الأدب الصيني بترجمة الأمريكي جولدبلات
حقق علماء السرد ما بعد الكلاسيكي تقدماً نوعياً ملحوظاً في مجال النظرية الأدبية خلال العقدين المنصرمين من القرن الحالي، بعد أن أخذت مخابر البحث العلمي الغربية تضع مشاريع ذات إمكانيات كبيرة، تستقطب نحوها الخبرات على اختلافها، من أجل إحراز قصب السبق في ميدان ما من ميادين هذا العلم، التي هي شاملة تدمج التخصصات وتنفتح على مختلف المعارف على الصعيدين النظري والتطبيقي. ما أعطى لهذا العلم خصوصية وجعله يتجاوز جغرافية القارتين الأوروبية والأمريكية الشمالية، ليصل إلى أقصى الشرق، محققاً قفزات جديدة في النظرية الأدبية هي بمثابة طفرات نوعية بالقياس إلى سابقه، أي علم السرد الكلاسيكي بصورتيه البنيوية وما بعد البنيوية.
وها هو الابتكار النظري في مجال علم السرد ما بعد الكلاسيكي، لا يرتهن بالغرب وحده، بل هو مرهون بالشرق أيضا. وتشهد الدراسات السردية في الصين واليابان والهند وروسيا وغيرها مشاريع جديدة صارت تأخذ موقعها في النقد الأدبي العالمي. وواحدة من سمات تلك المشاريع أنها اتخذت من اللغة الإنكليزية طريقا به تساهم مع المشاريع الغربية في التطوير من جهة، وتؤكد هويتها القومية من جهة أخرى عبر اهتمامها بدراسة آدابها الوطنية، التراثية منها والمعاصرة.
وفي إطار الاهتمام بتوظيف لغة الآخر في توصيل السرد الصيني، تأتي توجهات الباحثين في الصين منذ مطلع الألفية الثالثة نحو دراسة سردياتهم باللغة الإنكليزية بوصفها إحدى اللغات الأكثر انتشارا في العالم. ولعل آخر الأبحاث في هذا المجال تتمثل في كتاب (قرن من الأدب الصيني المترجم 1919ـ2019) الصادر بطبعة روتلدج باللغة الإنكليزية عام 2021 وحرره الصينيان: ليا جربر ولينتاو كي. يسلط الكتاب الضوء على الحركة الترجمية للأدب الصيني خلال مئة عام، وما مرت به هذه الحركة من مراحل نقدية وتاريخية، وشارك في تأليف هذا الكتاب مجموعة باحثين، قدموا دراسات تصب في باب الترجمة الأدبية كظاهرة لها اتجاهات وطرائق وأدوار ومنها، دور أدب الهجرة في تنشيط حركة ترجمة الأدب الصيني وتحقيق التفاعل مع قرائه الغربيين.
ويتألف الكتاب من جزأين، حمل الجزء الأول عنوان (تأملات نظرية وتاريخية) واهتم الجزء الثاني بـ(ترجمة: الصفحة والمرحلة) وما يعنينا من الكتاب هو الفصل الخامس المعنون (ترجمة الأمريكي هوارد جولدبلات Howard Goldblatt لرواية (لعبة الحياة والموت) للروائي الصيني مو يان Mo Yan وكتبه لو شاو Lu Shao وفيه درس موضوع الترجمة الأدبية من منظور علم السرد المعرفي. وبدأه بالتعريف بعلم السرد المعرفي وانه واحد من ثلاثة أنواع مهمة تفرعت عن علم السرد ما بعد الكلاسيكي وهي علم السرد البلاغي وعلم السرد النسوي.
وأكد أن علم السرد المعرفي نهج متعدد التخصصات يعمل على توفير أساس علمي في تحليل السرد، من خلال دمج السرد الكلاسيكي بغيره من التخصصات الأخرى، خاصة العلوم الإنسانية. والقصد استكشاف العلاقة بين السرد والعقل ودور الإدراك في الفهم السردي وطرائق الاستجابة القرائية لعوالم القصص وأثر الإشارات النصية في إدراك دور كل شخصية وتجربتها. وعلى الرغم من أن الأمريكي مانفريد يان هو أول من اقترح تسمية علم السرد المعرفي عام 1997، فإن الخط العام لابتكار المصطلح وترسيخه يعود إلى ديفيد هيرمان 1999 تأثرا بكتاب مونيكا فلودرنك (نحو علم السرد الطبيعي Towards Natural Narratology) 1996. علما أن هيرمان هو الذي نعت هذا العلم بما بعد الكلاسيكي تمييزا له عن علم السرد التقليدي عند بارت وتودوروف وجينيت.
وأهمية علم السرد المعرفي تأتي من كونه ثبّت لنفسه ثلاث دعائم ساهمت في تطوره على صعيدي تحليل الأعمال الروائية والقصصية، وتنشيط ميدان الدراسات السردية في الغرب. وحدد الباحث لو شاو هذه الدعائم بـ:الإشارات النصية وحدود السرد الأجناسية والأطر المعرفية التقليدية.
ومما أكده الباحث أن هذا العلم في حالة تطور مطرد غربيا، لكنه يعد مسعى جديدا إلى حد ما في الصين، ونطاقه ما زال محدودا بعدد من الدراسات كدراسة دان شين shen 2004 وزانغ Zhang 2011 وتانغ وشانغ Shang & Tang2013.
وهذه الندرة في توظف السرد المعرفي والبحث فيه لا تقتصر على الكشف النظري، بل تشمل أيضا الدراسات التطبيقية. أما الدراسات الحالية فإنها لا تقدم في هذا الصدد سوى مقدمات عامة نظرية، لم تبدأ بعد في وضع اختبارات منهجية معمقة لتطبيقيات نقدية، لاسيما في ميدان الدراسة الترجمية الذي هو ـ حسب الباحث لو شاو ـ (أكثر ندرة ولم يتم إجراء أي محاولة لحد الآن لتطوير هذا النهج في تحليل النصوص السردية تحليلا يقارن بين الأصلية والمترجمة). ومن هنا جاءت دراسته لعلم السرد المعرفي تطبيقية سعيا إلى تأسيس سياق بحثي خاص يوازي اتجاه نقد الترجمة الأدبية (النقد الترجمي) الذي سيطرت عليه الدراسات الثقافية منذ ثمانينيات القرن الماضي. واتخذ شاو من ترجمة الأمريكي جولدبلات (1939ـ2014 ) لرواية (لعبة الحياة والموت) للروائي مو يان (1956) عينة بحثية استند في تحليلها إلى الدعامات الثلاث أعلاه، مستلهما تنظيرات جيرار جينيت في كتابيه (خطاب الحكاية) و(عودة إلى خطاب الحكاية).
وتبعا لطبيعة الصوت السردي، يغدو للرواية المترجمة مستويان: في الأول يكون السارد في مستوى خارجي، حيث الموضوع المنطوق يقع خارج القصة، والثاني فيه السارد في مستوى داخلي والموضوع المنطوق يتطابق مع الشخصية أي أنه يقع داخل القصة. وقارن شاو بين نصوص روائية بلغتها الأصلية ونصوص مترجمة بالإنكليزية، فتبين له أن هناك عددا من الخروقات في ترجمة جولدبلات لرواية (لعبة الحياة والموت) وبعضها لا تخلو من الهزل والعبثية. وقسّم الباحث هذه الخروقات إلى ثلاثة أنماط، وهي: الاستبدال (metalepsis) واللاحركة أو التحجر(paralipsis ) والزيف (pseudo- digetic).
فأما الاستبدال Metalepsis فيشير إلى أشكال الانتهاكات في الحدود بين مستويات السرد التي تحصل بسبب تحويل مستوى سردي إلى مستوى آخر، فتصبح الترجمة مهلهلة أو هزيلة، كأن يستبدل المترجم ـ وبسبب إغفال الخلفية التاريخية للنص ـ وجهة النظر الخلفية بوجهة نظر ذاتية، فيساوي مثلا بين الجيش وقوات العصابات على لسان سارد يتبنى وجهة نظر الشخص الأول، عاكسا نبرة ساخرة تجعل السرد غير متجانس، أو يتطفل السارد على المشهد المروي فيروي من خارج القصة. ومن الأمثلة التطبيقية على الاستبدال قول السارد في النص الأصلي (قبل تقسيم المتساوي للأراضي: هم ليسوا بحاجة إلى إطلاق النار عليّ) وبالاستبدال صار السارد في النص المترجم يقول (فلماذا يضطرون إلى إطلاق النار عليّ قبل تقسيم أرضي؟) فالنص الأصلي يعكس نقدا اجتماعيا، بينما يشي النص المترجم بنزعة هزلية، ما يحرف السرد عن مساره، ويجعل النص المترجم غير مقبول من حيث الأسلوب والدلالة.
وأما اللاحركة أو التحجر Paralipsis فيشير إلى الموقف الذي فيه يخفي السارد معلومات ضرورية عن القراء، أو يغفل عن ذكر أفكار لا يمكن أن يتجاهلها البطل أو السارد فيقع حدث ما قبل النطق به في القصة أو ينتهك السارد نطاق الرؤية المقيدة، فيصبح كلي العلم، بينما هو يبئر منظوره على الأفكار الداخلية للشخصية أو الأحداث التي يشهدها بنفسه، ما يشوش وجهة النظر ويجعل الترجمة متناقضة، أو غامضة تقف ما بين الترجمة الأدبية والترجمة الحرفية. ووجد شاو أن خروقات التبئير إما علنية أو خفية.
أما السرد الكاذب أو الزائف (pseudo- digetic) فيشير إلى خروقات تبئير الصوت السردي في السرد الخيالي الذي فيه الشخصيات المحورية غير قادرة على أن يكون لها منظور سردي كالحمار والكلب والخنزير، أو أن يكون السارد بضمير الأنا شبحاً يروي الأحداث ويخفي ما يقرر إخفاءه مع أن ما ينقله ينبغي أن يكون أقل مما يعرفه بنفسه. ويستثني الباحث ليو شاو من خروقات السرد الكاذب، أسماء الشخصيات والتناصات والتعليقات الختامية والحواشي السفلية. ويصف الباحث هذه الترجمة بالكثيفة وفيها تتميع الخصوصية التاريخية والثقافية. فتتبدل مستويات السرد من الدرجة الثانية إلى الدرجة الأولى أو بالعكس. ويبدو السارد في النص المترجم ذا هوية حقيقية من لحم ودم بينما هو في عيون المؤلف «مو يان» خيالي لا وجود واقعيا له.
ويختم الباحث لو شاو دراسته بتلخيص أهم الاستنتاجات التي توصل إليها، ومنها أن خروقات وجهة النظر في الترجمة تجعل مستويات السرد غير متجانسة وأن أنماط الخرق الثلاثة ليست نهائية وأن هناك أنماطا أخرى جرّبها جولدبلات، وكشف من خلالها للقراء عن جمال الغموض وأتاح لهم تجارب قرائية ممتعة. وتأمل شاو أن تكون دراسته فاتحة طريق لمزيد من البحوث المستقبلية النظرية والتطبيقية في مجال دراسة الترجمة الأدبية، التي بها يتعزز مشروع علم السرد المعرفي. هذا العلم الذي رآه الباحث ملائما لتحليل الترجمة الأدبية كونه يساعد في الكشف عن اختلاف السارد عن الشخصية، ويبرز حسنات النص المترجم أو مساوئه بكل ما في الترجمة الأدبية من مفاهيم وأطر وأنماط تتداخل فيها التخصصات.
كاتبة عراقية