عن النعام والشيوعية والشيخ زايد وماركس
عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري
“لا تدفن رأسك في الرمل كما يفعل النعام” مقولة شائعة، نسمعها حين يتخذ أحدهم قراراً بالهرب من حلّ مشكلة اعترضت طريقه. والحقيقة أنّ التشبيه هنا غير صحيح بالمرّة، لأنّ النعام لا يدفن رأسه في الرمل خوفاً وهرباً من المخاطر والأعداء، وهو لا يفعل ذلك (أي النعام) بكلّ تأكيد، ولكن الإنسان يفعلها.
والأحزاب الشيوعيّة اليوم، بصفتها “حركة نضال اجتماعي” سعتْ لتحرير الإنسان من استغلال أخيه الإنسان، والذي ساد (أي الاستغلال) بمختلف الصور والأشكال عبر تاريخ طويل من حياة البشر على هذا الكوكب، راحت (الأحزاب الشيوعيَّة) تدفن رأسها في الرمال، قولاً وفعلاً، كي لا ترى الحقائق التي استجدّت أمامها، لذلك تدفن رأسها علانية في الرمل خوفاً من مواجهة هذه الحقائق. وأنا، شهد الله، ما أزال أسعى حثيثاً للاعتصام بحبلها، وأحاول قدر الإمكان، وبجهد متواضع، تلوين صورتها التي اسودت في أعين الخلق، لذلك أميل إلى التصريح لا التلميح. ولكن دعونا نطرح السؤال مجدداً: هل يدفن النعام رأسه في الرمل يا رفاق؟
النعام طائر كبير الحجم، ولا يطير، هل كان يطير في سالف العصر والأوان؟ اسألوا تشارلز داروين فهو أعلم ببواطن “نظرية التطور” التي أصبحت اليوم؛ بعد أكثر من قرن ونصف القرن على ظهور كتاب “أصل الأنواع” نظرية علمية راسخة. موطن النعام أفريقيا والشرق الأوسط، إلا أنه تعرّض في العصر الحديث لعمليات صيد جائر أتت على أعداده في صحاري الشرق الأوسط. تزن ذكور النعام من مائة إلى مائة وخمسين كيلو غراما، ويبلغ ارتفاعها عن الأرض ما بين مترين إلى أربعة أمتار، ويتميز النعام بقوة ساقيه المذهلة، حيث يستطيع العدو بسرعة تصل إلى خمسين كيلو مترا في الساعة.
طيور النعام بالرغم من طول رقابها وارتفاع قامتها إلا أنها قصيرة النظر، وهي تعيش في مراعيها باحثة عن ثمار نبات الحنظل، وهو من النباتات التي تفترش الأرض مثل صغار البطيخ الأحمر، ولي مع ثمار الحنظل هذه حكاية طريفة: أعتقد (والله أعلم) أنني أتحدث عن صيف عام 1997 وكنت أعمل يومها في إمارة أبو ظبي في قرية زراعية صغيرة اسمها، الشويب، على حدود سلطنة عُمان، حيث كنّا نحط رحالنا في “كرفانات” خشبية هي للسكن والمكاتب والمخازن والورش، فتقوم قرية صغيرة تنتهي مع انتهاء مشروع الطرق والخدمات الأرضية التي تُنفذها شركة سيف بن درويش التي أعمل فيها في بناء قرية الشويب الجديدة.
هبّت ذات يوم عاصفة مطرية وفتحت السماء قُرب الماء، فسالت الأودية وغرقت قرية الشويب القديمة في الرمل والماء. وخربت البيوت وماتت الأبقار والجواميس والجمال والأغنام والماعز، وغطى الرمل الموحل المتراكم مزارع البندورة والخيار والباذنجان والذرة الصفراء.
تمّ إخبار رئيس الدولة الشيخ زايد آل نهيان بالأمر، فجاء بطائرة مروحية لمعاينة الكارثة. وسأل شيوخ القرية: لماذا تعيشون في قعر الوادي وتتركون هذه المرتفعات الرملية الجميلة؟ أجابوا: نحن نعيش هنا قبل النفط لخصوبة الوادي حيث نزرع الخضار ونربي الماشية. كان الشيخ زايد يسير حافياً على الرمل متكأً على عصاه، فالتفت إلى مساعده وقال: “ابنوا لهم قرية جديدة هناك”، وأشار بعصاه إلى التلال الرميلة المحيطة، وسلموها لهم دون مقابل، تعويضاً لهم عن قريتهم القديمة فكانت قرية الشويب الجديدة، هذه التي كنّا نعمل بين بيوتها، حيث لمحت “سلخ” بطيخ أحمر يحمل عدداً من الثمار، فرحت به ورحتُ بين فترة وأخرى أحضر له الماء وأسقيه. شاهدني أحد المواطنين فقال: ماذا تفعل؟ قلت أسقي سلخ البطيخ الأحمر فقال متعجباً مبتسماً: يا صديق هذا ليس بطيخاً أحمراً إنه “الحنظل”، وكان ذات يوم طعام طائر النعام المُفضّل.
النعام في تطوّره وتأقلمه مع بيئته تعلّم أن يُرهف السمع والتصنت على وقع خطوات الحيوانات المفترسة، لذلك فهو يدسُّ رأسه في الرمل بين الحين والآخر من أجل التصنت على الذبذبات التي ينتشر صداها في الأرض من مسافات بعيدة كي يتحاشى الحيوانات الخطرة، ويُميّز أيضاً الاتجاه الذي تأتي من ناحيته تلك الأصوات، فيكون حافزاً له على الهرب في الاتجاه الذي يضمن سلامته.
يُذكر أنّ محتجين أستراليين ابتكروا وسيلة احتجاجية مبدعة، استعاروها من النعام، في واحد من أكثر الاحتجاجات تعبيراً عن المخاوف بشأن مخاطر التغييرات المناخية والاحتباس الحراري على الإنسان، إذ دفنوا رؤوسهم في الرمل على شاطئ بوندي الأسترالي أثناء انعقاد قمة العشرين في عام 2014 في أستراليا لتنبيه القادة بمخاطر التغيرّ المناخي. حفر أكثر من أربعمئة من النشطاء حفرا في الرمل حتى يتمكنوا من دفن رؤوسهم إلى منتصف أجسامهم احتجاجاً على ما يسبّبه الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية من أضرار على الكوكب وحياة البشر، وعلى النعام أيضاً.
وكم تمنيتُ، يا رفاق، أن أجد بضع رفاق أعزاء يقبلون تجربة أن نحفر حفراً في الرمل حيث أُقيم مع أسرتي في مدينة “إزمير” على شاطئ بحر إيجة، كي ندفن رؤوسنا في الرمل -بضع ثوان فقط- احتجاجاً على ضعف وتشرذم أحزابنا الشيوعيّة، ولكنني، يا رفاق، لا أجد من يُناصرني. ولن أفعلها لوحدي بكلّ تأكيد، لا أريد أن أدفن رأسي في الرمل وحيداً، كما يفعل النعام. وأُؤكد مرة أخرى، النعام لا يفعلها.
ولكن بعض الأحزاب الشيوعيّة العربيّة “الرسميّة” على وجه الخصوص، فعلوها، دفنوا رؤوسهم في الرمل فعلاً- ولم أجد لذلك التصرّف تفسيراً منطقياً أو مُقنعاً على أقل تقدير- حين تفتحت أزهار الربيع العربي عام 2011، خوفاً من منظر عودها الغضّ ورائحة بتلاتها الفواحة النفاذة، وخوفاً أيضاً، من غضب “السلطان” فمن يأكل على موائد السلطان يضرب بسيفه. مع أنّ شيخنا الجليل كارل ماركس -رحمه الله- ناصر رفاقنا أصحاب كومونة باريس (18 مارس/آذار 1871 – 28 مايو/أيار 1871) في حينها، وكانت تجربتهم “فجَّة” ما تزال، مع ذلك شكرهم، لأنهم “هبوا لاقتحام السماء” حسب تعبيره.
ولكن يا رفاق (بجاه كلّ من له جاه) هل هناك من الأحزاب الشيوعيّة ما هو رسمي وآخر غير رسمي؟ نعم، بكل تأكيد، والمضحك المبكي أنّ بعض الأحزاب الشيوعيّة العربيّة “الرسميّة” – وهذه صفة في واقع الحال من أقبح صفات الحزب الشيوعيّ- تهرب من واقعها المرير الذي تعيش فيه وتروح تُناضل ضدّ الإمبرياليّة والرأسماليّة والليبراليّة والنيوليبراليّة والرجعيّة، والأمثلة موجودة وفي متناول اليد لو أردنا ذكر الأمثلة. ولكن أكتفي بهذا القدر يا رفاق حتى لا نقع في المحظور وفي التأني السلامة…مع السلامة.