مسارات الحروف وكواليس الكتابة .
د. خيرالله سعيد
* * *
* مـدينة الثـورة ، منجمـاً للإبـداع الشعري ـ ح3
شكـّلت المناسبات الإجتماعية مثل ” الزواج والخطوبة ” وغيرهـا، حـالة تـجمـع الشعراء، وقـد أصبحت هـذه التجمعـات في الأعـوام 1970 – 1975 حـالة مميّـزة، أثّـرت على أجيال من الشعراء الذين ظهروا في هذه المدينة، حيث بدأت في مدينة الثـورة، قبل غيرهـا من المدن العراقية ” تيـارات الحـداثة الشعرية” في الشعر الشعبي العراقي، ومن ثم أخـذت هذه التيارات بالتوسّـع والإنتشار إلى محافظات العراق الأخرى.
وكان للشاعر ” مظفر النـوّاب ” التأثير الأكبر على هذه التيارات الشعرية، رغـم أنّـه / شخصياً / لم يكن متواجداً في العراق، لكن قـصائده ، كان يتداولهـا الشعراء والنُـقّـاد، والجمهـور أيضاً .
كان الحماس يـدفعني لأن أجد نفسي بين هـؤلاء الشعراء، ولكن ذلك كان من المحال، لأنهم سبقوني في التجربة والحضور الشعري، وتخصُّصهـم بـهِ، لكنهم كانوا الـدافع الأرأس لي، والمحفّـز الأقـوى لأن أستمر في كتابة الشعر، وفي مرابعه وحياضه.
* في عـام 1970 ، وأعتقد في شهر أيلول، تم اغتيال رئيس تحرير ” مجلة الهـدف الفلسطينية ” الأديب والسياسي غسان كـنفاني، من قبل الموساد الإسرائيلي، في داخل الساحة اللّـبنانية، وكان ” غسان ” من الشخصيات الأدبية التي قرأت لهـا مجموعة كتب منهـا : ” رجـال تحت الشمس ” وبعض المقالات الأدبية والسياسية التي نشرهـا في مجلة الهـدف، أو في الصحف والمجلات اللّـبنانية، فـأثارني اغتياله بهذه الطريقة البشعة، وكتبت ” قصيدة شعبية ” في رثـاءه، وأرسلتهـا إلى ” مجلة الهـدف ” في بيروت، وكانت القصيدة تحمل عـنوان ” صوت الثـائر بنـدقية ” وذيّـلتهـا بـإسم ” غـريب إخـوان ” ولم أضع عليهـا إسمي الصريح، خشية أن تعرف السلطات العراقية ذلـك وتعتقلني، لأني ” عسكري ” وهـذا من المُـحرّمات على العسكريين في العراق أن يتـدخلوا بالسياسة، فما بالك إذا كانت القصيدة في رثـاء أحـد أقطاب الفكر اليساري العربي، ذو النزعـة الماركسية ، والمنتمي إلى تيّـار المناضل الكبير ” جـورج حبش ” ولهذا السبب لم أضع إسمي عليهـا، ونشرت القصيدة في مجلة الهـدف في ” أربعينية غسان كنفـاني ” وعلى صفحتهـا الأخيرة بكامل مساحتهـا، وحينما نشرت ، أوصل المجلة لي الصديق الشاعر ” رضا جونـة العبودي ” وكان لهـا وقعـهـا الجيّـد على الوسط الشعري، في بغـداد ، وفي مدينة الثورة خصوصـاً، ولذلك صار الحرص واجباً في ضرورة كتابة القصائد الشعرية، في مستوى هذه القصيدة ودلالاتهـا الرمزية والمعنوية، ضمن إيقـاع الحداثة الشعرية السائدة في مـدينة الثورة .
* قَـرّبتني هذه القصيدة أكثر من ” اليسار العراقي ” ورحت أدرس الأدبيات الماركسية، وقوانين ” الجـدل الهـيـﮕلي ” والإتجـاهـات اليسارية الجديدة في العالم العربي، ورحتُ أقترب من الفلسـفة والإقتصاد الماركسي، وعرّجـتُ أيضـاً على قراءة التيارات الفكرية الغربية، وخصوصـاً ” التيّـار الوجـودي ” والذي يقوده الفيلسوف الفرنسي ” جـان بـول سارتـر ” وغيره من المفكّـرين الغربيّين، كما اطّـلعت بعمق على ” التيارات الماركسية ” ومدارسهـا المتعـدِّدة، وأعجبت بكتابات ” بليخـانـوف ” كما قرأت ” الأدب الروسي ” بعناية فائقـة، وكان للصديق ” غـالي الخـزعلي ” الأثر الواضح عليّ في إمـدادي بالكتب الماركسية أو بكتب الأدب الروسي، حيث كان يمتلك ” مكتبة كبيرة، وزاخرة بمختلف أنواع الكتب، وقـد أمدّتنا – هذه المكتبة – بالكثير من هذه المصادر والكتب والدراسات الفكرية والأدبية، ومصادر الماركسية المتعـددة، وكان هذا الفتى، معروفـاً بوصفهِ أحـد الناشطين في الحزب الشيوعي العراقي، وقـد أثّـر بنشاطه السياسي على الكثير من أبناء مدينة الثورة، في سبعينيات القرن الماضي .
* الحيـاة العسكرية في كركوك ، علّـمتني أشياء كثيرة، وتجارب شخصية، وسّـعت من مـداركي الفكرية والثقافية، ووفّـرت الوقت لي للمطالعة في الكُتـب الأدبية والتاريخية، وقرّبتني لأن أقرأهـا من ” منظار منهـجي ” فقد اطلعت، في هـذه الفترة على ” كتابات التيارات الإسلامية في العراق، من خـلال كتابات ” السيد محمد باقر الصدر ” والتي كان الصديق وزميلي في العسكرية ” السيد محّـان خشان الموسوي ” والذي كان معجبـاً بكتابات محمد باقر الصدر، وكُـنّـا نتناقش أنا وهـو، بكل هـذه الكتابات والتنظيرات التي يوردهـا السيد ” الصدر ” في كتاباته مثل ” إقتصادنا وفلسفتنا، والبنك اللاّربوي في الإسلام” وغيرهـا من الكتابات، وجـدالاتنا الفكرية والأدبية ، كُـنّـا نُجريهـا بعـد نهاية دوامنا الرسمي في ” قـلم اللّـواء الثاني ” حيث كنتُ ” كـاتبـاً للتحريـر ، وهـو كاتبـاً في قسم الصادر والوارد ” .
أنا ومحّـان خشان الموسوي ، كُـنّـا صديقين حقيـقـيّن، رغم اختلاف رؤانـا وأفكارنـا الثقافية، حيث بـدأت تظهـر عليّ الأفكار الماركسية، أثناء النقاش، فيما كانت تظهـر عـنده ” الأفكار الإسلامية ” بمنظورهـا الصدري، ولكننا كنّـا صديقين حميمـين بشكل لافت ، فما استطاعت الآيديولوجيات المختلفة والمتضـادة أن تفرّق بيـنـا أبـدا .
* في عـام 1971 ، صدر قرار من وزارة الداخلية، بحل كافة ألوية وأفـواج ” آمرية قوة الشرطة السيارة ” على إثـرِ قرار ” مجلس قيادة الثورة المنحـل ” بـإعـلان السلام مع الحركة الكردية، في 11/ آذار / 1971 ، وتم تعميم ذلك على كافة المديريات والألوية، وتمت التنـقلات من كافة الوحـدات العاملة في شمال العراق، إلى بقية مُديريّـات وزارة الداخلية، في كافة أنحـاء العراق، فجـاء نقلي إلى ( المُـديرية العـامة للـﮕـمارك والمكوس في العراق ) والكائن مقرّهـا في ” شـارع أبي نـؤاس ” في بغـداد الرصافة، فكانت فرصة لي للتعرف على مـلامح شارع أبي نـؤاس ، وحركة الناس فيه، بوصفه شارع الثقافة والحرية . وكُـنّـا ” نـداوم ” بملابسنا المدنية ، أحيـاناً كثيرة، وقـد تـمّ تعيني في ” قسـم المشاور القـانوني ” وهـو قسم لم يتأسّس بعـد ، والكل يتهرّب مـنه، وكان هـذا القسم تحت إمرة العقيد الحقوقي ” إسماعيل خليل العُـبيدي ” إذا لم تخُـنّي الذاكرة، وقد إستُـحـدث هذا ” القـلم – للمشاور القـانوني ” بعـد إلتحاقي في دائرة الـﮕـمارك ” ، وتـمّ تسليمي ” شـوال من الأوراق ” مرزومـة، من قبل السيد أبو ضياء – مفوّض الإدارة ، ومشرف على كافة أقسام المديرية . وبقيت بحـدود الشهـر، وأنـا ” أفـرز ” بتلك الأوراق، وأُصنِّـفهـا حسب كل قضية وأولويّـاتـها، ثم بـدأ ت بفتحِ ملفاتٍ لكل قضية ، وأضع لهـا إسماً ورمـزاً، لا يعرفه غيري ومسؤولي المباشر ” العقيد العبيدي ” ووضع حرفي ” م . ق ” أي المشاور القـانوني، فـاستقامت الأمور في ” قـلم المشاور القـانوني ” فـارتـاحت ” الإدارة ” لهـذا التنظيم، وصار الكُـل ينظر لي باحـترام واضح .
* لقـد هـيأت لي مسألة إنتقالي الى” المُـديرية العـامة للـﮕـمارك والمكوس في العراق ” العـودة إلى إكمال ” دراستي في الثانوية العـامة ” بعـد تركي لهـا بأربع سنوات، فعـدتُ إلى ” ثـانوية البحتري المسائية ” في مدينة الثـورة، وانتظمت في الدراسة المسائية .
* في عـام 1973 م ، عـادت الحركـة الكردية في شمال العراق إلى التمرّد على حكومة المركـز، فـأصدرت وزارة الـدفاع ووزارة الداخلية ، أمـراً وتعليماتٍ سريعـة وفورية إلى كافة الوحدات والمديريات في العراق، بـإعادة كـافة العناصر والأفراد الذين جـاؤا إليهـا نقلاً من ” آمرية قـوة الشرطة السيارة – المُـنحلّـة ” وضرورة إلتحاقهم فـوراً في مقر اللّـواء الثاني في كركوك ، وكنت وقتـهـا في ” إجـازة طويلة ، لتقديم إمتحانات الخامس ثانوي – الفرع الأدبي، وحالما أنهيت الإمتحانات، والتحقت بمديرة الـﮕـمارك ، أخبروني بسرعة الإنفـكاك من الدائرة، والإلتحاق في القَـطَـعات العسكرية في كركوك، ووقعت على ” الإنفـكاك من الدائرة ” في نهاية شهر حزيران عام 1973 ، ثم التحقت في المقـر المخصص للوحـدات المتشكلة في كركوك، وفي اليوم الثـاني لإلتحـاقي، وأثناء طـابور الصباح، كان قـد رمقني ” النقيب هـاني شريف يحيى ” أثناء تفقّـدهِ القَـطَـعات العسكرية، وسـلّم عليّ بحرارة، حيث كان يعرفني من قبل عندما كان ” مساعـداً لآمر اللـواء الثاني ، والذي كنت أشتغل فيه في قسم التحرير، وعند نهـاية الساعة التدريبية الأولى ، نـودي عليّ بالإسم لمراجعة ” آمر القطعة العسكرية ” وكان وقتـهـا العقيد الحقوقي حـفظ الله الحسيني، آمراً للّـواء، دخلتُ إلى الخيمة، ورأيت النقيب هـاني موجـوداً إلى جانبه، أدّيت التحية العسكرية، فـآمرني السيد آمر اللّـواء أن ” أشُـدّ يطغي ” بعـد انقضاء التدريب في هـذا اليوم، وسوف تـأتي سيارة عسكرية لنقلي إلى ” مقـر اللّـواء الجديد في منطقة جـبل بـور ” القريب منطقة الشورجة في كركوك. فعـدتُ إلى ” وحدتي العسكرية القديمة ” ولم أجد من زملائي القدمـاء سوى ” العريف إدريس صالح ومحان خشان الموسوي وعـدنان ، كاتب الطابعة ” وشخص آخر من ” الجبور ” لم أعـد أتذكّـر إسمه، فرحبوا بي وقالوا بصيغة المـزح ” عـادت حليمة لعادتهـا القديمة ” حيث عـدتُ إلى ” قسم التحرير ” في قلم اللّـواء، وبقيتُ هـناك حتى بـداية عـام 1974م ، حيث قدّمت إستقـالتي من الشرطة ـ بعـد أن أنهيت المدة القانونية فيهـا ” 52 شهراً ” وزيادة على ذلك بقليل ، وهذه إحدى ” شروط قبول الإستقالات ” مع موافقة آمر اللّـواء، فخرجتُ من الخدمة في 20 / آذار / 1974، ونـزعت بـدلتي العسكرية هـناك، وودعت أصدقائي، فبكى بعضـهم وتـأسّف البعض الآخر، حتى أن آمر اللّـواء ، أمرَ سائقه الشخصي أن يوصلني إلى ” كـراج النقل في كركوك ، وفعل ذلك وودعني هـذا السائق عـند الـﮔـراج .
* حين وصلت إلى بغـداد، كـان أخي الأكبر ” حسن رشك سعيد ” قـد تحـدّث مع المدير الفني لدائرة كهـرباء بغـداد المهـندس ” خـالد تـوفيق أركـان ” وهو المسؤول المباشر عــن ” شعبة تشييّـد المحطـات الثانوية 33 K V A ” بغية تعييني في نفس الشعبة، وتم تحديد موعـداً لمقابلتي ، وتم ذلك , وصدر ” أمراً إداريّـاً بتعييني في دائرة الكهـرباء – شعبة تشييّـد المحطـات الثانوية 33 K V A ” بـدأً من 1 / 4 / 1974 .
* لم أصدّق بأني ” نزعـت البدلة العسكرية ” من جسمي وأصبحت مـدنيّـاً، وأصبحتُ بحريتي الكاملة! ، وكانت النشوة الإيجابية عندما انخرطتُ في مواقع العمل الإنتاجي، وتغيّـرت هـويتي الطبقية، الأمر الذي حـدا بي لأن أتصل ببعض الأصدقاء الشيوعيين، وأقـدّم من خـلاله ” طلباً للإنتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي ” باعتباري كنتُ صديقـاً للحزب منذ عام 1970 ، وأقرأ أغلب أدبياته ، وأقـدّم ” التبرعـات له ” وكان ” وضعي العسكري ” يمنع من قبول طلبي للإنتماء، وهـا قـد حانت الفرصة، وقدمت الطلب، وبعـد ستة أشهر، أصبحتُ ” عضواً في الحزب الشيوعي العراقي ” وهـكذا بـدأت الحياة التنظيمية السياسية، لا سيما أن في عام 1973 المنصرم، قـد أُقيمت جبهـة سياسية من مختلف القوى السياسية في العراق، لا سيما بين الحزبين المتحاربين تـاريخيّـاً وهـما ” حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي المعارض ” فانفتح البلد للحريات السياسية لمختلف الأفراد والقـوى، وتنفّـس بعضُ نسائم الحريّـة والإبـداع، وصرنا نقيم المهـرجانات الشعرية والندوات الثقافية المختلفة، وراحت صحافة الحزب الشيوعي العراقي تنشر الكثير من النتاجات الأدبية والسياسية على صفحاتهـا، لا سيما المجلة المركزية ” الثقافة الجـديدة ” وصحيفة طريـق الـشعب .
* في بداية عـام 1974 ، طُـلب مني أن ” أخُـطَّ لافـتاتٍ سياسية ” للحزب الشيوعي العراقي، بمناسبة الذكرى الأربعـين لتاريخ ميلاد الحزب في 31 / آذار / 1974 ، فخطّـيت 120 لافتـة، كلهـا بخطّـي، وقـد مـلأت تلك اللاّفـتات شوارع مدينة الثورة ونواحي قـناة الجيش، ومنطقة البلـديات، وكنت أشعر بالنشوة والإبـداع ، حين أُشاهـد ” خُـطوطي ” على تلك اللاّفتات المُـعـلّقة في أكثرِ من مكان في شوارع بغـداد ومدينة الثورة .
* كما أني في العام 1974 ، قـد انتظمت في العمل الطـلاّبي ، ضمن تنظيمات ” إتحـاد الطلبة العـام في الجمهـورية العراقية ” عـن طريق الزميلين ” صباح زيارة الموسوي ، وعلي جبّـار ” والذي كُـنّـا نسميه ” علي بـوتـو ” والذي أعـدمته سلطة البعث الفاشي فيما بعـد .
هذا الطالبان، كـانا من أنشط الطلبة العاملين في المجال الطـلابي والسياسي والمهني المطلبي، وكانا في ” القـيادات العُـليـا ” لأتحـاد الطلبة العام في الجمهـورية العراقية، وكانا يرياني في أكثر من مكان ثقافي وسياسي واجتماعي، فـانفردا بي ذات مساء، ونحنُ خـارجين من الدوام المسائي، وقالا لي : نحنُ نعرفك من أنت ، ونحتاجك معـنا في العمل الطـلابي، فقلت : لا مـانع لدي، فـفـرحـا جـداً، وانتظمت معهـما في العمل الطلابي، وخلال سنين قصيرة تقدمت إلى مـواقع قيادية، حتى أصبحت أقـود ” ثانوية البُـحتري المسائية ” وثانويات بغـداد الرصافة المسائية، وكنتُ مُـتفـانيـاً جـداً في العمل الطلابي، وكان ” التيـّار الطـلابي ” بـدأ يفرض وجـوده في الساحة السياسية العراقية، وكـان ” إتحـاد الطلبة العـام في الجمهـورية العراقية ” هـو عضواً في المكتب التنفـيذي لإتحـاد الطلبة العـالمي، ومُـمـثلاً لطلبة العراق قاطبة، الأمر الذي أغضب ” السلطات البعثية العراقية ” وحـاولوا إنتزاع ” هـذا الموقع من زملائنا في القيادات الطلابية العالمية” ورُفضَ الأمر بالإجماع، مما دعـا سلطة البعث الفاشية، أن تطرح ” الموضوع على قيادة الحزب الشيوعي العراقي، لغرض تـوحيـد ” إتحاد الطلبة العام في الجمهـورية العراقية، والإتحـاد الوطني لطلبة العراق ، التابع للبعث” وبـدأت المشاورت الطويلة، وكُـنّـا – نحنُ القيادات الطلابية ، في مختلف المواقع، نرفض ذلك، إلى أن جـاء عام 1977، حيث صدر تعميم من الحزب الشيوعي العراقي، بضرورة ” تجميد ” إتحـاد الطلبة العـام ، بحجّـة الحفـاظ على ” الجبهـة الوطنية ” وعُـمم هـذا القـرار علينا، فكُـنّـا من أوائل الرافضين لهذا القرار، واعتبرنـا أن الحزب الشيوعي بـدأ يُـساوم على وجـودنـا الطلابي، وقـد كانت ” مـوجـة الرفض” عالية جـداً بين الأوساط الطلابية، وما أن أطل العام 1978 برأسهِ، حتى بـدأ حزب البعث الحاكم بالتـنكُّـر لكل تعهـداته والتزاماته السياسية الموقّـع عليهـا في ” ميثاق الجبهـة الوطنية” وضرب عرض الحـائط في كل تلك التعـهـدات، وبـدأ بمطاردة الكوادر السياسية، واغتال الكثير منهـم، وزجَّ الآلاف منهـم في السجون، حتى أصدر قراراً مشؤومـاً في 17 / 7 / 1978، يقضي بحكم الإعـدام لكل شخص خرج من الخدمة العسكرية، ولأيِّ سببِ كان، وانتمى لأي حزبٍ سياسي عـدا حـزب البعـث ” .
فجـاء هـذا الخبر الصاعق على رأس الحزب الشيوعي العراقي، حيث شملَ هـذا القرار آلاف الشيوعيين ” حوالي 70 ألف شيوعي ” من كـوادر الحزب ، في مختلف القطاعات، فجُـمِّـدت الحياة السياسية، وتـم ” تبعـيث كل مؤسسات الدولة ” أي فُـرض الإنتماء لحزب البعث في كل مؤسسات الدولة، وهـرب الآلاف من الشيوعيين خارج العراق، وكنتُ واحـداً منهـم ، لأني مشمولاً بقرار الإعـدام ِ هـذا، وقد خرجتُ مع رفيقٍ لي متوجهين إلى بلغـاريـا، وبقينـا هـناك حـوالي الشهر، ولم يقبل مسؤول الحزب الشيوعي العراقي ، في بلغاريا المدعـو ” عبد فيصل ” من قبولنـا، فـعدنا أدراجنا إلى بغـداد، وبعـد أيّـام ألقي القبض على ذلك الرفيق وتمَ إعـدامه، وبقيت ” مختفيـاً لمدة زادت على الستة أشهـر، كما أن البعـث قـام ” بمجزرة إعـدام جماعية لـ ” 25 رفيق ” كانوا في الشرطة والجيش ، بتهمة إنتمائهم للحزب الشيويعي ، كان من بينهـم اللاّعب الدولي ” بشار رشيد ” وقد كتبت قصيدة في رثائهم وفي هجـاء البعث ، كانت بعـنوان ” مـوت الغصون اليـانعـة ” حُـكمت عليهـا فيما بعـد بحكم الإعـدام، ولكن هـروبي مرة أخرى في عام 1979 نحو سوريـا، قـد فـوّت الفرصة عليهـم. وكان في هـذه الفترة من عام 1979 قـد قام الرئيس حـافظ الأسد بزيارة للعراق ، وأعاد العلاقات بين الطرفين، وأصبح السفر بين العراق وسوريـا بواسطة ” هـوية الأحـوال المدنية ” فاستغليت هذه الفرصة وخرجت من العراق نحو سوريـا.
* كان خروجي من العراق ليـلاً من كراج الصالحية، واستقليت ” باصات النيرن ” التابعة لشركة النجف للسياحة والسفر، وانطلق الباص في تمام الساعة 11 مساءً من يوم 13 / 6 / 1979 ، ووصلنا إلى ” حـدود ﮔمرك منطقة الرطبة ” بغية الخروج رسميـاً ، وعـند التدقيق بالأسماء، خاطبني ضابط الجـوازات، وهـو يقول بصوتٍ هـادئ : مهـاجرٌ أم مُـسافر !؟ ثم ضحك ، وقال : أنت ممنوع من السفر، ولكن إذهب ، وتذكّـر أن في هـذا السلك أناسٌ شرفاء، وختم على الجواز بالخروج .
كانت هذه اللحظة واحدة من أصعب اللحظات في حياتي على الإطـلاق، فـأنا بين أنياب الأسد، ويخرجني رجلٌ شريف من أبناء بلدي . وقـد هـزّني هـذا الموقف ، وزاد من تعـلُّقي بأبناء العراق الشرفاء، وما أن إنطلق الباص باتجـاه نقطة الحدود السورية ” أبو الشامـات ” حتى داهمتني قصيدة حرّة في ذلك المكان ، للتعبير عـن تلك الحالة فكتبتهـا على ” دفتر صغير، كنتُ أحمله معي، وقبل أن نصل الحدود السورية ، قلتُ فيهـا : خُـطـوة في سَـفرٍ طـويل .
الثـورةُ تُـودِّعـك بوجوهـها الحزينة
وشـوارع بغـداد مُـكبَّـلةٌ بالصمت
وعـند الرمـادي، تُـشيِّعُـك أعمدة الكهرباء وخطوط الهـاتف
وتختـفي عـنك الطُـلول
وصحراءُك القـاحلة القـاتلة، هي آخرُ المحطّـات
في الدروبِ إلى جنّـات عـدن
تُـغـازلك أشارات الـدلائل والمـرور ” الرطبةُ تُـرحِّب بكـــم ”
وجوازات السفرِ والبوليس السرّي
وأغـلالٌ تـنـتظرُ الأيــــــــدي
السَـريـرةُ تغــتـلج بِـشـتّـى الفِـــــكر
وضابط الجـوازات يغازلك باستفـزازٍ عجيب :
” مُـهـاجرٌ أم مُـسافر ” !؟
يتفَـحّـصك كعـالمٍ نفسي
ويقـرأ بوجـهِـكَ كل المُـعــانـاة
ويسمح لكَ أن تَـمُـر
* * * يتبع .