الكتابة القرآنية والإيماء النصي
جعلت العنوان الفرعي لكتاب: «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية» (2008) ينحو: «نحو كتابة عربية رقمية». وكانت الدعوة من وراء ذلك ترمي إلى إعطاء الكتابة العربية الحديثة بعدا جديدا يتلاءم مع الوسيط الجديد. ولكي يتحقق هذا البعد على النحو الأمثل ثمة ضرورة للاستفادة مما تحقق مع الطباعة، التي لم تستثمرها الكتابة العربية بصورة كبيرة. لقد ظلت كتابتنا تحمل جذورها الشفاهية، ولم تتطور كثيرا لتستلهم التيبوغرافيا التي تحققت مع الطباعة.
وجاءت دعوة موازية لهذه إلى ضرورة «إعادة كتابة القصيدة العربية» في مقالة نشرتها منذ مدة في جريدة «القدس العربي» بهدف تجاوز إكراهات الوسيط الكتابي الذي ظهر مع مرحلة المخطوط، والذي انتقل إلينا مع الطباعة، دون أن يتغير ليتناسب معها، وكأن قدر كتابة القصيدة العربية القديمة يقضي بأن تظل على الصورة التي كتبت بها قديما إلى الآن.
حين كتبت في الأسبوع الماضي حول الكتابة القرآنية وسؤال المعنى تصور بعض المتفاعلين معها أنني أدعو إلى تغيير الكتابة القرآنية، وأنا أناقش دور الكتابة في عملية القراءة وتحصيل المعنى، لكن ما كنت أرمي إليه هو تقديم اقتراح كتابة جديدة لا تتعارض مع الكتابات القرآنية المختلفة، وهي كثيرة بالمناسبة، وليست بديلا عنها. إنها تكملها، وتستفيد من كل منجزاتها، ساعية بذلك إلى وضع الكتابة التي أقترح في سياق جديد يتواءم بصورة أكثر وضوحا وبساطة مع متطلبات النص القرآني وفهمه، من خلال إعادة النظر في العلاقة بين الشفاهة والكتابة، من جهة، وبين القراءة والكتابة، من جهة أخرى. يحافظ الاقتراح الذي سأقدم على الرسم القرآني كما هو لأن المسلمين حملوه بعض جوانب المعنى الذي تعرفه الكلمة، حسب الرسم المختلف الذي تأخذه في سياقات مختلفة. وأقصد بالكتابة هنا الفضاء النصي الذي تتحرك في نطاقه الآيات والسور، بكيفية تستفيد منه في توزيع النص على النحو الذي يمكننا من تحصيل المراد منه لأن النص القرآني مختلف عن كل النصوص. وكلما اجتهدنا في إعادة كتابته وقراءته كتابة وقراءة جديدتين تراعيان خصوصيته أمكننا ذلك من فهمه بصورة أجلى وأبسط وأوضح.
أنطلق في هذا التصور من الفكرة التالية التي تكونت لديّ من خلال اهتمامي بالوسيط الرقمي، ومفادها أن أي كتابة لأي نص، وأقصد هنا كيفية توزيعه على الصفحة، يقدم قراءة خاصة. كما أن أي قراءة لأي نص تنطلق بوعي، أو دونه، من كيفية كتابته على الورق. هذه العلاقة الجدلية بين الكتابة والقراءة هي نفسها التي نجدها في الخصوصية التي تقدمها لنا اللغة العربية، والتي لا نكاد نجدها في أي لغة أخرى. إنها علاقة تشكيل الجملة وقراءتها: فنحن نشكل النص لنقرأه، ونقرِؤه لنشكله. ولا يتحصل المعنى المراد إلا من خلال القيام بهذا العمل المزدوج في آن واحد.
إن المتكلم شفاها يستعين بالحركة لأداء ما يريد إيصاله إلى مخاطبه، سنسمي مؤقتا تلك الحركات بـ»الإيماء» ونفترض، تبعا لذلك، أن التواصل الكتابي، يستعين بدوره بـ»حركات» أي بما يمكن أن نسميه بـ»الإيماء النصي».
لتوضيح هذه الفكرة أرى أن المتكلم شفاها لا يؤدي المعنى الذي يود إيصاله إلى مخاطبه، فقط، بواسطة اللغة التي تنتهي إلى مسامع متلقيه. إنه يوظف بشكل مواز لها حركات الوجه واليد التي تراها أعين المخاطب، فتتكامل مع ما يسمعه لفهم المعنى. فإلى جانب الصوت ثمة الحركة. ويمكن ضرب المثال بالشاعر حين ينشد، والراوي حين يسرد، والخطيب وهو يخطب. ألا نرى متكلما في الهاتف، ومخاطبه لا يراه، كيف يوظف يديه، ومختلف الإشارات المصاحبة لكلامه، وكأنه يحس بأن الأداء اللغوي ما لم تصاحبه الحركة غير تام. إنه في حاجة إلى الحركة لإنجاز فعله الكلامي. وتبعا لذلك يمكننا الاستنتاج أن التواصل الشفاهي يزدوج فيه الصوت الذي نسمع، والحركة التي نرى.
إذا اتفقنا على هذا، واعتبرناه قاعدة كلية لأي تواصل شفاهي في الحياة اليومية، نتساءل: كيف تجري الأمور في التواصل الكتابي؟ فهل النص المكتوب هو فقط عبارة عن أصوات (حروف) تتمفصل إلى كلمات، وجمل ومقاطع وبنيات؟ وهل الصوت المحول إلى كتابة يؤدي المعنى المراد فقط بواسطة اللغة؟ إذا أجبنا بالإيجاب وسلمنا بأن التعبير الكتابي أبلغ من الشفاهي نكون بذلك نخرق القاعدة الكلية التي سلمنا بها أعلاه، والتي يزدوج فيها الصوت مع الحركة؟
إن المتكلم شفاها يستعين بالحركة لأداء ما يريد إيصاله إلى مخاطبه، سنسمي مؤقتا تلك الحركات بـ»الإيماء» ونفترض، تبعا لذلك، أن التواصل الكتابي، يستعين بدوره بـ»حركات» أي بما يمكن أن نسميه بـ»الإيماء النصي». يتجلى هذا الإيماء النصي في القرآن الكريم في علامات الوقف، ومختلف الحركات، والإشارات، ومن بينها رسم الكلمات، وكيفية توزيع النص على الصفحة، واستعمال الألوان، وغيرها من الحركات التي نراها بالعين، ولا نسمعها حين نقرأ النص القرآني. وهذه «الإيماءات» النصية لها دخل قوي في مسألة فهم معاني النص القرآني. إننا حين نقرأ النص القرآني لا نسمع فقط أصواتا، لكننا نرى أيضا حركات، وهي تتضافر مجتمعة مع النص المقروء، والمكتوب معا لتجعلنا ننتبه إلى ما «نسمع» حين نقرأ «صوتيا» أو «نرى» ونحن نقرأ «كتابيا». إننا حين نقرأ، نسمع ونرى في آن واحد، وهنا مكمن تجديد الكتابة.
كاتب مغربي