طباخ الحنين: اللاجئون السوريون والهوية والطعام في إسطنبول
مع قدوم اللاجئين السوريين لمدينة إسطنبول التركية، اختار قسم منهم، من القادمين من دمشق على الأخص، الاستئجار في حي الفاتح الذي مثّل قبل ستينيات القرن الماضي أساس المدينة، ليس فقط من الناحية المعمارية، لكن في ما يخصّ السكان أيضاً، فقد كان لأهالي هذا الحيّ طريقتهم وآدابهم في المعاملة، كما عُرِف بكونه مكانا للعلماء الأثرياء وفق ما يرويه المؤرخ التركي ألبير أورتايلي في مذكراته عن الحي الذي عاش فيه، وكان مثالاً للمعمار الخشبي، قبل أن يختفي، وتحلّ مكانه البيوت الإسمنتية. كما يعرف الحي بوجود جامع الفاتح، الذي بني بعد فترة قصيرة من دخول العثمانيين للمدينة في عام 1453، وهو ما صبغه بأجواء تاريخية ودينية. وربما ما ساهم في اختيار السوريين لهذه الحي أيضا، العلاقات الشخصية والأقارب الذين سبقوهم، كما أنّ شريحة من الدمشقيين كانت تبحث عن مكان أكثر محافظة مقارنة بباقي الأحياء الإسطنبولية، إضافة إلى أنه بدا قريباً في شكل شوارعه ومساجده من شكل مدينة دمشق.
وفي ظل هذا الوجود، أخذت المحلات والمطاعم السورية في حي الفاتح، سواء في شارع مالطا، ولاحقاً شارع الأمنيات، تعكس مع زيادة أعدادها حجم الحضور السوري في الحي، كما غدت هذه الأسواق مكانا مناسبا لفهم يوميات السوريين وعلاقتهم بالمدينة، وطبيعة التغيرات والتفاوض حول هوية السوريين في ظل اللجوء. وخلال الفترة الممتدة بين 2013ـ 2016 تقريبا، حدث تطور آخر على صعيد الوجود السوري في إسطنبول، تمثل بتحول المدينة لمركز جذب اقتصادي، مع قدوم أصحاب الأموال السوريين من الخليج، ما انعكس على عالم الطعام السوري عبر افتتاح مطاعم أكبر من ناحية، وأكثر تنوعا على صعيد الأصناف. ففي السابق، كان المطعم السوري يقدم كل شيء، وفي الغالب، شاروما أو فلافل. لكن خلال هذه الفترة افتُتحت مطاعم لتقديم الطبخ، وأخرى تخصّصت بالشاورما وغيرها. ولم يعنِ هذا التمايز التنوع في الطعام وجودة تقديمه حسب، بل أتاح فرصاً لطباخين آخرين بالظهور في المدينة؛ ومن بينهم الشيف (أبو عمر) صاحب مطعم البيت الدمشقي، الذي تخصص في سنوات افتتاحه الأولى بتقديم طبق سوري تقليدي ويُدعى (القشة أو المقادم أو السجقات) ويتكون من أمعاء الخروف المحشي بالأرز، بالإضافة إلى لسان الخروف. يطلق على الطبق ذاته في مصر اسم «ممبار» بينما يُسمى في العراق بـ»الباجة» وفي تركيا باسم «إشكمبيه» وهو طبق يتطلب وقتا طويلا من الإعداد، وكان سابقا يُطبخ في المنازل من قبل السيدات، لكن في العقدين الأخيرين ومع تطور ظاهرة الأكل في السوق وبسبب الرائحة القوية المرافقة لإعداده، لم تعد سوى الأمهات الكبار في السن هن من يطبخن هذا الطبق، بينما اعتمد الغالبية من الرجال والنساء على تناوله في الخارج. إلا أنّ نجاح الشيف أبو عمر لا يقتصر على كونه أول من قدّم هذا الطبق الشعبي بين السوريين في إسطنبول، وإنما في قدرته على تحويل عالم الطبخ ومطعمه وغاياته الاقتصادية إلى جزء أيضا من شبكات الحنين والذاكرة في بلدان اللجوء.
أبو عمر اللاجئ… ارتحال البشر والطعام
تبدو ظاهرة أبو عمر جزءا من تطور حياة اللاجئين السوريين في تركيا، وما أفرزته من فرص اقتصادية، وهذا ما تؤكده ربما التقلبات التي عرفتها يومياته خلال سنوات ما قبل 2011. ولد أبو عمر(مهند البغدادي) في فترة الثمانينيات في دمشق، وعمل في فترة شبابه في محل صغير لإكسسوارات أجهزة الكمبيوتر كان يمتلكه في شارع البدوي في حي الشاغور العريق، وبعد أربع سنوات من الثورة، قرر الهجرة لأوروبا عبر إسطنبول بسبب تردي الأوضاع المعيشية والأمنية في البلاد. كانت إسطنبول قد تحولت خلال فترة 2015/2017 تقريبا إلى ممر أساسي لتهريب اللاجئين، حيث كان يمكن العثور في حي إكسراي على محلات لبيع مستلزمات العوم والهرب في البحار، وعلى مئات اللاجئين ممن ينتظرون مهرّبا كي يقلهم عبر الحدود اليونانية إلى أوروبا. وقد تمكن أبو عمر من العبور إلى اليونان، ولاحقا هولندا، وهناك مكث لعدة أشهر في الكامب، ثم انتقل للعيش في أحد المدن الهولندية. قرر أبو عمر في هولندا العمل في مهنة غير رسمية، فالحياة داخل الكامب بدت له مملة، والالتحاق بالعمل يحتاج إلى عدد من الشروط، ما جعله يشعر أحيانا بتوقف الحياة، وفي إحدى المرات، كما يذكر لنا، اقترح على أحد أصدقائه بيع أكلة القشة عبر صفحة على فيسبوك. وهنا بدأت علاقته مع هذا الطبق، الذي سيلعب دورا في تحويله إلى نجم مشهور بعدها بسنوات. اللافت أن هذه الأكلة الشعبية لم يتعلمها لدى شيف مختص، أو في سوق شعبي في دمشق، وإنما في مطبخ والدته، فالرجل الدمشقي/ المديني، كما يؤكد، يبقى حشريا على صعيد الطبخ وتعلم فنونه، كما لعبت مقاطع يوتيوب، التي غدا أبو عمر مولعاً بها، دورا في صقل مهاراته. وفي ظل شعوره بعدم الجدوى من البقاء في هولندا، وخلافا لحركة الهجرة السورية نحو أوروبا، قرر أخذ طريق العودة في نهاية 2016، لكن هذه المرة ليس لدمشق، بل لإسطنبول، التي بدت أكثر غراء له على صعيد إكمال مشروعه في طبخ القشة السورية.
البيت الدمشقي في إسطنبول… العبور للماضي
عندما وصل إلى إسطنبول، استأجر أبو عمر محلاً في شارع الأمنيات (حي الفاتح) لكن صغر المحل ووجوده في مكان لا يطل على الشارع مباشرة، لم يتيحا له الشهرة الكافية. وبعد سنة تقريبا من هذا العمل، انتقل بمطعمه إلى أحد الشوارع المجاورة لجامع الفاتح، وخلافا للمطعم الصغير الأول، حمل المكان الجديد لغة ورائحة أخرى. أول ما يلفت النظر عند زيارته هي هندسة المطعم، فقد اختار الطباخ، الذي أشرف بنفسه على تجهيز مطعمه، أن يبدو قريبا في شكله من البيوت الشامية التقليدية، كما نعثر داخل المكان الجديد على مقاعد خشبية، وزخرفات شرقية بسيطة، ونحاسيات وضعت على الجدران، وصورة لبيت الوالي في دمشق، الذي تعود نشأته الى القرن الثامن عشر، وقد تحول في العقدين الأخيرين إلى فندق سياحي. تتعمّق رائحة المكان لدى الزائر، مع العثور على نوفرة في وسطه، وعلى قواعد خشبية للسقف قريبة من القواعد التي نراها في شوارع دمشق القديمة.
كان الإثنوغرافي الفرنسي أريك دينيس في سياق قراءته للقاهرة بين آثار الماضي وإعادة التأسيس الليبرالي قد لاحظ أنّ إعادة إحياء روائع الماضي لا يقف عند حدود رسم صور عن المدينة، أو أحياء أبنيتها فقط، بل يشمل أيضاً الاستخدامات الاجتماعية للأبنية ولإطارها القديم أيضاً، عبر جعل التراث والتاريخ حاضرين في المدن.
يقول أبو عمر إنّ سبب اختياره لهذا الديكور التقليدي مرتبط بفكرة البيت الدمشقي التقليدي والحنين إلى أجوائه وشكله، ولاسيما النوفرة. كما يوحي كلامه، حول نشأته في أحد الأحياء التقليدية في دمشق، بوجود إرث ثقافي حاول هذا الطباخ نقله معه للخارج. لكن هذا الاستنتاج سرعان ما يتراجع مع ما يذكره لاحقاً من أنه لم يعش في بيت دمشقي قديم، وإنما انتقل وهو صغير، بعد بيع منزل جده الكبير، إلى حي الزاهرة، الذي يعدّ امتداداً لحي الميدان التقليدي، وهو حي كان قبل خمسينيات القرن العشرين عبارة عن بساتين فواكه وخضروات قبل أن يشهد مع وسط الستينيات انتقال عدد من العائلات الميدانية وبعض العائلات الدمشقية الأخرى للاستقرار والبناء فيه. ومع الاستمرار في الحديث تنكشف بعض الخيوط الأولى عن مصدر هذا المخيال المعماري إن صحّ التعبير، إذ يؤكد أنه في فترة شبابه كان مولعاً بمتابعة مسلسلات البيئة الشامية، التي أخذت تُنتَج بعد التسعينيات، لتصل لذروتها مع إنتاج مسلسل «باب الحارة» الشهير، وربما ليس هو الوحيد الذي أبدى تأثراً به، فقد ترافق بث «باب الحارة» بموجة شعبية من المشاهدة والتفاعل مع أبطاله والأجواء الاجتماعية التقليدية داخل الحارة، وبالأخص لدى جيل الثمانينيات والتسعينيات. كما يبين أن هذا الولع بالبيئة التراثية للمسلسلات طالما دفعه إلى التردد على مطاعم دمشق القديمة في حي باب توما مثل بيت جبري، لرؤية نوفرته الكبيرة، الذي تحوّل أيضا من بيت تقليدي إلى مشروع استثماري. وربما يختصر أبو عمر هذا التأثر بالدراما بما ذكره لنا خلال إحدى حواراتنا: «سبب حبي لمسلسل باب الحارة هو أنه أمدني بأجواء تراثية».
القرية الشامية
كان الإثنوغرافي الفرنسي أريك دينيس في سياق قراءته للقاهرة بين آثار الماضي وإعادة التأسيس الليبرالي قد لاحظ أنّ إعادة إحياء روائع الماضي لا يقف عند حدود رسم صور عن المدينة، أو أحياء أبنيتها فقط، بل يشمل أيضاً الاستخدامات الاجتماعية للأبنية ولإطارها القديم أيضاً، عبر جعل التراث والتاريخ حاضرين في المدن. والشيء ذاته حدث في سوريا بعيد مسلسل «باب الحارة» فقد تزايد الاهتمام ببناء مطاعم شبيهة بالماضي، مثل القرية الشامية على طريق المطار في دمشق. وهذا ينطبق على أبو عمر، الذي لن يكتفي بمجرد الولع بمسلسل «باب الحارة» بل سيعمل على نقل أجوائه إلى مطعمه، لنشهد وجود عالم باب الحارة في إسطنبول وإعادة إحياء لشخصية أبو نجيب المشهورة في مسلسل «زمن البرغوت» ( مسلسل شامي). وربما ما يدعم هذا الاستنتاج، هو لسان المكان، واستخدامه طريقة نداء الباعة في دمشق الماضي؛ فقد كان هذا الطباخ من أوائل الذين حاولوا جلب الزبون من خلال مقاطع الفيديو المصورة على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يقوم بتقمص دور «أبو غالب» أحد أبطال الأجزاء الأولى من «باب الحارة» والذي يعمل في بيع الحمص وينادي على زبائنه من خلال ذكر طقطوقات شعبية، وقد كانت هذه النداءات، خلال النصف الأول من القرن العشرين، تمثل شارة لسانية للتعرف على ما يبيعه أصحاب المحل، كما كانت توظّفُ أحيانا كغزل مبطن لفتاة جميلة، أو لإهانة شخص غير محبوب يمر أمام البائع، وفق ما يذهب لذلك قتيبة الشهابي في كتابه «نداءات الباعة في دمشق الفيحاء» لكن يمكن القول أنّ هذه النداءات اختفت تدريجيا في سوريا، وبقيت مقتصرة على بعض الأسواق القديمة، وبأشكال أخرى أيضا، قبل أن يُعاد إحياؤها مرة أخرى من خلال شخصية أبو غالب في المسلسل، كما ذكرنا. لكن رغم هذا التقليد لباعة الماضي، فإنّ ما يلفت النظر في نداءات أبو عمر إضافته لبعض التعديلات، من خلال وضع مؤثرات موسيقية تراثية للنداء بالشكل الذي يساهم في تعميق الأجواء الدرامية والتراثية، وبالتالي زيادة فرصة جذب الزبائن، ولعل هذا التعديل الذي يجريه على التقاليد، يدعم فكرة أنّ التقليد لا يعني بالضرورة الجمود، بل هو عملية تشهد تعديلات عديدة عبر الزمن.
والمُلاحظُ أيضاً في تأثر واستفادة أبو عمر من الدراما الشامية، أنه ليس الوحيد الذي يعيش هذه الحالة داخل حي الفاتح في إسطنبول، فالكثير من المطاعم السورية باتت تفعل ذلك، مثل مطعم بوز الجدي لبيع الفول والفلافل، الذي يقوم أيضاَ على مدار اليوم بعرض مسلسلات شامية مثل «ليالي الصالحية» ما يضفي أجواء تراثية على مشهد تناول الطعام، بالإضافة إلى ارتداء العاملين فيه لباسا مشابها للباس المسلسلات الشامية القديمة. واللافت أنّ سياسات الحنين هذه لم تعد تقتصر على السوريين حسب، بل نرى أن نمط التأثر بصور الماضي واستثماره بات يشمل أقساما كبيرة من مدينة إسطنبول ومطاعمها خلال السنوات الأخيرة؛ مثل محل عارف أوغلو ولباس وطرابيش شغيلته العثمانية، فبعد سياسة اللبرلة التي عرفتها البلاد مع قدوم حزب العدالة والتنمية، بيّن بعض الباحثين الأتراك أنّ عمليات إعادة الترميم التي عرفها مركز المدينة التاريخي في السنوات الأخيرة لم يكن الهدف منها الحفاظ على الماضي، بل خلق فرص استثمارية وسياحية.
لا يعني هذا الكلام أنّ أبو عمر هو جزء من سياسات الحنين وإحياء الماضي الرسمية التركية، بل هو أحد مستهلكي/أو صناع هذه السياسة السائدة في دول المنطقة من القاهرة إلى إسطنبول. فهو يحاول استثمار التراث لغايات التسويق وجلب زبائنه من اللاجئين السوريين، والذين أخذوا بالمقابل يندفعون بوتيرة أكبر نحو أماكن شبيهة بالماضي والأماكن السورية القديمة في ظل الشعور بالغربة وانهيار الذاكرة الاجتماعية جراء الحرب، ولذلك نراهم يقبلون على مطعمه تحديداً لتناول هذه الوجبة، وليشاركوه أيضا في لعبة الذاكرة
والماضي المتخيل (الدرامي) المعاد صنعه داخل إسطنبول.
كاتب سوري