الماركسية ، وكوبا ، والدعارة ٤
طلال الربيعي
ان مفهوم الماركسية من الدعارة الجنسية مهلهل ومتناقض وغير مشبع معرفيا أو نظريا ولا تعززه الدلائل الأمبريقية.
سردت في الحلقات السابقة بعض اسباب معارضتي للماركسية التقليدية في فهمها او موقفها من الدعارة الجنسية. أسرد البعض الآخر الآن قبل ترجمتي للجزء الرابع من “الدعارة والسياحة الجنسية في كوبا””
نظر كارل ماركس إلى البغايا كضحايا للنظام الرأسمالي، وفي مخطوطاته الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، وصف العمل بالجنس بأنه “مجرد تعبير محدد عن الدعارة العامة للعامل” ، واعتبر إلغاء الدعارة جزءًا ضروريًا لإنهاء الرأسمالية.
والاسألة التي تدور في مخيلتنا عديدة ننتقي منها القليل فقط:
1- الم تتواجد الدعارة في مراحل ما قبل الرأسمالية؟ واذا تواجدت, وهي كانت متواجدة كما هو معروف للكل, فإذن:
2. ما فرق بغاء او دعارة الجنس لعصر ما قبل الرأسمالية عن بغاء العصر الرأسمالي؟
3. ألسن بغايا عصر ما قبل الرأسمالية هن الأخريات, بعرف ماركس, ضحايا نظام مجتمعهن الطبقي, على عكس بغايا العصر الرأسمالي؟ وكيف ولماذا؟
ولكن ماركس (لربما او على الأرجح!) لم يدرس تاريخ الجنس, ولو درسه, كما فعل مؤرخ الفكر ميشيل فوكو, لأدرك ان مفهوم الجنسانية sexuality مفهوم حديث وان مصطلح الجنسانية ادخل لأول مرة في Oxford Dictionary of English عام 1800. وان النفس, حسب فوكو, هي بحد ذاتها اختراع عصر الحداثة:
شيوع العشائرية والاثنية والطائفية في مجتمع مثل المجتمع العراقي هو لأن مفهوم النفس, بعرف فوكو, لا زال غير موجودا. لذا إن استفحال الفساد وانعدام او ضعف الشعور بالمسؤولية الفردية أو المجتمعية واستفحال مفهوم الأنا والزعامة بدلالة تكاثر الأحزاب تكاثر العشب الضار, هي كلها اعراض لعدم وحود النفس او وجودها مقزّمة, مبتورة, ركيكة, رخوة, وتسعى الى السير مع التيار, ولذا ان دعوة منتفضي تشرين الى استرجاع الوطن من ألأحزاب, وَفْقاً لـِشعارهم, كانت هي الأخري تعاني نفس المرض الذي زعمت مكافحته. لذا وأدت الانتفاضة نفسها لأنها اعتبرت الحركة, وليس المُحرك-النفس, كل شيء. فبقيت, اذا اقتبسنا توصيف المحلل النفسي لاكان لحركة الشباب في باريس 1968
“Rien n est Tout”: Lacan and the Legacy of May 68
https://www.jstor.org/stable/26288294
P. 34
استعراضا هستيريا ابدل أب بأب أخر (عبد المهدي بالكاظمي). و بقى الحال نفس الحال إن لم يكن قد استفحل سوءا.
لذا هل ان بغايا عصر الحداثة, عصر ماركس وعصرنا ايضا, عليهن ان يدفعن لوحدهن ثمن امراض الحداثة وتشوهاتها او قمعها (كما استعرضها نيتشه وآخرون), ام ان المسؤولية تقع على عاتق الكل؟ واذا كانت الحداثة تعني القمع الجنسي, فان مفكرينا الصناديد من شيوعييهم او يسارييهم او ليبرالييهم يرمون الى تحقيق المزيد من القمع في ظمأهم الذي لا ينطفئ بحديثهم الممجوج عن الحداثة: وهي موضة: اذا دعوت الى الحداثة والتنوير, فاني حداثوي ومتنور (يا سلام!!! لنقبر فرويد ويونغ اذن!): انه تورم نرجسي لقزمية قميئة: إنها التعبير الحداثوي لعبارة -افتح يا سمسم!- ما قبل الحداثوية.
درس فوكو العلاقة بين القمع الجنسي والبرجوازية:
The Bourgeois and Sexual Repression
The repressive hypothesis links sexual repression to the rise of the bourgeoisie in the 17th-century. The bourgeois became rich through hard work, unlike the aristocracy before it. Thus, they valued a strict work ethic and frowned upon wasting energy on frivolous pursuits such as sex. Sex for pleasure, to the bourgeois, became an object of disapproval and an unproductive waste of energy. And since the bourgeoisie were the ones who were in power, they made the decisions on how sex could be spoken about and by whom. This also meant they had control over the kind of knowledge that people had about sex. Ultimately, the bourgeois wanted to control and confine sex because it threatened their work ethic. Their desire to control talk and knowledge about sex was essentially a desire to control power.
“تربط الفرضية القمعية بين القمع الجنسي وصعود البرجوازية في القرن السابع عشر. أصبحت البرجوازية غنية من خلال العمل الجاد، على عكس الأرستقراطية قبلها. وهكذا، فقد قدروا أخلاقيات العمل الصارمة واستاؤوا من إهدار الطاقة في مساعي تافهة مثل الجنس، وأصبح الجنس من أجل المتعة بالنسبة للبرجوازيين موضوعًا للرفض وإهدارًا غير منتج للطاقة. وبما أن البرجوازية هم من كانوا في السلطة، فقد اتخذوا القرارات بشأن كيفية التحدث عن الجنس ومن قبل مَن. وهذا يعني أيضًا أن لديهم سيطرة على نوع المعرفة التي يمتلكها الناس حول الجنس، وفي النهاية أرادت البرجوازية السيطرة على الجنس وحصره لأنه يهدد أخلاقيات العمل لديهم. كانت رغبتهم في التحكم في الحديث والمعرفة بالجنس في الأساس رغبة في السيطرة على السلطة.”
Overview of The History of Sexuality
An Overview of the Series by Michel Foucault
https://www.thoughtco.com/history-of-sexuality-3026762
واذا اتفقنا مع فوكو, فان مفهوم ماركس حول (العمل ب) الجنس يبدو, إن لم يكن, برجوازيا!
فاذا كان العمل بالجنس, بعرف ماركس, “مجرد تعبير محدد عن الدعارة العامة للعامل”, فإننا لا يمكننا الا أن نستنتج, اذا اتبعنا منطق ماركس بكل حذافيره, أن كل العمال, أي شغيلة اليد والفكر بالمفهوم الأوسع, في عصر الرأسمالية, هم بغايا! واذا كان هذا هو ما يقصده ماركس, ومن الصعوبة بمكان تأويل كلماته بشكل آخر, فاني اتفق معه, وكما ذكرت في حلقة سابقة بدون الإشارة الى اقتباس ماركس اعلاه.
ولكن علي ان اسارع وأقول ان اتفاقنا مع ماركس, رغم انه يبدو منطقيا ومشتقا من كلمات ماركس نفسه, فان اتفاقنا سيعني, منطقيا أيضا, ان ماركس الثوري ينفي ثوريته ويحيل مشروعه الشيوعي الى ركام حتى قبل الشروع فيه. وليس هذا فقط, بل ان الشروع في طرق ابواب الشيوعية سوف لا يدخلنا الى “جنة!” الشيوعية وانما سيكون طرقا صنوا للضجيج, خال من المعلومات او المغزى, بعرف رائد نظرية المعلومات “كلود شانون”.
How Claude Shannon Invented the Future
-كيف اخترع كلود شانون المستقبل-
https://www.quantamagazine.org/how-claude-shannons-information-theory-invented-the-future-20201222/
ولذا تكون قدرة شيوعية الضجيج على صناعة المستقبل صفرا أو بما هو أقل!
اذا كان العامل, بعرف ماركس, هو عامل الثورة ورافع راياتها, هو نفسه الذي يتصف ب”الدعارة العامة”, فكيف يقيم العامل, الصنو للبغي, مشروعا ثوريا وينهض به؟ بغايا الجنس, على عكس بغايا العمل الآخرين, لا يزعمن ان لهن مشروعا ثوريا ببناء مجتمع افضل او انهن المؤهلات, فكريا او عمليا, لنطق عبارة -افتح يا سمسم-, كي تفتح الشيوعية أبوابها فندخل فيها افرادا او اسرابا. ولكن اذا كانت بغايا-عاملات الجنس غير مؤهلات, فما الذي يجعل داعرو العمل الآخرين هم المؤهلين لهذه المهمة؟ والخلاف بين ماركس ولينين هنا شكلي. ففي حين اعتقد ماركس إن العمال (شغيلة اليد عموما) قادرون بأنفسهم على خلق وعيهم (الثوري) بأنفسهم, اعتقد لينين باستحالة هذا, وان المثقفين الثوريين هم الذين يدخلون الوعي الى أدمغة العمال, ولذا سميّ حزبه “الحزب الطليعي”. ولكن اذا كان العمل اليدوي او الفكري في عصر الرأسمالية دعارة, فلا ينبغي هنا لوم البغايا على عدم تحقيق, أو عرقلة, المشروع الشيوعي, لاعتبارهن من البروليتاريا الرثة, لأنهن فقط “مجرد تعبير محدد عن الدعارة العامة للعامل”. والتالي سيكون أيضا أي مشروع شيوعي, بالاستنتاج من ماركس في عبارته أعلاه, صنوا لمشروع الدعارة, حيث يكون العمل بالجنس احد أشكالها.
واعتبار ماركس “إلغاء الدعارة جزءًا ضروريًا لإنهاء الرأسمالية”, يبدو لي, أما قلبا للأمور رأسا على عقب, او كلاما فضفاضا من نوع الضجيج.
ماركس يقلب الأمور رأسا على عقب عندما يعتبر إلغاء الدعارة جزءًا ضروريًا لإنهاء الرأسمالية, وليس العكس!
وكلامه سيكون ضجيجا اذا علمنا إن الولايات المتحدة, اكبر دولة رأسمالية في العالم, تمنع الدعارة الجنسية في كل البلاد ما عدا مناطق صغيرة ومحددة في نيفادا
Why is prostitution illegal in the US while it is legal´-or-at least tolerated in pretty much every other Western country?
https://www.quora.com/Why-is-prostitution-illegal-in-the-US-while-it-is-legal-or-at-least-tolerated-in-pretty-much-every-other-Western-country
——-
“الدعارة والسياحة الجنسية في كوبا” 4
يمكن القبض على عاهرة بموجب مجموعة متنوعة من المحظورات القانونية. يجب على كل شخص يكسب المال أن يعمل إما مباشرة للدولة أو أن يكون مسجلاً ويدفع الضرائب كعامل يعمل لحسابه الخاص. الدعارة ليست نشاطا مؤهلا للعمل الحر. وبالتالي، لا تستطيع البغي العاطلة عن العمل تفسير دخلها وهي من الناحية الفنية “طفيلي اجتماعي”. كما أن التسكع والمشي في الشوارع يعتبران “سلوكًا معاديًا للمجتمع” وقد يوفران أيضًا أساسًا للاعتقال.
قبل عدة سنوات، سنت الحكومة قانون الهجرة الداخلية لوقف تدفق الأشخاص إلى هافانا من الداخل. كثيرا ما تطلب الشرطة من الكوبيين بطاقات هويتهم. إذا تم اكتشاف عاهرة في هافانا بدون الإذن المناسب، يتم إعادتها على الفور إلى مقاطعتها. كما تطلب الشرطة تحديد الهوية لتسجيل تحركات الكوبيين. في كل مرة يطلب شرطي هويته من كوبي، يسجل الوقت والمكان في قاعدة بيانات الشرطة. إذا تم تسجيل رجل أو امرأة في أوقات مختلفة في نفس المكان في وقت متأخر من الليل، فيمكن اتهامه بالسلوك المعادي للمجتمع.
إذا اشتبه شرطي في قيام شخص ما بالبغاء، فسيصدر له أو لها كارتا دي أدفرتنسيا (خطاب تحذير)، وغرامة قدرها بضع مئات من البيزو، وربما يقضي ليلة في السجن. يتم تسليم الخطاب إلى عائلة البغي أيضًا، وإلى الرئيس المحلي لمجلس الإنماء والإعمار. بعد ثلاث رسائل تحذير، يحكم على العاهرة بالسجن لمدة أربع سنوات بسبب سلوك معاد للمجتمع.
كما تنظم الشرطة مداهمات متفرقة للعاهرات. لقد شاهدت غارة على La Rampa، مكان التجمع الشعبي للبغايا من كلا الجنسين. في الساعة 11 مساءً ، جاءت عدة سيارات دورية للشرطة الى لا رامبا وإلى سينما يارا وتبعها ثلاث شاحنات شرطة. واعتقلوا عدة بائعات هوى، فيما ركضن أخريات بحثًا عن شوارع جانبية. لعدة أيام، كانت لا رامبا فارغة؛ ومع ذلك، بحلول نهاية الأسبوع التالي، امتلأ الشارع بالبغايا من الجنسين. اشتكى كارلوس، وهو مثلي الجنس يبلغ من العمر 27 عامًا، من المداهمات. “يأتي رجال الشرطة في شاحنات صغيرة، ويجمعون جميع المثليين، ويجعلونهم ينامون في مركز الشرطة. أنا لا أدعهم يفعلوا ذلك بي. أنا أعرف حقوقي”.
شرحت إيلدا، رئيسة مجلس الإنماء والإعمار في سنترو هافانا، والتي تقاعدت بعد ثلاثين عامًا من الخدمة العسكرية، دورها في مكافحة الدعارة. “إذا كانت الفتاة متورطة في الدعارة، أجلس معها ومع الأسرة. اكتشفت لماذا تفعل هذا. إذا كانت الأسرة بحاجة إلى المال، فنحن نساعدها. إذا كانت قد تركت المدرسة فإننا نعيد تسجيلها. هؤلاء الفتيات لديهن بديل. يمكنهن البحث عن وظيفة. ما يحدث هو أنهن لا يريدن العمل الجاد. يريدن إيجاد أسهل طريقة لكسب المال. في هذا البلد علينا العمل. لا يمكننا السماح بالدعارة “. إلدا متفائلة بشأن المستقبل. “اليوم لا تكاد توجد أي دعارة. لقد تناقصت وستسمر في الانخفاض”.
خلال الأشهر القليلة الماضية، قامت الحكومة بشكل خاص بقمع الترانس-رجال متزيين بزي النساء, الذين يتجمعون في المواقع السياحية. في 4 فبراير 2001، شجع Angel Rodríguez Alvarez، محرر صحيفة هافانا المحلية الأسبوعية الرسمية، La Tribuna، المجتمع على إبعاد الترانس عن ماليكون. يكتب، ” كل بقعة من ماليكون مشغولة كل ليلة بنوع جديد، مختلف وغريب جدًا عن روح عائلة هافانا. هناك قوادون، ومومسات ، وأشخاص غريبي الأطوار ، من بين آخرين، شخصيات منتشرة للأسف في جميع أنحاء العالم ، لكنها غير معروفة تقريبًا في كوبا ، الترانس”. ويضيف: “يحق لعائلات هافانا إنقاذ ماليكون، موقع الأحلام هذا الذي يشكل لأكثر من قرن جزءًا لا يتجزأ من الحياة الكوبية الأصيلة”.
المقال ، وفقًا لأحد افراد الترانس، هو رد على قصة نشرتها شبكة سي إن إن عن الحياة الليلية للمثليين. عرضت القصة، التي تم بثها على الإنترنت، صوراً ومقابلات مع المثليين وافراد الترانس. يعيد مقال تريبيون التأكيد على اهتمام الحكومة بصورة البلاد. ينقل افراد الترانس صورة النشاط المضاد للثورة والانحراف الاجتماعي. بالإضافة إلى ذلك، سواء أكان ذلك مبررا أم لا، يرتبط افراد الترانس بالمخدرات والبغاء والسلوك المعادي للمجتمع.
كانت سياسة الحكومة هي الحد من الدعارة ولكن ليس القضاء عليها، وإبقاء البغايا بعيدًا عن أنظار الأجانب لتعزيز صورة جيدة للثورة. ومع ذلك، فهي لا تريد أن تفقد السياح الذين تجتذبهم الدعارة. من الناحية المثالية، تود كوبا إبقاء الدعارة متاحة بسهولة لسائح الجنس، ولكن بعيدًا عن طريق الزوجين المتقاعدين اللذين يقضيان عطلة في فاراديرو.
في كوبا، الحافز على مكافحة الدعارة ليس هو نفسه في البلدان الأخرى. تدار تجارة الجنس في البلدان الأخرى، وخاصة في أوروبا الشرقية وأفريقيا، من قبل شبكات الجريمة المنظمة. يتم خداع النساء أو خطفهن أو إجبارهن على ممارسة الدعارة. تتعرض هؤلاء النساء للإيذاء الجسدي والعاطفي، سواء من قبل “أرباب عملهن” أو من قبل الرجال الذين يجبرن على ممارسة الجنس معهم. علاوة على ذلك، لا يمكن لهؤلاء النساء ترك العمل طواعية ولا يحصلن على مكاسب شخصية من البغاء (Altink ، 1995) . تنص مقالة حديثة في مجلة The Economist
“In the Shadows، 2000
(https://www.economist.com/europe/2000/08/24/in-the-shadows
ط.ا.)
على أن” جثث عدة مئات من النساء اللواتي تم الاتجار بهن، اللواتي تم خنقهن، أو رميهن بالرصاص، أو ضربهن حتى الموت، يتم العثور عليها في جميع أنحاء أوروبا كل عام. لم يتم العثور على كل الجثث”. حاربت حكومات هذه الدول الدعارة لحماية النساء اللواتي يقعن ضحية لها.
ومع ذلك، فإن غالبية البغايا في كوبا لا يتعرضن للخطف أو الضرب أو الاستغلال. إنهن متعلمات يختارن بعقلانية الانخراط في هذا العمل. علاوة على ذلك، تعمل العديد من هؤلاء النساء بشكل مستقل ويحتفظن بأرباح مساعيهن. يسمح لهن هذا المال بإعالة أسرهن، ومواصلة الدراسة، وشراء ملابس أجمل، وما إلى ذلك. الدعارة في كوبا، في معظمها، جريمة بلا ضحايا.
يتبع