ديفيد هيرمان والخريطة السردية
يعد ديفيد هيرمان من أهم المنظرين الذين كشفوا عن علاقة النظرية بالممارسة أولا، وربط علمية السرد الأدبي بتعددية وسائطه ثانيا، وأكد الافتراق التاريخي عن مدرسة سبقته هي المدرسة البنيوية ثالثا. ويتوزع ما عمد إليه ديفيد هيرمان من أفعال وتوجهات بهذا الصدد بين مرحلتين: مرحلة التأليف المنهجي الذي به أسس مفاهيم مهمة ورسخها في كتابه (منطق القصة: مشكلات وممكنات السرد) 2002 ثم اتبعه بمؤلفات أخرى منها كتاب (نظرية السرد والعلوم الإدراكية) 2003. وكانت أغلب مرجعياته أمريكية، سواء من ناحية التنظير الفلسفي الذي ما كان يخرج عن فلسفة لودفيج فيتغنشتاين اللغوية، وفلسفة وليم جيمس البراغماتية، وتنظيرات نقاد مدرسة شيكاغو، أو من ناحية التطبيق على قصص وروايات أمريكية. ومرحلة الاشتراك في التأليف مع باحثين مهمين مثل جيمس فيلان ومونيكا فلودرنك وبراين ريتشاردسون وماري لوري رايان، كما اشترك مع جيمس فيلان وبيتر رابينوفيتز وروبين وارهول وبراين ريتشاردسون في إنجاز مشروع (النظرية وتفسير السرد). وقدموا في هذا الصدد طروحات مهمة تضيف جديداً إلى النظرية السردية، مما يتعلق بعوالم السرد الخيالية والمؤلفين والسّراد والزمانية والفضاء السردي والشخصيات والقراء والتلقي والقيمة السردية والجمالية.
إلى جانب مشاريع بحثية جماعية يعمل فيها هيرمان بصفة مشرف أو محرر، وتشارك فيها مجموعة باحثين أغلبهم شباب. وقد يساهم هيرمان إما بكتابة مقدمة استهلالية، أو إنجاز دراسة بحثية، وعادة ما يتشكل من المشروع الواحد كتاب بأجزاء ثلاثة أو أربعة، أو مجموعة كتب في شكل سلسلة تأليفية. ولم يكن هيرمان يخصص مشاريعه للباحثين الأمريكيين، بل يضم إليهم نقادا من ألمانيا وإنكلترا وسويسرا، ثم توسعت مشاريعه لتضم باحثين من خارج أوروبا، نظرا لتقارب الأهداف وتلاقي التوجهات.
وإذا كانت جامعة أوهايو هي المعقل الذي فيه وضع هيرمان قواعد علم السرد ما بعد الكلاسيكي، كما وضع سابقوه أساسات مدرسة النقد الأرسطي الجديد، أو ما سمي بالنقاد الجدد، فإن جامعة نبراسكا صارت هي المصنع الذي منه تخرج آخر الدراسات النظرية والإصدارات النقدية. ولعل أهم مشروع جماعي أنجزته المدرسة الأنكلوامريكية بإشراف ديفيد هيرمان يتمثل في كتاب (الدليل إلى النظرية السردية A companion to Narrative Theory) 2005، ويتألف من أربعة أجزاء، تقع في أكثر من خمسمئة وخمسين صفحة، وبعدد باحثين بلغ أكثر من خمسة وثلاثين وبجنسيات مختلفة أكثرهم من الولايات المتحدة مثل، واين بوث وبيتر بروكس وجيرالد برنس وهليس ميلر وبراين ريتشاردسون وجيمس فيلان وروبيننوتيز وسيمور تشاتمان، ومن الصين شاركت دان شين، ومن سويسرا ماري لوري رايان ومن ألمانيا مونيكا فلودرنك وانسجار ننونغ ومن بريطانيا ريتشارد والش وهاري شاو والسون كيس، ومن كندا ليندا هيتشون وميلبا كودي كيني، ومن فلسطين المحتلة شلوميت ريمون كينان ومير ستنبيرغ وتامار يعقوب، إلخ.
وحرر الكتاب جيمس فيلان وبيتر روبينوتز وكتبا تقديما حمل عنوان (التقليد والابتكار في نظرية السرد المعاصرة) وفيه أشادا بهذا الاهتمام المزدوج بنقد النظرية والممارسة، وكيف انعطف بدراسة السرد انعطافة غطت مختلف الأسئلة، وجسدت التعدد في التخصصات كالسياسة والأخلاقيات والميديا والأفلام والموسيقى وغير ذلك كثير. وكتب هيرمان مقدمة الكتاب مناصفة مع مونيكا فلودرنك وبراين ماكهيل. وتوزعت مقدمة الجزء الأول من هذا الكتاب بين ثلاثة أقسام وكل قسم هو عبارة عن دراسة موسعة، كتب هيرمان القسم الأول تحت عنوان (تواريخ النظرية السردية: جينالوجيا التطورات المبكرة) وكتبت مونيكا فلودرنك القسم الثاني بعنوان (تواريخ نظرية السرد: من البنيوية إلى الحاضر) وكتب براين ماكهيل القسم الثالث بعنوان (أشباح ووحوش: حول «أنا المتكلم» إمكانيات تأرخة نظرية السرد) .
وسنخصص مقدمة ديفيد هيرمان بالرصد، لأنه رسم فيها خريطة لتاريخ دراسة السرد كنظرية، تتضح من خلالها الصورة (ما بعد الكلاسيكية) لعلم السرد كما تتأكد جهود المدرسة الأنكلوأمريكية النقدية في مد جسور بينية تفتح الحدود ما بين الحقول المعرفية المختلفة. وهو ما يبدو واضحا في طبيعة النقاد المشتركين في التنظير لعلم السرد والمنضوين في مشروع هيرمان ما بعد الكلاسيكي. تتبع هيرمان في دراسته التمفصلات النقدية التي مرت بها النظرية السردية، وانطلق من مصطلح جينالوجي بالمعنى الذي ابتكره نيتش عام 1887 ثم أعاد ميشيل فوكو عام 1971 إطلاقه على التاريخ بوصفه نمطا من التحقيق الذي يسعى للكشف عن العلاقات بين المؤسسات وأنظمة المعتقدات والخطابات، وقد استعمل هيرمان هذا المعنى الدلالي للتاريخ وهو يتتبع السرد كعملية جينالوجية، يبحث فيها عن الصلات الجينية المؤسسة لعلمية السرد.
واستهل هيرمان دراسته بمقولة للروائي بنجامين كتبها عام 1969 ومفادها أن (الحقيقة تصبح ميتة تاريخيا حين يكون قد مضى على وقوعها آلاف السنين) أي أن البحث عن الحقيقة في أي أمر تاريخي هو غير سهل، وربما عويص، في إشارة استباقية إلى أن ما يبحث عنه هيرمان من جذور نظرية كلاسيكية هو غير متحصل بالشكل الذي يجعل الحقيقة واضحة وحية، بل هو متحف محنط لا غير.
وأول نقطة يبدأ منها هيرمان في رسم خريطة السرد تتمثل في تزفتان تودوروف كونه أول من صاغ مصطلح علم السرد «Narratology» عام 1969 في كتابه (قواعد الديكامرون) ووصف هيرمان هذا المصطلح بـ«الفرنسي». واستعمله تودوروف بالتوازي مع عبارة (The Science of Narrative) جامعا البعد العلمي بالبعد العملي لمفردة (Narrative) كمجال بحثي لم يولد بعد، وكنظرية جديدة مبنية على علم اللغة لدي سوسير وبهذا العلم صارت الظواهر الثقافية والأنواع السردية على اختلافها تُدرس دراسة تجريبية «أمبريقية» ثم تنوعت مجالات هذا العلم (البنيوي) فصار علم السرد (ما بعد البنيوي) بمثابة مجال فرعي من مجالات البحث البنيوي.
وقرر هيرمان أن أول مسح للتنظير العلمي في السرد، كان قد بدأ مطلع القرن العشرين مع كتاب (مورفولوجيا الخرافة) 1928 لبروب وأول ترجمة إنكليزية له كانت في عام 1958. والكتاب عبارة عن دراسة نصية لمجموعة الحكايات الشعبية الروسية ومنها استخرج بروب بيانات ووظائف حددها بإحدى وثلاثين وظيفة موزعة داخل كل حكاية. وميزة الكتاب تكمن في أنه القاعدة التي عليها أقام علم السرد بنيانه في دراسة الثنائيات المفاهيماتية كالمتن الحكائي والمبنى الحكائي أو القصة والخطاب أو التمييز بين ماذا وكيف. وقد طور منظرو مدرسة براغ من الروس والألمان والتشيك منهج بروب الموفولوجي وبنوا على مفاهيم توماسشفكي وشكلوفسكي وايخنباوم الشكلانية، تصورات جديدة، طورها البنيويون بدورهم في تنظيرهم للقصة والحبكة والحكاية والخطاب. فكان أن بنى ليفي شتراوس عام 1955 على مفهوم بروب للوظائف دراسة ميثولوجية أثرت في البنيويين الفرنسيين مثل بارت 1966 وبريموند 1973 لما فيها من تحليلات بنيوية للمكونات الإجمالية حول هيكلة الأسطورة كفواعل وأدوار. ويصل هيرمان في بحثه الجينالوجي إلى استكشاف التطورات التي حصلت في النظرية السردية البنيوية ما بين ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، والمناهج التي استعملها علماء السرد البنيوي، وما أنجزته المدرسة الأنكلوأمريكية في النظرية السردية التي بدأت في منتصف القرن العشرين بكتاب (نظرية الأدب) 1948 لرينيه ويليك وأوستن وارين، كأهم مرجع من مرجعيات هذه المدرسة.
وأكد هيرمان أن النظرية السردية ما تحولت إلى علم السرد، إلا حين رفض نقاد المدرسة الانجلوامريكية طروحات المنظرين السابقين بدءا من الشكلانيين الروس ووصولا إلى الثورة البنيوية التي بلغت أوج تقدمها في ستينيات القرن العشرين، ومعها صار السرد علما تجريبيا، استعملت في تحليله قواعد النحو بمستويات أربعة هي المستوى التركيبي والنحوي والصرفي والصوتي. وغدت معادلة (السرد = اللغة) هي الاساس الذي عليه قام علم السرد البنيوي حتى بعد أن بنى بارت عام 1966 النموذج التأسيسي المتكون من علم اللغة واللسانيات السوسيرية، واستعمله في تصنيف الظواهر السردية. وعلى الرغم من ادعاء هؤلاء المنظرين الحداثة ــ كما يقول هيرمان ــ فإنهم لم يتعدوا البنيوية التي كانت ثورة لغوية في دراسة السرد في ستينيات القرن الماضي. ورأى أن النظرية السردية بلغت ذروتها على يد منظرين أمريكيين اثنين هما روبرت شولتز وروبرت كيلوج في دراستهما (طبيعة السرد the nature of narrative) 1966 وفيها أكدا هذا التشابه الجينولوجي الفعال في علم السرد الكلاسيكي البنيوي وما بعد البنيوي.
أما الرواية الفرنسية الجديدة فكان ظهورها حصيلة التفاعل المعقد بين تقاليد النظرية السردية وحركة النظرية البنيوية ونماذجها التحليلية في النقد. وصحيح أن جهود غريماس وجينيت وتودوروف قادت بشكل عام إلى (الشعرية) لكن السرد ظل ـ بحسب هيرمان ـ مقيدا بالنموذج اللغوي التأسيسي الذي معه تعامل علماء السرد البنيوي تعاملا براغماتيا، فأصبحت عيوب العلم التجريبية واضحة من ناحية هيمنة اللغة وقيود النموذج السوسيري والنحو التوليدي في أعقاب ظهور فلسفة لودفيج فيتغنشتاين وأوستن وجول سيرل وغيرهم من منظري اللغة ما بعد السوسيرية المهتمين بكيفيات تأثير اللغة في إنتاج الكلام وتفسيره في التداول اليومي ضمن علم اللغة الاجتماعي، متسائلين عن اللغوية البنيوية والنموذج الجومسكي.
وأدى البحث على هذا المنوال إلى إدراك دلالات معينة وجديدة حول النظام اللغوي كالخطاب وبروتوكولات التبادل الحواري ومستويات الجملة. ومثلما ميزت اللسانيات السوسيرية اللغة بالتركيز على مكوناتها البنيوية وما يلحق بها من مبادئ سيميائية، كذلك ركز منظرو علم السرد( ما بعد البنيوي) توجهاتهم بشكل عام على موروثات النظرية البنيوية. وتجدر الإشارة إلى أن هيرمان لم يمر في بحثه الجينالوجي لتاريخ السرد بنظرية جورج لوكاش في الرواية وقبله هيغل وماركس وكذلك ما ظهر في منتصف القرن العشرين من منظري مدرسة فرانكفورت الماركسيين مثل والتر بنجامين وإرنست بلوخ.