مسارات الحروف وكواليس الكتابة .
د.خيرالله سعيد.
* هـواجـس السياسة والأدب . ح 5
كان هـاجس الأدب والثقافة يسيطران على جوارحي، ويسحباني نحوهما بشدّة،، الأمر الذي خلـق حالة من التنافض في داخلي، حيث أن الآيديولوجيا الماركسية تجرّني نحو الإقتصاد السياسي والفلسفة الماركسية، فيما إيقاعات الحالة السياسية في الحزب الشيوعي العـراقي، والتي كُـنّـا نسير فيهـا ، ونحن بدمشق، كانت في حالة إضطراب، تبعـاً للحالة السياسية العامة والسائدة في كافة أحزاب المعارضة السياسية، وتشكيلاتهـا المختلفة بين ” جـود وجـوقـد ” وهي أسماء لجهـات سياسية عراقية مختلفة التوجّـه، ولهـا ارتباطاتهـا الخارجية، إقليميّـاً ودوليّـاً ، إضافة إلى الحالة السياسية الداخلية للحزب الشيوعي العراقي ، وبدايات ” التـخـلـخُـل ” في منظماته العاملة في داخل العراق ، وفي مناطقه الشمالية، وفي الخـارجِ أيضاً، حيث ظهـرت ” نـزعـة التسـلّط والإقصاء ” عند المنظمات القيادية، وانعكس ذلك في ” منظمة الحزب في دمشق” بشكلٍ واضح، وصارت ” مسـالة تجميد ” بعض الرفاق من العمل السياسي، سلوكـاً عند البعض ” القيادي ” وشمل هذا ” التجميد ” أعضاءً في المكتب السياسي وفي اللجنـة المركزية ” وفي القـواعـد الحزبية الأخرى .
وقـد سَـلّط الرفيق ” آرا خـاجادور ” عضو المكتب السياسي، الضوءَ على هـذه الحـالة، في كتـابهِ الهـام ” نبض السنين- حول الصراعات داخل حركة اليسار الوطنية العراقية” والصادر عـن دار الفارابي ، بيروت 2014 .
* لقد كانت إنعـكاسات هذه الحالة السياسية في أشُـدِّهـا داخل منظمة الحزب في دمشق، وبـدأت تظهـر ” حـالة من التكـتلات التنظيمية والحزبية ” بين مجموعـاتٍ مُعيّـنـة، وأغلبهـا يُـعـادي ” سياسة عـزيز محمد ومحورهِ ” المتمثّـل في ” فخري كريم وجماعـته ” وبقية أعضاء اللجنة المركزية والمكتب السياسي من الرفاق الأكراد ، وبـدأت تظهـر ” نـزعـة ً شوفينية ” عند هـؤلاء، بشكلٍ واضح، وهـو ما انعكس سلباً في العام 1984، حيث انعقـد المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي، وفجّـرَ الخلافات التنظيمية والسياسية، داخل المؤتمر، وأصبحت هـذه الإتجاهـات مكشوفـةً تماماً، وتلوكهـا الألسنُ في المقـاهي والتجمعات الأخرى، وانشرخ الحزب الشيوعي العراقي ، فكريّـاً وتنظيميّـاً ، وراحت ” جماعـة فخري كريم ” المسيطرة على منظمة الحزب في دمشق ، من إقصاء كل المُـناوئين لهـا، من الأدباء والمثقفين، والسياسيّن النشطاء، وعـمدت إلى إبعـاد بعض المشاغبين ” أمثالي ” إلى ( الـدورات الحـزبيـة ) في روسيا و بلغاريا وهـنـﮔـاريا، وﭼـيكوسلوفاكيا، وغيرهـا من البلدان، وكان هـذا الأمر قـد حـدث قبل إنعـقـاد ” المؤتمر الرابع ” بسنة تقريبـاً ، أي في عـام 1983 ، وكنتُ ضمن المرسلين إلى ” الـدورات الحزبية في بلغـاريـا ” ومـدّة هـذه الدورات الحزبية ، سنة واحـدة، وهـناك جرت ” القطيعة ” بـأسبابٍ شتّـى .
* أُرسلنـا إلى بـلغـاريا في شهـر ت1/ 1983 كمجموعة جاء أغلبهـا من ” قـوات الأنصار ” العاملة في ذُرى جبال العراق الشمالية، وأغلبهـم من ” المرضى وأسبابٍ صحيّـة ” ناهيك عـن وضعهـم النفسي ، وكانت هذه المجموعـة بحـدود ” 40 رفيقـاً ” ووصلنـا إلى صوفيـا بعـد العصر، وكان بإستقبالنـا ” الرفيق صـابر ” وإسمه الحركي ” سـليم ” وهـو مسؤول المدرسة الحزبية في بلغاريـا ، كُـردي الأصل، وشاعر باللغـة الكردية، كان يدرس الدكتوراه في العلوم السياسية،. فيما كان الرفيق حسين سلطـان، هـو المسؤول الأول في بلغاريا، وهـو مناضل كادح، أفنى حياته في النضال السياسي، وقد إستشهـد إثنان من أبناءه ، في سبيل قضية الحزب الشيوعي العراقي، وكان عمره ، آنذاك ، قـد تجاوز السبعين سنـة .
* جميلة، كانت صوفـيا ،وشوارعهـا نظيفة، وناسهـا بسطاء جـداً، تغلب عليهـم ” العـلاقات الفـلاحيّـة ” والبساطة في العيش، أسعار السوق ليست غاليـة أو مرتفعة، ولذلك كانت ” مخصّصاتنا المالية ” والتي نستلمهـا من ” أكاديمية العلوم اإجتماعية ” في صوفيا، كانت كافية وتسد حاجاتنا اليومية، نحن ” طُـلاّب القـارات الثـلاث – آسيا وأفريقـيا وأمريكا اللاّتينية ” . وهذه الأكاديمية تقع في حـيٍّ يسمّى ” خريستو بوتيف ” وهـو مناضل بارز، شاعر وإعـلامي، كان الصوت الصادح للكادحين البلغـار ، في الحرب العالمية الثانية، وكان من أوائـل المناضلين الذين رفعـوا البنادق ” البارتزانية ” ضد قـوات ألمـانيا النازية، عـندما إجتاحت بلدهـم .
* كانت بناية أكاديمية العلوم الإجتماعية، تشبه في بناءهـا العمراني الجامعة المستنصرية في بغـــداد، من حيث المساحة والشكل، سوى أن ” أبنية مساكن الطلبة، كانت عبارة عـن ” أربعـة بلـوكات كبيرة ” كل بلوك يستوعب 500 طالب، وكان البلوك الرابع ، مخصصاً لطلبة الدراسات العُـليا” الماجستير والدكتـوراه ” .
* دراستنا ، في هذه الأكاديمية، كانت مخصصة لدراسة ” الماركسية – اللّـينينية، والإقتصاد السياسي وتاريخ الحركة العمالية والشيوعية، ومـادة بـناء الحزب ” وكانت هـناك ” ترجمة مباشرة وفورية إلى لغـات تلك البلدان في القارات الثلاث ، أي هـناك مترجم من اللغة البلغارية إلى ” اللغة العربية واللغة الإسبانية واللغة الإنجليزية، واللغة الفرنسية، وكان على رأس المترجمين إلى اللغة العربية المترجم العراقي ” ضياء ” والبلغارية إيلينـا، والمترجمة المتخصصة في الإقتصاد السياسي ” فـاسلينـا ” والتي كانت تحب العراقيين بشكلٍ متميّـز، حيث كانت ” تعشقُ أحدهـم” قبل أعـوامٍ مضت ، وظلّت محافظةً على ذكراه .
دراستنا في هذه الأكاديمية كانت ” بأسماء سـريّـة ” لكل واحدٍ منّـا، نحنُ نختار هـذا الإسم ، فاختاريت ” الإسم الذي منحتني إيّـاه ” الجبهـة الديمقراطية سابقـاً وهـو ” ممدوح جهاد نـاصر ” .
كان أغلب رفاقنا القـادمين لهذه ” الدورة الحزبية ” من ” اهـل مدينة الثـورة ” وقليل من الأخوة الأكراد ” 5 رفاق ” من أهـل السليمانية وكركوك وأربيل، بينهم رفيقة واحـدة، والبقية من مدينة الحلة والعمارة والكوت، فيما كانت هـناك ، قبلنـا ثلاث رفيقـات هُـنَّ : أم مسار – زوجة رفيقي وصديقي الشهـيد ظـافر السلامي، والذي كان معـنا في اليمن، وأم ذُرى ، وهي زوجة الرفيق والصديق صباح زيارة، ورفيقة أخرى كانت زوجة لأحد الرفاق معنـا ، لم أعـد أتذكّـر إسمهـا .
وهكذا انتظمنا في الدراسة ، وكان الصديق ” أبو مـازن السيّـد ” وأبو روزا وسلام عبد الأمير سعيد ، وأبو عـادل، من أهل الثورة ، فيما كان معنا ” أبو هـاني الرسام ” من أهـل منطقة 55 في الثورة .
بـدأنا الدراسة بـإهـتمامٍ بالغ وجـديّة واضحة، وكُـنّـا متميّزين بكافة العلوم السياسية والإقتصادية التي كنّـا ندرسهـا، حيث أغلبنا ” درس هذه المعارف في ” تثـقيفاتـنا الحزبية ” واطلعنا عليهـا ” ضمن التثقيف الذاتي ” .
* والدراسة ، كانت طويلة جـداً، حيث ان زمنـهـا يصل إلى ” 8 ساعات يوميّـاً ” يتخلّـلّـها ساعة للغـداء، في مطعمٍ جميلٍ وكبير يستوعب أكثر من 2000 طالب ، وبجنب هذا المطعم ، هـناك ” مستشفى صغير خاص بالأكاديمية، وداخل فضائها الواسع . الأسعار كانت رخيصة جـداً، وكانت الرفيقة أم مسار، ترافقنا يوميّـاً ، تقريباً ، إلى المطعم كي تُـترجم لنا أسماء الأكلات وأسعارهـا، بغية تسهـيل مهـمتنا في الأيام الأولى .
* إنتظمنـا في الدراسة بشكل أكاديمي صارم، وبشكلٍ مختلف عـمّـا ألفنـاهُ في دراساتنـا في الجامعات والمدارس العربية، حيث كانت ” المحاضرات النظرية ” تُـلقى علينـا مباشرة، ومن قبل أساتذة مختصين، وتتـرجم المحاضرات، بشكلٍ مباشر، باللّـغة البلغارية .
* في هـذه الأكاديمية، بـدأ الطلبة ، من مختلف الجنسيات والبلدان، يتعارفون على بعضهـم البعض، وبـدأت ” العـلاقـات الإجتماعية ” تترسّـخ فيما بيننـا، بمرور الأيام، وبـدأنـا نمارس بعض أنواع الرياضة مثل ” كرة القدم وكرة السلة والطائرة، وكرة الطاولة ” البيـﮒ بونـﮓ ” وكنت أعشق هذه اللعبة مـنذُ صباي، وحصلت على المركز الثالث في السباق العام في الأكاديمية ، وكان الأول هـو ” سلمون ” من أثيوبيـا وسمير ، من فلسطين ، وأنا الثالث من العراق . وكان عـدد المشتركين في هذا السباق بحـدود 100 متسابق .
* في بداية شهر نوفمبر 1983، بـدأت تباشير الثـلج تنزل على سماء صوفيا ، وعند المساء، كنت أُراقب نزول الثلجِ هـذا، وكيف يتـلألأ بسقوطهِ تحت الأضواء الكاشفة، الموجودة في شوارع الأكاديمية.
سحَرني هـذا المشهـد بجماليته الطبيعية، ورحتُ أُرقبه من خلال نافذتي في الطابق السادس، حتى اصطبغـت الشوارع باللّـون الأبيض، كان منظراً رائعـاً تشهـدهُ عيناي للمرّة الأولى، وأخذ ، هذا المشهـد ، يغازلُ مخيلتي على الدوام، حتى أن قصائدي الأولى، في الشعر الحديث، كان للثلجِ فيهـا نصيبٌ كبير.
* بـدأت اللغـة البلغـارية ، تجدُ لهـا حيّـزاً داخل رؤوسنـا، شيئـأً فشيئـأً، وحتى أننـا بـدأنا الحديث بهـا بعـد الشهر الثالث، عند نزولنا إلى شوارع صوفيـا، لا سيما السيد أبو مـازن، وأنا وبعض الرفاق النابهـين، وكان المدرّسون والمدرِّسات يقولون لـنا : ” إذا أردتَ تعلّم البلغارية، بشكلٍ سريع، عليك أن تجد لك صديقة بلغارية ” وفعلاً لعبت النساء البلغاريّـات، اللاّتي تعرفنا إليهُـنّ دوراً سريعـاً في تـطوّر لغتنا البلغارية، فخلال الثلاثة أشهـر الأولى، كنت أتحدّث البلغارية ، بشكلٍ مقبول .
* حين أنهـينـا الفصل الدراسي الأول، من المقررات الأكاديمية، إنتخبوا مـنّـا فريقـاً للذهـاب إلى ” معسكر التـزلّـج على الجليد ” وكنا أربعـة من الفريق العراقي ، أنا والسيد أبو مازن وأبو روزا ورفيق آخر إسمه هـاشم الإحيمر ، على ما أعتقد، وذهـبنا بحافلة خـاصة إلى ” مُـخيِّمٍ للتدريب في جـبل فيتوشـا ” شمال صوفيـا، وبعض الرفاق الفلسطينيّين من الأرض المحتلة ، كل من ” مروان مشرقي وأنيس، بينما كان الرفيق ” عـدنان جـابر ” من الجبهـة الشعبية، وكان هـناك فِـرقـاً أخرى من كافة بلدان آسيا وأفريقيـاا وأمريكا اللاّتينية، كان مروان مشرقي، وهـو طالب دكتوراه معنا، هـو من يقوم بالترجمة لدروس التزلّـج على الجليد، وكان هذا الفتى يحب العراقيين بشكل جنوني، لأنه يقول ” تعلمت قراءة المقـام العراقي من أحد اليهـود العراقيين في الأرض المحتلة – منطقة نابلس ” فكنا في المساء نعقد مختلف النشاطات الفنيّـة، وكان للغناء النصيب الأكبر من هذه النشاطات .
* كان المعسكر التدريبي مُـدّتـهُ إسبوعـين، كان من أجمل أيّـام العُـمر، رغم إننـا كان ممنوعـاً علينـا أن نتصوّر بالكاميرات، وتصورنـا صورة جماعية واحـدة، صوّرتنا بهـا مدرِّستنا الخاصة بالتدرّب على الجليد ” السيدة ﮔـاليـنـا “، وصورة يتيمة واحدة لي، صوّرني بهـا الرفيق عـدنان جابر أثناء التزلّـج .
عُـدنا بعـد إسبوعين، وكانت أعياد الميلاد قـد أطلّت برأسهـا، فحين وصلـنا ، كان العاملون في الأكاديمية يزيّـنون القاعات والشوارع ، وكذلك بـدأوا بتزيين المطعم المركزي، وبعـد يومين من وصولنـا قـد بـدأت الإحتفالات بأعياد رأس السنة، وكان الحفلُ رائعـاً لتلك الجموع من أبناء القـارات الثلاث ، وكانت ليلة ساحرة قضينـاهـا حتى الصباح .
* في بداية السنة الجديدة 1984 م ، بـدأنا الدراسة ” للسِـمستر الثاني ” والذي سيدوم حتى نهـاية شهر حزيران من تلك السنة .
في مطلعِ الربيع الجميل، من ذلك العام، بـدأت منظمتنـا الحزبية تستعـد للذكرى الخمسين لتـأسيس الحزب الشيوعي العراقي في 31 / آذار / 1984 ، فـاستعـدينا بشكلٍ جيّـد، وحضّرنا لمهرجانٍ شعري ومعرض للفنان التشكيلي أبو هـاني ، وكانت أغلب لوحاته رسمهـا عندما كان في ” فصائل الأنصار ” في شمال العراق ، وكانت بحدود 30 لوحـة فنيّـة، ومجموعة غنائية، وأخرى شعرية، وترافق ذلك حصول الرفيق ” مـاجد عبد الرضا ” على درجة الدكتوراه بامتياز، في العلوم السياسية . وقد صادف هذا الحفل وصول وفـد من الحزب الشيوعي في الأرض المحتلة إلى بلغـاريـا ، كان يظم كل من مائير فلنر ، وأميل تـومـا، وأميل حبيبي ” صاحب المتشائل ” والشاعرين تـوفيق زيّـاد وسميح القـاسم، وهـنا تعرفت بهم جيداً ، لا سيما الشاعر سميح القـاسم،
* في بداية شهـر نيسان، من كـل عـام، كانت أكاديمية العلوم الإجتماعيىة في بلغـاريـا، تقيمُ تقليداً سياسيّـاً – أكاديميّـاً ، حيث تقيم، ولمدة إسبوع / كونفرنس دولي/ للأحزاب الشيوعية والعمالية وحركات التحرّر، في القـارات الثلاث، وتقوم الوفـود المشاركة في الدراسة بهذه الأكاديمية، بتقيّـيم ” تجربتـهـا السياسية ” طوال حياتهـا النضالية، حيث يقوم ” منـدوب ” من كل حزب شيوعي أو حركة تحرر، بتقـديم ” تقـريـراً أو مـداخلة مكتوبة ” عـن تجربة حزبه السياسية، ويشتمل هذا التقرير، نقـداً واضحـاً، للتجربة السياسية وإخفاقاتهـا في كُـلِّ بلـد، سلبـاً أو إيجاباً، وكان المسؤول عـن ” مجموعـتنا الحزبيـة ، داخل الأكاديمية ، البروفيسور مـاركـوف ” وهذا الرجل الأكاديمي ، كان ” أوّل بارتـزان في بلغـاريا، وأوّل من شكّـل ” قوات الأنصار البلغارية، أثناء الحرب العالمية الثانية في مناطق الجبال البلغارية، ومن هذه الزاوية النضالية، إختار مجموعتنا ليكون مشرفـاً عليهـا ، خلال مـدة الدراسة في أكاديمية العلوم الإجتماعية، فكان يسهر على راحتنا، وتنفيذ مطاليبنا، وهـو عضوٌ في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البلغـاري ، وهـو مدرّسٌ مختص في مـادة ” بنـاء الحزب ” .
ذات مرّة، وقبل انعـقاد الكونفرنس الدولي، إجتمع بنـا داخل أحد القاعات الدراسية، وطلب منّـا أن نُـقـدّم تقريراً مفصلاً عـن تجربة الحزب الشيوعي العراقي، بكل سلبياتهـا وإيجابيّـاتهـا ، دون تـردّد، لأن ” تجربة الحزب الشيوعي العراقي ” كما قال : واحـدة من أبرز تجارب العالم الثالث وأقسـاهـا” ولذلك طلب نقـد كل سلبيات التجربة في الحزب، كي يقدّم هـذا التقـرير إلى ” أعمال الكونفرنس الدولي ” والذي سيعقد بعـد إسبوع ، ولذلك قـرّرت اللّـجنة التنظيمية ، أن نعقد إجتماعات مسائية، لغرض تقيّيم تجربة الحزب وتقديم ” مطالعـة متميّـزة ” لأعمال الكونفرنس الدولي، وطلب منا ” الرفيق سليم ” مسؤول المنظمة الحزبية في الأكاديمية، وكلِّ منـا يقدم بعض ملاحظاته حول تجربة الحزب النضـالية، وطرحـها ، لغرض مناقشتهـا، وأخذ ما يفيد منهـا، لغرض إدراجه في ذلك ” التقرير ” الذي سيقدّم إلى أعمال الكونفرنس، وفعـلاً عند المساء، إنشغلَ اغلبنا في كتابة ” رؤوس أقـلام ” وبعض الملاحظـات، لغرض مناقشتهـا في الإجتماع القادم، في اليوم التالي، قـدّمت دراسة نقدية صغيرة – بحدود 8 صفحات، أتطرّق فـيهـا إلى تجربة الحزب، خلال مسيرته النضالية، خلال الخمسين عام المنصرمة، وما رافقهـا من إخفاقات في سني النضال، وقسمتهـا إلى 6 محاور رئيسية، تخضع هذه المحاور إلى ” تقسيمات زمنية ” وفق أحداثهـا، وما رافق ذلك من إنكسارات ونجاحات، وكانت تلك المحاور هي :
1- محور البداية والتأسيس ، ويخص المرحلة الملكية .
2- مرحلة النضال بعد الحرب العالمية الثانية، وحدوث أول إنشقاق في الحزب عام 1954 ، مُمـثّـلاً ” بحركة راية الشغيلة، وما رافق ذلك من تصدُّعاتٍ، وكيف استطاع الحزب من تجاوزهـا .
3- مرحلة النضال في زمن عبد الكريم قاسم، والمَـد الشيوعي، وإخفاق الحزب في عـدم تسلّم السلطة ثوريّـاً من عبد الكريم قاسم، بوصف تلك المرحلة ” مرحلة المَـد الثوري ” للحزب في صفوف الجيش والقوات المسلحة، وفئات الشعب الأخرى .
4- مرحلة النضال بعد سقوط عبد الكريم قاسم ، وسيطرة البعث على السلطة في عام 1963 ، بوصفهـا أخطر مرحلة مرّ بها الحزب، حيث فقد من أنصارهِ الآلاف من الشيوعيين، وكان على رأسهم السكرتير الرفيق سلام عـادل .
5- مرحلة 1973 ، وإعـادة العلاقة السياسية مع البعث، ضمن ما يعرف ” بــالجبهة الوطنية التقدمية ” وما عانى الحزب خلالهـا من محاولة الإجهـاز عليه، بعـد 5 سنوات .
6- محور النضال المسلّح، وتجربة الأنصار في شمال العراق، سلبـاً وإيجاباً .
*وقـد قوبل ” التقرير ” الذي قدّمته بإمتعاضٍ شديد من قبل البعض، فيما سـانده رفاقٌ آخرين، وقـد شكّـلت هـذه الرؤية التي قدّمتـهـا موقفـاً سلبيّـاً عليّ، بوصفي أتعارض مع ” نظرة الحزب” ولذلك أُهمل هذا التقرير ، وراحت ” جـواسيس الرفيق سليم ” تتـرصّـد خُطاي.
وحين قـدّم الرفيق أبو عـادل تقـرير منظمتنا الحزبية ، إلى الكونفرنس الدولي، كان يثير الشفقة والإستهـزاء من قبل الحاضرين في الكونفرنس، وكانت الأسئلة التي طرحت عليه كانت محرجة، ولم يستطع الإجابة عـنهـا، لا سيما اسئلة الرفيق ” ريفـاكاليوس ” من الحزب الشيوعي القبرصي ” أكيل ” حيث طرح سؤالاً وسط القاعة قال فيه : كيف تـدّعـون بأنّكـم حزب الشهـداء، وبهذا الكم الهـائل، ولم تكن لكم القدرة الثورية لإستلام السلطة ؟ وكان الجيش والشعب معكم قبل عام 1963 ؟ وغيرهـا من الأسئلة المحرجة جـداً ، لا سيما فيما يخص ” تجربة التحالف مع حزب البعـث ” والإخفاق السياسي الكبير معه؟ ولم يستطع الرفيق أبو عـادل الردَّ عليهـا .
* لقـد فـتح هذا ” الكونفرنس ” أعيُننـا وعقولنـا على أشياء هامة في الوعي السياسي والفكري كُـنّـا نجهـلهـا نحن الذين في القـاعدة، ولم تكن لـدينـا القُـدرة التحليلية لمناقشة خطـابنا الفكري، ومعرفة قـدراتنا التنظيمية، وكيف نُـحلّل واقعـنا الإجتماعي والسياسي ، والعناصر الفاعلة فيه، والمؤثّـرة سلبـاً وإيجاباً، وكيف نقـرأ قُـدراتنا بوعيٍ عـالٍ، ونفكّـك كل الإشكالات، حينما نـدرك قوانـا العقلية، وندرسُ بعمق واقعـنا الذي نتحرّكُ فيه، وهـذا ما أهملنـاه في دراسة تاريخ حركتنا السياسية منذ عقـودٍ خلت، وكُـنـا ” نـداري ” أخطاءنا التاريخية بجهـلٍ وعاطفة، ولم نقف مرة واحدودة في مؤتمرٍ داخلي لحزبنا، وننتـقـده بوعيٍ ومسؤولية، ولذلك كان هذا ” الكونفرنس الدولي ” كشفـاً لعيوبنـا الفكرية والتنظيمية، لأنه كشف عيوبنـا أمام الآخرين، من الناحية الفكرية والتنظيمية، وعـرفنا قيمة الكـادر، عندما يكون في الموقع القيادي للتنظيم .
* بعـد إنتهـاء أعمال الكونفرنس الدولي، عُـدنا إلى مقاعـد الدراسة ثانية، لمواصلة بقية المـواد النظرية المقرّرة، خلال الشهرين القادمين، ومن بعـدهـا قـدّمنا الإمتحانات الخاصة بكل مـادة، وبعـد ذلك ، في بداية شهـر حزيران ، بـدأت المرحلة التطبيقية للعلوم التي درسناهـا، فـرحنا نزور المصانع والمعامل الإنتاجية في صوفيا أولاً، ومن ثم كانت لـنا ” جولة عملية ” للإطلاع عـلى العمل السياسي والإنتاجي للكوادر والقيادات السياسية في بلغاريـا، حيث كانت لـنا لقـاءات في محافظة ” بـلـوفـديف ” وشومن ” وأخيراً مدينة فـارنـا الجميلة ، تلك المدينة الواقعة على الطرف الغربي من البحر المتوسّـط، هذه المدينة السياحية المشهـورة بشواطئهـا الرملية الذهبية، والتي يقصدهـا السُـوّاح من كل أرجاء الكون .
خارقة هذه المدينة بجمالهـا، وبطبيعتـها البحرية الخلاّبة، ناهيك عـن مناطقهـا الجبلية ، والكهـوف التي كان يلتجـأُ إليهـا الثـوّار البلغـاريّـون أثناء الإحـتلال النازي لبغـاريـا، وقـد زرنا هذه الأماكن والكهـوف الجبلية، وقـرأنا أسماء الشهـداء، وتـواريخ المعارك فيهـا، وكان البروفيسور مـاركـوف، يشرح لـنا طبيعة ” عـمل الأنصار الشيوعيين ” في تلك الفترة، وكيف خلقوا الحـالة الثـورية عند المزارعين وأبناء القـرى، فقد قال لـنا : كُـنّـا 20 نصيراً في هـذه المناطق الجبلية، و 200 قرية كانت تَـمُـدّنـا بالمعلومات والطعام، وتسمعُ منـا ما نقول وما يطلب منهم في رصدِ تحركات العـدو الألماني، وقـد نجحـنا في ذلك إلى أبعـد الحـدود .
* ثم عند أوقات الظهيرة، ونحن في محافظة فـارنـا ، كُـنّـا نــزور ” منظمات الحزب الشيوعي البلغاري، في تلك المُدن والضواحي، لنكتسب منهـم الخبرة السياسية والتنظيمية في إدارة البـلـد، وعند إنتهـاء تلك اللّـقاءات الحزبية، كانت تُـقـام لـنا الولائم، وتقدّم لنـا أنواع المشروبات الروحية، المُـصنّـعة محلّياً من العنب والتين البلغاري ، وغيرهما من الفواكـه البلغارية، في هـذه المدينة .
وعند المساء، كانت تُـقـام لنـا الحفلات اللّـيلية الراقصة، في أفخر المطاعـم .
* في مقر إقامتنا في ” فـارنـا ” ، كانت بناية ” المدرسة الحزبية ” تقع على سـاحل البحر مباشرة، ومن حُـسن حظّـي، كانت الغرفة التي أسكنُ فيهـا تقع في زاوية ركـنيّـة ، من الطابق الأرضي، وأشاهـد من خلالهـا، عند تباشير الصباحات الأولى، كيف تُـشرق الشمس من على سطح البحر، وتعلو عـنه شيئاً فشيئا، يُسحرني هـذا المشهـد الطبيعي، وأحرصُ على مشاهـدته كل صباح، وقد كتبت أكثر من قصيدة لهذا المشهـد، وكذلك مشهـد الغروب الساحر، حيث تنزل الشمس بقرصهـا النحاسي، وتغطسُ في البحر، فيغيب الأصيل، وتُـدهشك لحظة المغيب بجمالهـا الآسر ، وتعبق بأنفاسك هبوب الريح، مُشبّـعة برطوبة البحر، ويزداد المشهـد جمالية عندما تُـجالسُكَ فتاة خارقة الجمال، وهي تمُـدُّ ساقيهـا، من شرفة الشقّـة، إلى مياه البحر، وتـدعوك للغوص معها في تلك الميـاه الآزوردية الساحرة، عند ذاك الأصيل الآفِـلِ، وتغريك رشقـات المـاء ورذاذه المتطاير نحوك للنزول، فيتكامل المشهـد السحري، وتسحبك أيـادٍ ناعمة إلى طاولة صغيرة عند الشرفة، لتحتسي كأسـاً من النبيذ البلغاري ، وتعاود التخيّـل الرومانسي، بكل أبعـاده .
مـرّ الأسبوع الأول سريعـاً، ونحنُ في مدينة فـارنـا، بين لقاء سياسي وزيارة مصنعٍ للنبيذ، أو موقعٍ إنتـاجي أو متحفٍ جميل، حتى أن آخر ليلة لنا في المدينة، كان في مطعمٍ عبارة عـن ” كـهـف ” في أحد الجبال القريبة من مركز المدينة، والنـادلات يرتـدين ملابس الكهـوف القصيرة والمصنوعة من الجلدِ والشعر، ويقمن بشي أنـواع اللّـحـوم، ويقدمن لك أرقى أنواع النبيذ .
كانت هذه السهـرة، في هـذا المكان ” الكهـف ” مخصصّة على” شرفنـا ” من قبل محافظ المدينة، وبعض أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البلغاري، وكانت ليـلةَ وداعٍ لا تُـنسـى .
* في اليوم التالي، شَـدِدنا رحالنـا وعُـدنا إلى مدينة صوفيـا العاصمة.
في هذه الفترة ، للإسبوعين الماضيين، كانت ” الرسائل الشخصية ” التي تصلنـا من بعض الأصدقاء، تصل إلى ” مكتب دائرة البريد ” في الأكاديمية، وتُـسلّم هذه الرسائل إلى ” منظمة الحزب الشيوعي العراقي” في الأكاديمية، وكان الرفيق سليم ، مسؤول المنظمة الحزبية، هـو الذي يستلم البريد من ذلك المكتب، وفـي أحدِ تلك الأيام، وصلني ” ظرف كبير ” لبعض الكتب المرسلة لي، فاسترعت فضول الرفيق سليم ، وفتحـهـا، فوجد فيهـا ” رسالة من الصديق ” كريم – أبو فكرت ” وهو شقيق الرفيق ” أبو شروق ” عضو اللجنة المركزية للحزب، وكنا صديقين مذ كُـنّـا في المنظمات الطلابية في بغـداد ، وكذلك نحن صديقنـا في داخل دمشق.
* فتح الرفيق سليم هذا المظروف، وقرأ فيه ” سرداً مطوّلاً ” عن حالة الحزب، وأفكاراً مُـشوّشة، تصف الواقع في ” كردستان ” وحركة التمرّد لدى الرفاق الأنصار، والحديث السياسي الذي يدور بين أوساط العراقيين في مقاهي دمشق، والحالة الفكرية التي كانت تسود منظمات الحزب في دمشق، فاحتفظ بالرسالة لديه، وطلب من عـاملة البريد أن تُـسلّـمه ” كل الرسائل التي تخص رفاق الحزب الشيوعي العراقي ، الذين يدرسون في الأكاديمية” فامتثلت لذلك .
* حينما وصلت حافلتنا الكبيرة إلى داخل حرم الأكاديمية، إستقبلنـا الرفيق سليم مع الرفيق حسين سلطان والرفيق د. ماجد عبد الرضا، وهـنأؤنـا بسلامة الوصول، وفي ذلك المساء، إجتمع الرفيق سليم مع المجموعة المسؤولة عـن ” الرحلة التنظيمية” وهـم كل من ” كريم عرب وأبو حـازم وأبو عـادل ” وأطلعهم على ” الوثائق والرسائل ” التي وردتني في ذلك المظروف، فتكتـّموا عليهـا، ولكنهـم أخذوا بـإجراءات المراقبة الدقيقة، لكل ما يصلني من رسائل، حتى أنّـهم ” كلّـفوا حزبيّـاً” الرفيق جميل ، وهـو كريم عبد الأمير سعيد، والساكن معي بنفس الغرفة، بحكم العلاقة التي تربطني بعائلته من أيام مدينة الثورة، حيث أني أعرفُ عائلته فرداً فرداً، فراح يفتّـش في كُـتبي وأوراقي، فلم يعثر على شئ، وأنـا لا أعلم بذلك، ومطمئـن إلى جـواره، وبنفس الوقت، لم يراودني أيّ شكٍّ بأن منظمة الحزب ، بـدأت تراقبني بشكلٍ دقيق، بل وطلبت من اللجنة المركزية للحزب، ومنظمة دمشق بأن يـوافوهـم بتقريرٍ مفصل عـن : سلوكي وآرائي الحزبية والسياسية ” وهل هي منـاوئة لسياسة الحزب! أم متطابقة معـه ، وأرسلت لهـم تلك الأوراق والرسائل، التي عثروا عليهـا في صندوق بريدي الخـاص ، والتي وردتني من الصديق ” أبو فكرت ” ، فـجاءهم الرد ، بعـد أكثر من إسبوعين، بـأن يجروا معي ” تحقيقـاً مفصـلاً حول تلك المعلومات، وأن يتخذوا قراراً حاسمـاً فيهـا ” وأنا لا أعلم قـط ماورد فيهـا ! وقد كانت ” منظمة الحزب بدمشق بحالة إنفـلات وتسيّب، وأغلب المعلومات السريّـة كانت تتسـرّب، بشكلٍ أو بـآخر، بحكم ” الظاهرة التي تفشّـت ” أي حالة الإقصاء والتجميد ” الحزبي لرفاق في المكتب السياسي، وفي اللجنة المركزية، وقواعـد الحزب الدُنيا ، وكل ذلك كان يشير إلى ” حـالة التمرّد والإنقسام بين صفوف الحزب الشيوعي، لا سيما وأن تلك الفترة ” صيف تموز 1984 ” كان يجري فيهـا الإعـداد إلى ” المؤتمر الرابـع ” الكارثة، ولذلك كانت اللجنة المركزية ومكتبهـا السياسي، كانت تخشى بروز ” تـكتُّـل ” يحدث في الخـارج، لا سيما بين تلك الأوساط والكوادر السياسية، التي تعِـدُّهـا كقادة للتنظيم في المستقبل، ومن بينـهـا ” كـوادر الحزب في بلغـاريـا ” .
* بعـد وصول هـذا الرد، وأعتقد كان في بدايـة شهـر تموز 1984 ، وقد أنهـينا فترة ” البرنـامج التعليمي في أكاديمية العلوم الإجتماعية في بلغاريا، وَوُزِّعت علينـا ” شـهـادات التخـرّج ” من تلك الأكاديمية، كخرّيجين للعـلوم السياسية، وكانت شهـادة تخرّجي تحمل المعلومـات التالية :
” 1- رقم الشهـادة ……. 001829 .
2- تـاريخ الإصدار ……14 / تموز / 1984 .
3- الإسم … ممـدوح جهـاد نـاصر ” خيرالله سعيد ”
4- الـرقـم في السجل …….. 1744 .
…………………………………………………………..
* ووُزِّعـت علينـا ، تلك ” الشهـادات ” عند الصباح ، وفي اليوم التـالي، طلبوا مِـنّـا إعـادة هذه الوثائق ، لأنه سيتم إرسالهـا إلى منظمة الحزب في دمشق، ومن هـناك سوف تستلمونـهـا ثانية .
* وكانت هـذه خديعة لي ، ولم أستطع أن أجـد ” ماكنة تصوير ” لأُصوّر هذه الشهـادة، فـأخذوهـا مني بهذه الحيلة .
* بعـد يومين ، جـاءني الرفيق ” كريم عرب ” وقال لي : الرفيق سليم يريد يشوفك في البلوك الرابع، في غرفته ، فـذهبت إلى هـناك، وكان الوقت ( 11 صباحاً ) فوجدت هـناك 4 رفاق في إنتظاري هم كل من ” الرفيق سليم والرفيق أبو حـازم والرفيق أبو قيس، صاحب البشرة الحمراء والعيون الزرق، وكان من طلبة الدكتوراه في الأكاديمية، وليس من مجموعتنا، إضافة إلى الرفيق ” أبو عـادل وكريم عـرب ” وحين جلست إستغربت الأمر، وقلن : خير إنشاء الله ! فردّ الرفيق سليم قائلاً : الرفيق أبو سعاد، إن حزبنا يتعرّض إلى هجمةٍ شرسة، وظهـور بعض التيارات الإنتهـازية المخرّبة، تحاول شق وحدة الحزب، وأنت متهـم بشكلٍ صريح وواضح ، ضمن هـذه ” المجموعات المخرّبة ” . فقلت : على كيفك عيني! مـاهذه الإتهـامات أولاً ، ماهي الوثائق أو التسجيلات أو الصور أو المنشورات أو الدعـوات التي مارستـهـا، حتّى توجّـه مثل هذه الإتهـامات ؟
فـأخرج ظرفـاً فيه تلك الرسائل ، التي كان بعث بهـا ” أبو فكرت ” وقرأ بعض نصوصهـا، ثم قال : أبو فكرت صاحبك! قلت نعـم ، مذ كُـنّـا في العراق، وأنـا مسؤوله المباشر في ” إتحـاد الطلبة العام ” ولي صداقة مع أخية الرفيق أبو شروق عضو اللجنة المركزية .
– الرفيق سليم : لكنه يخاطبك بنبرة ” التوجّـه الحزبي ” وأن تتحرّك لبث أفكارك بين المجموعـة التي فيهـا أنت الآن !
– قلتُ حسنـاً : هذه المجموعـة كلّـهـا أمامك ، فهـات لي واحداً منهـم، بأني طلبت منـه أن يقوم بأي تحرّك لبث الأفكار المناوئة للحزب؟ فقـام أبو حـازم من الجلسة ، وخرج من الغرفة وأتي بالرفيق ” جميل ” الذي يسكن معي بنفس الغرفة، فـاستدركت وقتـهـا ما يُحـاك ضدّي، جلس الرفيق جميل، وقد أصبح وجهـهُ أصفراً كلون الليمون، وإرتباك بـادٍ عليه، فقال الرفيق سليم : هذا ارفيق جميل ، تعرفه جيداً ! قلت نعم أعرفه. فقال : إعـترف لنـا بأنّـكم ” أنت وهـو وأبو فكرت ” في تنظيمٍ واحـدٍ!
قلتُ : كيف ذلك ؟ فطلب سليم من الرفيق جميل أن يتحدّث عـن علاقته بـأبي فكرت، فقال : قبل مجيئأنا إلى بلغـاريـا، كان الرفيق أبو فكرت، قد فاتحني بتشكيل تنظيم خيطي، داخل صفوف الحزب، يعمل ضد سياسة خـط الحزب الحـالي، وقال لي بأن هـناك رفاقـاً معكم من الذاهبين إلى بلغـاريا ! قـلت : ومـا دخلي أنـا في الموضوع الذي إتفقتم عليه أنتَ وأبو فكرت، هذا أولاً، وثانيـاً : طوال هذه الفترة التي أنت معي في الغرفة، حوالي 10 أشهـر، هـل طلبت منـك شيأ من هـذا القبيل ؟ قال : لا ، فالتفتُ إلى الرفيق سليم وقلت : هـل أنتَ أو غيرك من الرفاق الجالسين في هذه الغرفة، سمعوا مني بعض هـذه الأفكار والطروحات ” المخرّبة ” التي تـدّعي بأني قمتُ بهـا ؟ فلم يجب أحـدٌ من الحاضرين . فقـال الرفيق سليم : وصلتنا أخبارٌ وتقارير من دمشق، تـؤكّـد هذا المنحى؟ قلت : حسنـاً إقـرأهـا، حتى نقـرُّ بهـا أو ننـاقشهـا ؟ قال : ” هذه تعليماتٌ سريّة ” خاصة بلجان المراقبة في الحزب .
قلت : أنا وأنت والآخرين، جزء من هـذا الحزب، وعلينا تقع مسؤولية الحفاظ على هـذا الكيان السياسي، ووفق ” تعليمات لينين في قـواعـد الحزب الداخلية والتي يقول فيهـا : ” كل عضو مسؤولٍ عـن الحزب، والحزب مسؤولٍ عـن كل عضوٍ فيه” ثم أردفتُ قائـلاً : هـذه إحدى القـواعـد التنظيمية التي درسناهـا في ” مـادة بناء الحزب ” فكيف تمنعُ عنّـي معلومة تخصّـني شخصيـاً، وتريد أن تـّهـمني باطلاً بعملٍ لم أقُـم بـهِ. قال بصوتٍ حـاد ومرتفع : إسمع أبو سعاد ، دون أن يستخدم كلمة ” رفيق ” إحنـا هـناه لدينا الصلاحية والإمكانية أن نُسلّم أيّ مدسوسٍ أو خـائن في الحزب إلى السلطات الأمنية في بلغـاريـا، وهي بدورهـا ستعرف كيف ستسلّمك إلى المخابرات العراقية ؟
قلتُ بشـدة ونهضت من مكاني : هـاي الساحة أمـامك وكل بلغاريـا بين يديك، وإذا أنت رجل ، إعـمل مـا بـدا لك ، وليس معي حديثٌ آخر، فـاتخذ أيَّ قـراٍر شـئت، وخرجت من الغرفة .
* حـاول بعض الرفاق تهـدئة الموقف، ولكني خرجت غيرُ مبالٍ لأحد ، ويبدو أن ” هـؤلاء المجتمعون في هـذه الغرفة ” قـرّروا فصلي من الحزب، بشكلٍ قاطع، ورفعـوا تقريراً إلى المكتب السياسي واللجنة المركزية، للمصادقةِ عليه، ومنذ تلك اللحظة، لم أعُـد أحضر أو أُدعى إلى أيّ إجتماع ، حزبيٌّ كان أو إجتماعي .
* حينما خرجت من جلسة التحقيق تلك، كتُ قـد حسمت الأمر مع نفسي بـالإفـــتراق النهـائي من الحزب . وفي الطريق وأنـا خارج من البلوك الرابع ، صادفت ” الرفيق فـرحـان ” عضو اللجنة المركزية في الجبهـة الديمقراطية لتحرير فلسطين، مع رفيق آخر من اللجنة المركزية للجبهـة الشعبية، خارجين من نفس المبنى ” البلوك الرابع ” وهما متوجهـين إلى ” مطعم الجامعـة ” فاستصحباني معهـما، لكنهـما لاحظـا عليّ حـالة من الإضطراب، وقلق نفسي واضح، فقالا : شـو في رفيق ّ كـأنّك مهموم جـداً ! قلت بـلا ، وشرحت لهـم الموقف، ومـا دار معي، ورجوتهـما أن يكونا على استعداد للسـؤال عـنّي، إذا ما غِـبت عـن ” المدرسة الحزبية ” خلال هـذه الفترة، فربما سيقومون بـأعتقالي، بشكلٍ أو بـآخر. فــاستغربا هذا الموقف من منظمة الحزب وقالا : نحنُ معـك، ولـن يمسّك أحـدٌ، وسوف نحوّل ” مقعـدك الدراسي ” على حصّتنا ، إن إقتضى الأمر، فـلا تخف أيهـا الرفيق . فشكرتهما على هـذا الموقف النبيل، وطلبت منهـم عـدم إبـاحة هـذا الأمر بين الرفـاق، حتى نرى ما العمل فيمـا بعـد ! فـأجاباني إلى ذلك .
* بعـد إسبوعين من هـذا الحدث، جـاء الرفيق عبد الرزاق الصافي، عضو المكتب السياسي إلى الأكاديمية، وطلب مقابلتي واللقـاء بي ، فـالتقينـا في أحـد الغُـرف وأبلغني مـا يلي : الرفيق أبو سعاد ، إن قـرار الحزب يشير إلى ” فصلك من الحزب ” ونهـض وغـادرني، وكانت تلك هي القطيعة التـامة بيني وبين الحزب الشيوعي العراقي * كان ذلك في بـداية شهـر آب / 1984 م .
* لم أبُـح لأحد بهـذا الأمر،، ويبدو أن منظمة الحزب قـد أخبرت بعض الرفاق، وأخفت الأمر عـن الآخرين، فطلبت من المنظمة الحزبية ” جـواز سفري والشهـادة الأكاديمية”
فقال الرفيق سليم : الشهـادة، ستبقى عـند الحزب، وراجع منظمة الحزب في دمشق حولهـا، أما الجواز ، سوف يسلم لك في يوم السفر، عند المغادرة من المطار، بتاريخ 31 / آب / 1984، وفعلاً أعطوني الجواز في المطار، أمّـا ” الشهـادة الأكاديمية” فلم تسلّم لي حتى هـذه اللحظة ! .
* * * يتبع .