أزمة جرف الصخر: ورقة سياسية في العراق
عندما صرح السياسي العراقي خميس الخنجر قبل أيام، وهو يلتقي شيوخ عشائر سنية قائلا: «سنصلي في الجرف قريباً»، كان يشير بوضوح إلى عودة السنة النازحين إلى مدينة جرف الصخر جنوب غرب بغداد، التي هُجر سكانها منذ تسع سنوات ولم يتمكنوا من العودة حتى الآن. كما صرح الخنجر لاحقا في إحدى امسيات رمضان في جامع أم القرى غرب بغداد قائلا: لقد» ثبتنا جميع حقوق أهلنا في ورقة الاتفاق السياسي»، مبيناً:» لن نتنازل عن إخراج المعتقلين الأبرياء من السجون وحل ملف المختفين قسراً، ولا نريد أن يأتي العيد، من دون إقرار قانون العفو العام».
لكن يجب أن نعود الى 16 شباط/فبراير الماضي، عندما أدى هجوم نفذته فلول تنظيم الدولة (داعش) إلى قتل أربعة جنود من الجيش العراقي في الطارمية، وهي منطقة ساخنة شمال العاصمة بغداد، شهدت العديد من الحوادث الإرهابية منذ عام 2003. بعد ذلك بيوم، غرد حسين مؤنس رئيس كتلة حقوق البرلمانية، الذراع السياسي لميليشيا كتائب حزب الله المدعومة من إيران، قائلا: «حاضنات الإرهاب في بعض المناطق المحيطة ببغداد ستهدد أمن وسلامة شعبنا بين الحين والآخر، إذا لم يتم انتزاعهم من الأرض على غرار جرف الصخر … يجب الاستفادة من نجاح الحشد الشعبي في السيطرة على هذه المدن، وهذه مسؤولية القائد العام للقوات المسلحة».
إذن كان مؤنس يطالب بشكل واضح بعملية تهجير قسري وتغيير ديمغرافي يقوم على سيناريو ما حصل في جرف الصخر عام 2014 وتحويلها إلى كانتون تحت سيطرة الفصائل المسلحة، ويطالب بتكرار هذا السيناريو الناجح في الطارمية وغيرها من المدن التي تشهد عمليات إرهابية. إذن ما هي الأزمة التي يستعصي حلها على الرغم من مرور تسع سنوات؟ ولماذا تتمسك الفصائل الشيعية المسلحة بالسيطرة على هذه المدينة، ولا تتنازل عنها أو تسلمها للقوات الحكومية؟ ولماذ تتصاعد مطالب السياسيين السنة بحل هذا الأمر مع اقتراب كل دورة انتخابية؟ فهل تحولت نكبة سكان جرف الصخر إلى ورقة ضغط في اللعبة السياسية بين الفرقاء السنة والشيعة في العراق؟ جاء الجواب سريعا من أحد قادة الفصائل الشيعية المقربة من طهران، هو أبو علي العسكري، الذي يعرف بأنه المسؤول الأمني لكتائب حزب الله العراقي المسيطرة على مدينة جرف الصخر، الذي قال في بيان صحافي ردا على تصريح خميس الخنجر: «السفاحون والقتلة والمتورطون بجرائم كبرى وذووهم ومعاونوهم، يبدو أنهم هم المقصودون بمقولة (سنصلي معهم في الجرف)»، وأضاف العسكري أن «عودتهم إلى أي منطقة من مناطق العراق، ومنها عوجة مجزرة سبايكر، آمرلي، بلد، أبو غريب، جرف النصر، الكرمة، مناطق البو نمر، الجغايفة، سنجار، ومثيلاتها هي حلم عودة إبليس إلى الجنة». هنا تصبح قضية مدينة جرف الصخر،التي تغير اسمها ليصبح جرف النصر، بعد تحريرها من سيطرة تنظيم الدولة (داعش) في تشرين الأول/أكتوبر 2014 ، واضحة المعالم إلى حد ما، فهنالك مهجرون ومعتقلون من أهالي بعض المدن السنية، وفي مقدمتها جرف الصخر، ما زالوا عالقين في مشكلة تأبى على الحل، وقد طالب السياسيون السنة من كتلة السيادة السنية عبر طرح ورقة المهجرين والمغيبين، على كتلة الإطار التنسيقي الشيعي في التفاوضات السياسية التي سبقت تشكيل حكومة السوداني، وبدورها حكومة السوداني، وكحال الحكومات الشيعية السابقة، وعدت فرقائها السنة بالحل، لكن من دون جدوى، لأن من يمسك بملف هذه المدن هم الفصائل الشيعية المسلحة القريبة من طهران، التي لا تأتمر بأمر الحكومة العراقية، ولا القائد العام للقوات المسلحة، ولا حتى المرجعيات الدينية الشيعية في العراق. لكن ما هي حقيقة قصة مدينة جرف الصخر؟ المدينة التي أصبحت قضيتها عبارة عن متاهة وتحولت قصتها إلى نوع من الأسطورة، من دون أن تتمكن جهة محايدة من وصف ما يحصل فيها على أرض الواقع. هذه المدينة الصغيرة هي ناحية تابعة لقضاء المسيب في محافظة بابل، وهي ذات موقع وأهمية استراتيجية في الصراع الطائفي الذي حصل في العراق والذي قد يشتعل مجددا لأي سبب، وفي أية لحظة، فموقع المدينة يمثل همزة وصل بين ثلاث جهات هي: مدينة الفلوجة ومن خلفها محافظة الأنبار معقل الحركات الجهادية السنية، ومدن الفرات الأوسط ومنها مدن الشيعة المقدسة كربلاء والنجف من جهة، والعاصمة بغداد من جهة ثالثة، وبذلك يتمكن من يسيطر عليها من قطع خط التواصل الشيعي بين وسط وشمال العراق من جهة، ومدنهم المقدسة جنوبا، ويمنع تحرك الزائرين في مناسباتهم الدينية، وهكذا كان الحال منذ 2003 حتى سيطرة الفصائل المسلحة الشيعية عليها عام 2014، اذ ترزح المدينة تحت سيطرة كتائب حزب الله العراقي، والنجباء وسيد الشهداء منذ تسع سنوات.
تمثل المدينة جيبا سنيا في محيطها الشيعي، لذلك سعت الفصائل الشيعية الى عمليات تغيير ديمغرافي وتهجير قسري لتغيير هذه المعادلة
ويجب أن نضع في الحسبان أن سكان مدينة جرف الصخر هم من قبيلة الجنابيين السنة، وبذك تمثل المدينة جيبا سنيا في محيطها الشيعي، لذلك سعت الفصائل الشيعية الى عمليات تغيير ديمغرافي وتهجير قسري لتغيير هذه المعادلة. وقد قيل الكثير في الإعلام والتقارير الاستخباراتية عن مدينة جرف الصخر وأهميتها الاستراتيجية التي تدفع الفصائل الشيعية للتمسك بها، إذ أشار العديد من وسائل الاعلام إلى إن هذه المدينة تحولت الى نوع من القواعد العسكرية المغلقة التي لا يستطيع دخولها أحد حتى رجال الحكومة من الوزراء والمسؤوليين العراقيين، وأنها تحوي على منشآت التصنيع العسكري القديمة التي كانت تعمل إبان حكم الرئيس السابق صدام حسين، والتي تحولت اليوم إلى معامل تطوير أسلحة لوجستية تسيطر عليها وتديرها الفصائل الشيعية المسلحة تحت إشراف خبراء فيلق القدس من الحرس الثوري الإيراني. وكالة رويترز كشفت سابقا في تقرير لها نشر في آب/أغسطس 2018 عن أن أزمة جرف الصخر، لم تعد مسألة مهجرين وإشكالية إعادتهم لمنازلهم، بل هو تحول المدينة المعزولة ببساتين نخيل كثيفة والمحاطة بأسوار كونكريتية إلى منطقة عسكرية معزولة، حيث نقلت الوكالة في تقرير لها تصريحات عن ثلاثة مسؤولين إيرانيين ومصدرين في المخابرات العراقية، ومصدرين بمخابرات غربية، أكدوا فيها أن إيران نقلت صواريخ باليستية قصيرة المدى لحلفائها في العراق. وقال خمسة من المسؤولين إن خبراء في الحرس الثوري الإيراني يساعدون تلك الجماعات على البدء في صنع الصواريخ ضمن خطة بديلة حال تعرضت طهران للهجوم، والصواريخ المعنية هي «زلزال، وفاتح، وذو الفقار» ويتراوح مداها بين 200 و700 كيلومتر. كما تحدثت وكالات أنباء عربية عن تحول القرى التابعة لمدينة جرف الصخر إلى مراكز لزراعة وإنتاج المواد المخدرة التي تساهم بشكل كبير في تمويل الفصائل المسلحة التي تسيطر عليها، كما إنها تحوي عددا من السجون غير القانونية، والخارجة عن سيطرة الحكومة العراقية، وهي تضم المئات، أو الالاف من المغيبين، لكن يبقى كل هذا الكلام من دون مصادر موثوقة تؤكد حقيقته بالكامل. كما أصدر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط تقريرا عام 2019 ورد فيه إن مقرات ميليشيا حزب الله في العراق، أصبحت مضيفا للصواريخ البالستية الإيرانية، ومنها منطقة جرف الصخر، التي يمكن أن تستهدف من هناك إسرائيل أو المملكة العربية السعودية، أو القواعد التابعة للقوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة، في حال اندلاع المواجهة العسكرية بين طهران وواشنطن. وفي تصريح سابق لنائب رئيس الوزراء الأسبق بهاء الأعرجي علق فيه على انفجارات مخازن السلاح العائدة لفصائل الحشد الشعبي، نتيجة غارات بطائرات مسيرة مجهولة المصدر، يُعتقد أنها أمريكية أو إسرائيلية ، قال الأعرجي في تغريدة إن، «تلك المخازن تحوي أسلحة أمنتها دولة مجاورة لدى العراق»، لافتا إلى أن «حجم الانفجارات الهائل يشير إلى كون هذه الأسلحة ليست تقليدية بتاتا».
الكتل السياسية السنية التي اتفقت مع الإطار التنسيقي وشاركت في تمرير تشكيل حكومة محمد شياع السوداني كانت قد اتفقت على ضرورة حل مشكلة المدن السنية التي تعاني من التهجير القسري والتغيير الديمغرافي، بالاضافة إلى وجوب حل مشكلة المغيبين والمعتقلين ممن لم يحظوا بمحاكمات عادلة حتى الآن، وقد وعد قادة الإطار التنسيقي فرقائهم السنة بحل تلك الأزمة في غضون شهرين من عمر الحكومة، لكن يبدو إن حكومة السوادني تسير على خطى من سبقها من حكومات العبادي وعبد المهدي والكاظمي التي فشلت جميعها في حل هذا الموضوع الاشكالي الكبير.
كاتب عراقي