تتشكل الشخصية الوطنية على أساس عوامل جغرافية وتاريخية واقتصادية واجتماعية مختلفة ومعتقدات دينية، وغالبا ما تختلف أصولها من دولة إلى أخرى. كما يكون الإدراك الجماعي للذات أحد أُسسها، جنبا إلى جنب مع الحساسية الذاتية والسلوك المحدد، الذي يتقاسمه الأفراد الذين يسكنون في جغرافية واحدة.
وهذه كلها تعمل على تقديم مطالبات مشروعة بالسيادة وأشكال العمل السياسي، وغالبا ما يُنظر إلى الأمم والمجموعات، تماما مثل الأفراد، على أنها تتمتع بشخصية مميزة، يمكن وصفها من خلال مجموعة من السمات الشخصية المحددة. وعليه فإن الانتصار في الحروب يكاد يكون مبنيا على تهشيم الشخصية الوطنية، لأنه لا يتحقق في جبهة القتال وحسب، بل لا بد من زرع الهزيمة في الذات الوطنية أيضا. وقد كانت جريمة غزو العراق عام 2003 وما تبعها من احتلال، تهدف بشكل مباشر إلى إعادة صياغة الشخصية الوطنية العراقية.

مستحيل إماطة اللثام عن جميع الجرائم والأهداف التي كانت وراء غزو العراق، فما زالت هنالك قصص لم ترو، وشهادات لم تُسمع، ودماء لم تعرف أسباب سفكها

لقد ارتبطت الهوية الوطنية العراقية بالهوية السياسية، فكما للعراق هوية وطنية واضحة، كانت لديه هوية سياسية معروفة أيضا، وهذه الهوية السياسية ليست مرتبطة بهوية حزب معين أو اتجاه سياسي ما، بل هي تعني كيف يرى العراقيون أنفسهم بالمعنى السياسي، أي مصالحهم، انتماءاتهم، وأولوياتهم السياسية. أما هويتهم الوطنية فتعني كيف يرون أنفسهم كأعضاء في المحيط، وفي المجتمع الدولي، وما هي الأدوار المناطة بهم. وكانت رموزهم تعكس بشكل شائع قيمهم وأولوياتهم الوطنية، حيث كانت كلها تُرى في ألوان وتصميم علمهم الوطني، في كلمات نشيدهم الوطني، في متاحفهم التاريخية، في لوحاتهم الفنية وقصائد شعرهم ورواياتهم، في الزي العسكري لقواتهم المسلحة بكل الصنوف والتشكيلات، في وثائقهم الرسمية، وفي هياكل دولتهم ومؤسساتهم الوطنية، وبهذه الرموز والألوان والكلمات، كان العراقيون يتعرفون على بعضهم بعضا، ويُعرّفون بأنفسهم للمجتمع الدولي القريب والبعيد. ومن هنا، ومن هذه النقطة بالذات، بدأ في وقت مبكر العمل حثيثا في دول الغزو على دراسة الهوية الوطنية العراقية، وصولا إلى إعادة صياغة الشخصية الوطنية العراقية، من خلال الاحتلال المباشر. وقد شرعت الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها المملكة المتحدة منذ نهاية تسعينيات القرن المنصرم، بالاستفادة من ورش التفكير التي أنشأوها في مرحلة الحرب الباردة في دراسة الشخصية العراقية. وهذه الورش هي عبارة عن شبكات واسعة من معاهد بحثية متخصصة، ومنظمات وجمعيات وجامعات، يتركز عملها على بلورة آليات ووسائل للتأثير النفسي في الأشخاص. وقد تعزز عملها بعد عام 2003 على أرض الواقع، حيث انحصر اهتمامها في سُبل تحريض السكان على التشكيك في تاريخ بلادهم، والسخرية من مُثلهم العُليا، وأبطالهم الوطنيين والشخصيات المهمة في تاريخهم. كما ركّزت هذه الورش على العمل على كسب شرائح معينة من المجتمع، كي تكون طابورا لها للتثقيف بأهمية التغييرات التي ستحصل. بعدها تمت المباشرة بالتصدي لكل رموز الهوية الوطنية العراقية. فوجدنا أوائل الأفكار البديلة هي اعتبار التاسع من نيسان/أبريل، يوم دخول القوات الأمريكية إلى العاصمة العراقية بغداد، يوما وطنيا للعراقيين بديلا عن يومهم الوطني المتعارف عليه، لتتبعها خطوات أخرى متلاحقة مسّت العلم الوطني من خلال الدعوة إلى إيجاد بديل عنه.. وإلغاء النشيد الوطني العراقي.. وتشجيع اللصوص على الدخول إلى بناية المتحف العراقي وسرقة محتوياته.. والسماح للغوغاء باقتحام بناية المتحف الوطني للفن الحديث وتحطيم لوحات الفنانين العراقيين المعروضة فيه. وحرق المكتبة الوطنية بكل ما فيها من مراجع مهمة وكتب قيّمة ومخطوطات تاريخية لا تقدر بثمن. كما ساهم جنود الغزاة في تحطيم بوابات المصارف الحكومية بآلياتهم العسكرية، لتنقض على خزائنها عصابات مسلحة عملت جهارا على كسرها والاستيلاء على الأموال المودعة فيها. ومع مرور الوقت واستكمال السيطرة على العاصمة والمدن المهمة في البلاد، بدأت الصفحة التالية من الهدم، بُغية إنشاء آليات سياسية تضمن إعادة بناء الجوانب النفسية والروحية للمواطن العراقي، بما يضمن التحكم بوعيه بكل المستويات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، للمحافظة على الوضع الجديد في البلاد، كما تم اعتماد الرعب كأقوى آليات التعامل مع المواطنين في الحياة اليومية، حيث انتشرت قوات الغزو في الشوارع والأزقة، واقتحموا البيوت في ساعات الليل المتأخرة، ومارسوا صلاحياتهم في تفتيش الرجال بطريقة مُهينة أمام عوائلهم، كل ذلك كان يجري بموازاة حملة تعرّض أخرى واسعة النطاق للقصاص من الرموز الكبرى في الدولة العراقية أفرادا ومؤسسات. فكانت المباشرة بحل الجيش العراقي وإلقاء كل ما يحمله من رمزية كبرى على قارعة الطريق، ممثلا بقياداته وضباطه وجنوده، الذين أصبحوا بلا مصدر رزق، والذين كانوا يشكّلون ثروة وطنية كبرى بالنسبة لشعب العراق. والبحث عن علمائه وخبرائه وإخضاعهم لعمليات استنطاق مُهينة، وترك عصابات الجريمة المُنظّمة تسرق وتحرق مقرات الدولة ووزاراتها ومؤسساتها. كما باشرت قوات الغزو بتشكيل منظومة سياسية بديلة، تم الدفع فيها بالخونة والعملاء والموتورين، كي يكونوا رجالات الصف الأول والثاني حتى العاشر في كل مفاصل الدولة. ومُنحت الطائفية والإثنية لأول مرة في تاريخ العراق وظيفة سياسية، فأصبحت جزءا من السياسة وتعطي الدولة من حصتها، وجرى الاهتمام بالجغرافية الطائفية على حساب المؤسسات، كي يتعزز النفس الطائفي المقيت في البلاد، في حين أُهملت المؤسسات لأن الغزاة يعلمون أنها هي التي توحّد البشر. وجرى الإعلان عن عملية ديمقراطية لا تمت بصلة حتى إلى قشور الحداثة السياسية، وتم تشكيل أحزاب بلا رأسمال وطني ولا ثقافي ولا برامج رؤيوية حقيقية للمجتمع. وصحافة وإعلام وفضائيات كلها مرتهنة بالسياسة والطائفية وتابعة لهما. وإمعانا في الإذلال وكسر الهيبة والومضة المعنوية التي يشكلها العراق في نفوس العراقيين، تم التغاضي عن الدور الإيراني، بل السماح لميليشياته وأجهزته الأمنية في التغلغل في كل زوايا المجتمع. وكأن لسان حال الغزاة يقول للعراقيين، ها هم الذين انتصرتم عليهم في حرب الثماني سنوات بين أيديكم ومن خلفكم. ها هم يقتلون ضباط جيشكم وقوتكم الجوية وخبراءكم وقادة وكوادر أجهزتكم الأمنية والمدنية.
يقينا لا يزال من الصعب إزالة جميع طبقات الخداع، التي اكتنفت كارثة العشرين عاما التي مرت على العراقيين، بل من المستحيل إماطة اللثام عن جميع الجرائم والأهداف والغايات التي كانت وراء غزو العراق، فما زالت هنالك قصص لم ترو حتى اليوم، وشهادات لم تُسمع، ودماء لم تعرف أسباب سفكها. فمئات الآلاف سقطوا ضحايا في وضح النهار أمام بيوتهم أو مقرات عملهم، من دون أن يظهر القاتل حتى الساعة، لذلك لم تأت مؤسسة غالوب الدولية بشيء جديد في استطلاعها الأخير في الشهر المنصرم، حين قالت إن لدى مُعظم المُستطلعة آراؤهم، توجهات سلبية تجاه تأثير وجود قوات التحالف في العراق على مدى السنوات العشرين الماضية، وأن الولايات المتحدة غزت العراق لسرقة موارده. ولم يؤيد الغالبية فكرة أن الحرب هدفت إلى نشر الديمقراطية ومحاربة ما يوصف بالإرهاب، ويمضي الاستطلاع ليُظهر أن عراقيين كُثرا يرون أن الوضع قبل الغزو كان أفضل، وأن مستقبلهم خارج العراق وليس في العراق اليوم.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية