قراءات القرآن الكريم وكتاباته
يختلف القرآن الكريم عن غيره من النصوص البشرية. فهو تنزيل من الله إلى رسوله الكريم. كان الوحي يقرئ الرسول (ص) آيات وسورا في أوقات متباعدة. فكان يحفظها ويتلوها أمام الصحابة الذين كانوا يتلقونها منه شفاها، فيحفظونه بدورهم. وكان منهم من يكتب ما يحفظ محتفظا به لنفسه. استمرت مرحلة تلقي القرآن الكريم وتداوله شفاها طيلة مرحلة التنزيل. وكان أن أتخذ المصحف العثماني صورة الكتاب الذي انتظم فيه القرآن كاملا موزعا إلى سور تتضمن آيات وفق ترتيب توقيفي عن الرسول (ص). وآية ذلك ما يمكننا الوقوف عليه بدقة في الميتا نص القرآني الذي اعتبرناه القسيم الثاني للنص القرآني في جوانبه المختلفة. وظلت الكتابة القرآنية تتطور مع الزمن، مع تطور كتابة اللغة العربية وما عرفته في صيرورتها مع مرحلة التدوين، والتفنن في الخطوط والأشكال التي تبرز لنا في مختلف المخطوطات العربية القديمة.
استمر هذا التطور في العصر الحديث مع ظهور الطباعة، فكان الاحتفاظ بالصورة الأولى للنص القرآني المتمثلة في المصحف العثماني، وما عرفه تاريخيا من تغييرات. وبرزت اجتهادات متعددة تعمل على تطوير الكتابة القرآنية بما يتلاءم مع ضرورات القراءات الجديدة والمتجددة بهدف تقريب تلقي القرآن الكريم وقراءته من مختلف أنواع المتلقين ومستوياتهم التعليمية. وتحقق ذلك بصورة أجلى مع الوسائط الرقمية فتعددت الكتابات القرآنية التي تسعى لجعل القرآن الكريم في متناول طبقات القراء: برز ذلك في تنويع الخطوط، واستعمال الألوان، وتوظيف الخط الطباعي، وإضافة المُناصات التفسيرية، والإيماءات النصية المختلفة استجابة لتطور الإمكانات المتحققة مع التطور التكنولوجي.
إن كل هذه التطويرات التي حدثت في كل التاريخ حافظت على الصورة الأولى للنص القرآني، رغم الاختلافات بينها، وذلك لتحقيق غايتين اثنين: تتمثل أولاهما في حفظ القرآن كما أنزل، وتقديمه على الكيفية التي كان يتلقاها بها الرسول (ص) وصحابته. وثانيا بجعله أقرب إلى فهم مختلف شرائح القراء، وليس فقط المتخصصين في العلوم القرآنية، والمدركين لمختلف ما اتصل به من خصوصيات كتابية وقرائية.
يمكن لإنجاز تاريخ لكتابة القرآن الكريم أن يكشف لنا مختلف المراحل التي مر منها، والعوامل التي ساهمت في تجديد قراءته وتفسيره وتأويله لأن أي كتابة جديدة تؤدي إلى خلق أفق جديد في التلقي والفهم. ولعل في تعدد الكتابات ما يدل في الوقت نفسه على تعدد القراءات. لذلك يمكننا، ونحن نتأمل انتقال النص القرآني من الشفاهة إلى الكتابة ثم إلى الطباعة، فالرقامة، أن العلاقة بين قراءة القرآن الكريم وكتابته ظلت متلازمة. وتبعا لذلك يمكننا في ضوء هذا أن نميز بين أنواع القراءات والكتابات، ودور كل منها في التعامل مع النص القرآني بصور متعددة ومختلفة.
أختزل القراءات المتعددة في نوعين أساسيين: قراءة أحادية الصوت من جهة، وأخرى متعددة الأصوات. فالأولى ذات بعد وظيفي يتمثل في قراءة القرآن في الصلوات، والمناسبات الخاصة، وفي ضرورات حفظه، أو محاولة شرحه، وتفسيره، وتأويله. قد تكون هذه القراءة فردية، أو جماعية، وسريعة، أو بطيئة. وقد تكون لسورة، أو لآيات متعددة من سورة طويلة، كما في القراءات الجماعية في المناسبات، أو لحزب كامل، كما في قراءات الفجر والمغرب كما هو معهود في المساجد المغربية. ونعتبر هذه القراءة أحادية الصوت لأنها خطية تنبني على تسلسل الآيات كما هي مرتبة في المصحف.
أما القراءة المتعددة الأصوات فتبرز لنا عادة في الترتيل الذي تتعدد فيه المقامات الصوتية التي يوظفها القارئ المجود، والتي يراعي فيها تبدل الأصوات، حسب سياق الآيات، وتغير موضوعاتها، فيعيد، ويستعيد، وكلما تقدم قليلا نجده يعود إلى مقاطع سابقة، ويربطها بغيرها، فيسمح هذا التنويع الصوتي، في تحقيق نوع من التأمل والاستكناه الذي لا تتيحه القراءة الخطية التسلسلية. لذلك نعتبر هذه القراءة غير خطية، وقد يكون فيها التركيز على مقاطع محددة يختارها المقرئ بعناية، أمام جمهور خاص، أو نجدها في التسجيلات التي تقدم القرآن كاملا.
يمكننا إذا ما توقفنا أمام هاتين القراءتين بتفصيل أن نجد أنفسنا بصدد قراءات متعددة لكل منها سماتها حسب المقام والسياق، من جهة، وما تحمله، أو تسعى إلى تحقيقه من إمكانات لفهم دقيق ومتأن، أو تحصيل متعة جمالية، أو انغماس في تجربة تعبدية وخشوعية من جهة أخرى. وما قلناه عن القراءة يمكننا الوقوف عليه بخصوص الكتابة. فالكتابة الخطية تتابعية، وهي التي ظلت مهيمنة خلال مرحلة الكتابة مع المخطوط بسبب الإكراهات التي كانت تفرضها الكتابة باليد، والتقيد بما كان يتصل بالورق وغيره من الأدوات المتصلة للكتابة. ورغم هذه الإكراهات فهي لم تقف حاجزا دون تحقيق كل الشروط التي تم توفيرها لتقديم النص القرآني وفق القواعد الملائمة المختلفة التي تطورت مع الزمن، والتي أضيفت إليها المسحات الجمالية التي تميزت بها كتابة المصحف بالمقارنة مع غيرها من الكتابات.
أما الكتابة غير الخطية فاتخذت صورا متعددة، في مرحلة الطباعة والرقامة. ومن أهم مميزاتها أنها لم تخضع لإكراهات فضاء الصفحة كما وجدنا ذلك مع الكتابة السابقة. لقد عملت على إعطاء البعد البصري صورة مختلفة لا تقف فقط على ما يتصل بالكلمة، أو رسمها، ولكن أيضا كان التركيز فيها على الموقع الذي تحتله على الصفحة. فنجد في بعض المصاحف، ولا سيما الإلكترونية منها، والمقدمة بصيغة الوورد، كيف أنها تتقيد على مستوى السطر، بالآية، فتقدمها لنا من بدايتها إلى نهايتها، ثم تعود إلى سطر آخر، لتقدم آية أخرى وهكذا دواليك. وتتيح هذه الصيغة إمكانية معاينة كل آية على حدة، والوقوف عليها أثناء القراءة، والتأمل فيها قبل الانتقال إلى غيرها، والربط بينها، وبين ما سبقها، واستعادتها، وهكذا دواليك. قد تحقق، رغم ذلك، طريقة هذه الكتابة قراءة خطية لدى بعض القراء. وهذا صحيح. كما أن الكتابة الخطية قد تؤدي إلى قراءة غير خطية. لكن نوع القراءة إجمالا يتحدد في ضوء الكتابة، وإن كان الأمر عامة يتصل بنوع القراء، وإمكاناتهم الخاصة، ومعرفتهم بشروط القراءة ومقاصدها.
إلى جانب الكتابة «العمودية» التي لا تتقيد بفضاء الصفحة، نجد كتابة خطية، تسلسلية، ولكنها تعمل على توزيع كتلة النص القرآني حسب الموضوعات، فتميز بين الآيات والمقاطع القرآنية تبعا للموضوع الذي تتناوله، بألوان مختلفة تتناسب مع نوع الموضوع. وإذ ندرج هذه الكتابة في غير الخطية، لأنها تتيح للقارئ التوقف على ما تقدمه التقسيمات النصية حسب الألوان وهي تميز بين الموضوعات، فتجعله يعمل على تبين ما تقدمه له، قبل الانتقال إلى المقاطع التالية. كما أن فضاء الصفحة حين تتعدد فيه الموضوعات يسمح للقارئ بالنظر إليها في كليتها، ثم الرجوع للوقوف على كل جزء منها. ولعل هذا من مقاصد تبني هذا التوزيع للصحفة لدى معدي هذا النوع من الكتابة القرآنية.
وأخيرا يمكننا أن نشير إلى نوع ثالث من هذه الكتابة، وهي مختلفة عن السابقتين، والتي تتميز بكونها تسعى إلى التعامل مع السورة الكاملة في حد ذاتها، فتقدمها لنا على شكل خطاطات تتخذ صورا متعددة تجعلنا نقف على ما في أي سورة من موضوعات، أو قضايا.
تجعلنا علاقات القراءات بالكتابات القرآنية نقرأ بآذاننا، ونسمع بأعيننا.
*كاتب من المغرب