كورونا و«سرقة القرن» البريطانية
سلط الإعلام البريطاني بعض الضوء على واحدة من أكبر صفقات الفساد وسرقة المال العام في بريطانيا في تاريخها المعاصر، والمقصود هنا سرقة مليارات الدولارات من المال العام على خلفية الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها حكومة بوريس جونسون إبان جائحة كورونا. وحتى الآن لم تعرف كل تفاصيل صفقات الفساد، ولا الرقم الدقيق لهذه السرقة التي إذا ما قورنت بما حدث في العراق في ما عرف بـ»سرقة القرن» ستتجاوزها وتتفوق عليها، من حيث الهدر في المال العام في دولة تعد واحدة من أعرق الديمقراطيات الغربية.
تابعت صحيفة «الغارديان» البريطانية الموضوع ونشرت في شباط/فبراير 2022 مقالا للباحث في الشوؤن الاقتصادية جاسبر جولي الذي اعتمد في مقاله على معلومات أوردتها هيئة مراقبة الإنفاق في البرلمان البريطاني، التي وصفت الخسائر بأنها «غير مقبولة»، وقال جولي إن من المحتمل أن يكون الاحتيال والخطأ قد كلفا حكومة المملكة المتحدة ما يصل إلى 16 مليار جنيه إسترليني عبر خطط القروض الطارئة إبان جائحة كورونا.
أشارت البيانات الواردة من التقارير السنوية للإدارات الحكومية إلى خسائر نتيجة الاحتيال والخطأ تتراوح بين 12.4 مليار جنيه إسترليني و20.1 مليار جنيه إسترليني
كما ذكر تقرير من لجنة الحسابات العامة، أن على وزارة الخزانة بحلول نهاية عام 2022 أن تأتي بتقديرات لخسائر الاحتيال والخطأ عبر المخططات الفردية ومقدار ما تنوي استرداده. وقد قدمت الحكومة قروضاً بقيمة 129 مليار جنيه إسترليني للأفراد والشركات خلال جائحة كورونا، لدعمهم مالياً في فترة قيود الإغلاق، وقد حذر عدد من وزراء الحكومة حينذاك من أن سرعة المخططات ستعرضهم للاحتيال. كما أشارت البيانات الواردة من التقارير السنوية للإدارات الحكومية إلى خسائر نتيجة الاحتيال والخطأ تتراوح بين 12.4 مليار جنيه إسترليني و20.1 مليار جنيه إسترليني، مع تقدير مركزي يبلغ 15.7 مليار جنيه إسترليني، ومنذ ذلك الحين، اكتشفت الوكالات الحكومية عمليات احتيال واسعة النطاق عبر عدة أجزاء من النظام المالي، بدءا من مخطط الاحتفاظ بالوظائف للعمال الذين تمت إجازاتهم، وخطة القروض المرتدة للشركات الصغيرة (BBLS)، وخطة إقراض توقف الأعمال بسبب فيروس كورونا للشركات متوسطة الحجمCBILS) )، كما يشمل ذلك الأموال المأخوذة من مخططات الطوارئ، مثل برنامج الإجازة، ونظام دعم الدخل للتشغيل الذاتي (SEISS)، وتناول الطعام في الخارج الذي تم إنشاؤه للمساعدة في إعادة فتح المطاعم في صيف عام 2020. وقد أظهرت التقارير الواردة من وكالات الجريمة والإفلاس أن بعض القروض، استخدمت لتمويل المقامرة والكماليات وتحسينات المنازل.
وعلى إثر الفضيحة المدوية استقال ثيودور أجنيو من منصبه وزيرا لمكافحة الفساد في وزارة الخزانة البريطانية في شهر كانون الثاني /يناير 2022، وقال في خطاب ألقاه في البرلمان البريطاني بعد انتقاد عدم اتخاذ إجراءات حاسمة لاستعادة الأموال المسروقة، إنه غير قادر على الدفاع عن سجل الحكومة، وذلك بعد توجيه سؤال له عن وجود عمليات احتيال في برنامج الإقراض الطارئ، الخاص بملف كورونا. وأشار إلى «أن وزارة الخزانة ليس لديها معرفة أو اهتمام بعواقب الاحتيال على اقتصادنا أو مجتمعنا. إن الغطرسة والتراخي والجهل جمدت آلية عمل الحكومة»، وأضاف أجنيو عند تقديم استقالته باعتباره وزيرا لمكافحة الاحتيال أنه «سيكون من غير النزيه إلى حد ما الاستمرار في هذا الدور إذا كنت غير قادر على القيام بذلك بشكل صحيح». وتشير التقديرات إلى أن الخطط الاقتصادية التي تبنتها حكومة بوريس جونسون في زمن الجائحة، عانت من أكبر خسائر احتيال وأخطاء وصلت قيمتها إلى 5.3 مليار جنيه إسترليني، حيث يُعتقد أن 4.9 مليار جنيه إسترليني، أهدرت أو ذهبت ضحية عمليات احتيال كبرى في المملكة، لذلك مولت الحكومة «فريق عمل لحماية دافعي الضرائب» لملاحقة الاحتيال في المخططات، بما في ذلك الإجازة التي تديرها هيئة الضرائب المركزية في المملكة المتحدة (HMRC)، لكن خبراء مكافحة الفساد قلقون من أن التمويل غير كاف لمكافحة الاحتيال في استرداد القروض، وبالتالي سيتعين على الحكومة شطب 21 مليار جنيه إسترليني من القروض للأفراد أو الشركات الذين لن يتمكنوا من سدادها. وقالت ميج هيلير عضو البرلمان عن حزب العمال، ورئيسة لجنة الحسابات العامة، إن الاحتيال على القروض كان جزءا من نمط الإخفاقات المتكررة من قبل حكومة حزب المحافظين، وقالت: «أدى الافتقار إلى الاستعداد والتخطيط، بالإضافة إلى نقاط الضعف في الأنظمة الحالية في عمل الحكومة، إلى مستوى غير مقبول من الأخطاء والهدر والخسارة والتعامل السهل مع المحتالين، والنتيجة انتهى بنا الأمر جميعا إلى سرقة مليارات الجنيهات من دافعي الضرائب الحاليين والمستقبليين». كما أشارت وزيرة الخزانة العمالية في حكومة الظل راشيل ريفز في تصريح لصحيفة «The Mirror» إلى أن النبأ «مخجل». وغردت على صفحتها الرسمية على منصة تويتر: «هذا أمر شائن. بينما ترتفع الأسعار، تلاشت المليارات من أموال دافعي الضرائب التي حصلوا عليها بشق الأنفس بسبب الاحتيال. بينما وزير الخزانة يكتفي بأن يهز كتفيه وهو يعلن أنه فقد المليارات إلى الأبد»، وأضافت: «كما قلت من قبل، يجب أن تكون الحكومة قادرة على إيصال الأموال إلى الأماكن الصحيحة، من دون خسارة المليارات من أموال دافعي الضرائب». وقد كشف رئيس الوزراء ريشي سوناك النقاب عن تشكيل فريق عمل لمكافحة الاحتيال مكون من 1265 عضوا خلال شرحه لتفاصيل الموازنة السنوية في البرلمان، وقد كلف هذا الفريق الخزانة البريطانية مبلغ 100 مليون جنيه استرليني لتنفيذ مهمته في قمع المجرمين الذين يستغلون خطط دعم الحكومة البريطانية. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، صرح جيم هارا الرئيس التنفيذي لهيئة الضرائب البريطانية (HMRC)، لصحيفة «فاينانشيال تايمز» بقوله إن مؤسسته ستكافح لاسترداد أكثر من نصف الأموال المفقودة، إذ تم فتح أكثر من 23 ألف تحقيق في النشاطات الاحتيالية المشتبه فيها، كما بدأت التحقيقات الجنائية في بعض الحالات. لكن يبدو أن حكومة حزب المحافظين ما زالت تكابر وتدعي أنها حققت إنجازات كبرى، على الرغم من عمليات الاحتيال والسرقة المليارية التي طالت أموال دافعي الضرائب في المملكة المتحدة، إذ قال المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء: «لقد قدمنا خطط دعم في ظل جائحة كورونا غير مسبوقة وبسرعة فائقة لحماية الوظائف وسبل العيش»، وأضاف، «ونتيجة هذا الإجراء هي أن اقتصادنا عاد إلى مستويات ما قبل الوباء، ونحن أول اقتصاد أوروبي رئيسي يبلغ هذا المستوى من الإنجاز». كما بين: «من الواضح أن الاحتيال غير مقبول، ونحن نتعامل مع أولئك الذين يسيئون استخدام النظام، وقد تم رفض العديد من المطالبات غير المؤهلة، ويتم اليوم العمل على استعادة الأموال المهدرة، إذ تم استرداد 500 مليون جنيه إسترليني العام الماضي، ومن المتوقع أن تسترد هيئة الضرائب البريطانية (HMRC) مليار جنيه إسترليني إضافية من أموال دافعي الضرائب».
إذن هل ستكون هذه القصة واحدة من قصص عديدة من الفضائح، التي تراكمت في سجل حكومات المحافظين المتتالية منذ أكثر من عقد؟ وهل ستظهر فضائح أخرى قد تطيح بحزب المحافظين في الانتخابات المقبلة؟