوا بامية» الذي سيروي لنا قصة الطعام في حي شبرا وكيف كان الناس يخزّنون البصل والثوم ويجففون الملوخية والبامية للشتاء. كما يصنعون المربيات في البيوت، قبل أن يأتي عالم السوبر ماركت ليغير من عادات كثيرة.
وفي مكان آخر يروي لنا الروائي المصري طارق إمام، كيف أعاد توظيف الطعام وذاكرته اليومية في نصوصه. وهذا ما نراه في روايته «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» التي أدى فيها الطعام دورا محوريا. إذ تدور أحداث الرواية، في القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين، لمعرفة ماذا كان يأكل الأجانب مقابل المصريين، وذلك لفهم السمات الثقافية والطبقية للشخصيات عبر الأمكنة.
أدب الطعام المهمّش
الطريف في هذا الكتاب أيضا، حوارات المؤلفة التي جمعتها مع الروائيين، والتي تكشف عن أدب ورسائل وكتب منسية عن الطعام، في مصر بالأخص. وكمثال على هذه الأعمال، نعثر على كتاب بعنوان «عجائب رحلات وغرائب الأطباق» لمؤلفه الراحل عباس الطرابيلي، الذي تحدث فيه عن رحلات سافر فيها، وتناول خلالها أكلات غريبة، ويحسب لها على هذا الصعيد، تمكنها من كتابة فصول جديدة من ذاكرة بعض الروائيين حول مدنهم، مثل تجربة الروائي إبراهيم عبد المجيد المشهورة مع الإسكندرية. فعلى مدار السنوات الماضية، كان هذا الروائي قد أصدر روايات عديدة تناولت ذاكرته مع هذه المدينة، وكان آخرها ذكرياته مع السينما «أنا والسينما» أو يومياته مع كورونا «رواية حامل الصحف القديمة» في حين نراه في هذا الكتاب أمام تجربة جديدة تتعلق بسيرة الطعام في الإسكندرية. وكعادته، لا تخلو قصص عبد المجيد من صور جديدة عن الماضي، فالحياة كما يقول كانت رخيصة جدا في الخمسينيات، ولذلك كان الإسكندريون يتناولون السمك ثلاث مرات في الأسبوع، وهي عادة ربما تراجعت في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية في العقود الأخيرة، ومع انتقاله للعمل في القاهرة، يبدو أنّ سفرة عبد المجيد ستتغير، إذ ستحلّ اللحوم بدلا من السمك، ولا نرى الموظف المنتمي إلى الطبقة الوسطى في السبعينيات والثمانينيات مقبلا على تناول الطعمية والفول صباحا، بل نراه يتناول أشياء أخرى مثل الرز بحليب.
كما تقف المؤلفة عند تجربة روائية أخرى حول الطعام، مع الروائي أحمد القرملاوي. ففي روايته «التدوينة الأخيرة» بدا ميالا إلى العالم الغرائبي، ولذلك حرص على أن يصف للقارئ مأكولات ومشروبات لم يسمع بها من قبل، حتى يقتنع بوجود هذا العالم بتفاصيله. بينما نعثر في روايته «نداء أخير للركاب» على الراوي الذي يجول أربع قارات، ليجد عالما مختلفا من الأطعمة في كل منها قصص وحكايا عن المدن التي زارها. وفي فصل آخر، ستروي لنا الروائية التونسية هند الزيادي قصة الحنة والوليمة في مدينة حمام سوسة التونسية، فالعائلات في هذه المدينة ومهما علا مستواها الاجتماعي، لا تقدم في الحنة إلا الخبز والزيتون والزيت، وكل من يقدم شيئا غير ذلك يتعرض للذم والسخرية والانتقاد. وفي سياق تفسيرها، تبرر الزيادي هذه الطقوس من كون الزيتون يمثل لقسم كبير من أهالي المدينة الفلاحين إعلانا شديدا واصيلا عن ارتباطهم بأصولهم وبأرضهم. وفي روايتها «لافايات» تعد إحدى بطلات الرواية صحن كسكسي بالطريقة التقليدية التي تعلمتها من أمها، وتأخذ الطبق إلى حبيبها، ليدور الطعام حول الكسكسي (التقليد والقيم) مقارنة بالرداءة والفساد الذي تعيشه المدينة التونسية في السنوات الأخيرة.
كاتب سوري