بحثا عن المختفين قسريا في العراق
لم تكن ولادة تقرير لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري عن العراق، والذي صدر، أخيرا، في 4 نيسان/أبريل، سهلة. كانت اللجنة قد طلبت زيارة العراق لتقصي حالات الاختفاء القسري، في تشرين الثاني / نوفمبر 2015، لأن العراق من الموقعين على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي شكلتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في كانون الاول/ديسمبر 2010، والتي تنص على أن الاختفاء القسري جريمة ضد الإنسانية وتعريفه هو «الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون». لم تحصل اللجنة على الموافقة إلا في 15 تشرين الثاني / نوفمبر 2021، والتي تمت بموجب المادة 33 من الاتفاقية التي تتضمن أن زيارة الدولة تجري عندما يُنظر على أنها في حالة انتهاك خطير لالتزاماتها الدولية بموجب الإتفاقية، ورافق ذلك ضغط متواصل من منظمات حقوقية عراقية محلية ودولية، وثّقت عبر السنوات حالات الاختفاء القسري، وعلى رأسها مركز جنيف الدولي للعدالة الذي دأب على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان منذ عام 2003، بمثابرة لا تكل.
فتمت زيارة وفد مؤلف من ثلاثة أعضاء من اللجنة، من 12 إلى 25 تشرين الثاني / نوفمبر 2022. قاموا خلالها بزيارة عدة مدن وعقد 24 اجتماعا مع أكثر من 60 جهة، وسبعة اجتماعات مع 171 ضحية ومنظمة مجتمع مدني من محافظات مختلفة.
استندت اللجنة في تقريرها وتوصياتها على فحص تقارير الحكومة العراقية ومدى تنفيذها التوصيات السابقة التي تنص على منع حالات الاختفاء القسري، وعدم جواز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري. بالإضافة إلى وجوب إتخاذ التدابير اللازمة لتحميل المسؤولية الجنائية لكل من يرتكب جريمة الاختفاء القسري، أو يأمر أو يوصي بارتكابها أو يحاول ارتكابها، أو يكون متواطئا أو يشترك في ارتكابها أي إنهاء حالة الإفلات من العقاب المستشرية حاليا وسابقا، ووجوب تجريم الرئيس الذي كان على علم بأن أحد مرؤوسيه ممن يعملون تحت إمرته ورقابته قد ارتكب أو كان على وشك ارتكاب جريمة الاختفاء القسري، أو تعمد إغفال معلومات كانت تدل على ذلك بوضوح.
بدأت اللجنة تقريرها بتأكيد واقع سياسي مرعب يعيشه ويعرفه الشعب العراقي أدى إلى «وجود ما يصل إلى مليون شخص يقدر أنهم كانوا ضحايا للاختفاء، بما في ذلك الاختفاء القسري، على مدى العقود الخمسة الماضية» وما يزيد من حجم الكارثة هو حقيقة «استمرار الأزمة اليوم بذات الوتيرة» مستطردة بتقسيم موجات وأنماط حالات الاختفاء، بما في ذلك حالات الاختفاء القسري إلى:
وجود ما يصل إلى مليون شخص يقدر أنهم كانوا ضحايا للاختفاء، بما في ذلك الاختفاء القسري، على مدى العقود الخمسة الماضية، وما يزيد من حجم الكارثة هو حقيقة استمرار الأزمة اليوم بذات الوتيرة
أولا، حقبة البعث في العراق الفيدرالي وإقليم كردستان (1968 ـ 2003). ثانيا، غزو عام 2003 وما تلاه من احتلال، حتى فترة ما قبل داعش. ثالثا، إعلان داعش قيام خلافة إسلامية على جزء من أراضي العراق والعمليات العسكرية ضد داعش (2014-2017). رابعا، الاحتجاجات المناهضة للحكومة 2018-2020، و خامسا، أنماط أخرى مستمرة.
ما يعنيه التقرير بالأنماط الأخرى هي حالات الاختفاء القسري في سياق الاتجار بالبشر، والاتجار بالمخدرات، والاستغلال الجنسي والعمل القسري. وهي أنماط استشرت في ظل حكومات الاحتلال المتعاقبة وتقع مسؤوليتها عليها وكما يوضح التقرير أن جهات فاعلة مثل قوات الحشد الشعبي والقبائل تنخرط في هذه الأعمال، أحيانا بإذن من موظفي الدولة أو دعمهم أو قبولهم. وتتأثر النساء والأطفال والمهاجرون بشكل خاص. حيث يختفي الضحايا في أيدي شبكات التهريب، مع عدم وجود إمكانية للاتصال بأسرهم أو أقاربهم. ونادرا ما يسمح التقييد الشديد للإجراءات التي تتخذها السلطات المختصة بتحديد مكانهم.
وفي جميع هذه السياقات، يشمل الجناة المزعومين عملاء أمن الدولة، والقوات العسكرية الأجنبية، والجهات المسلحة التي يشار إليها عادة باسم «الميليشيات» التي لها مستويات مختلفة من الانتماء أو القرب من الدولة وعملاء الدولة، أو على العكس من ذلك، يتصرفون بدون إذن أو دعم أو قبول الدولة، كما يوثق التقرير.
في توصياتها حثت اللجنة الحكومة على وضع الأسس فورا لمنع هذه الجريمة البشعة والقضاء عليها. مؤكدة بأنه « لا يزال هناك الكثير مما ينبغي القيام به إذ لايزال الكثير من الطلبات المسجلة لاتخاذ إجراءات عاجلة بلا إجابة، ولم تمتثل الحكومة لالتزاماتها في تقاريرها الخمسة السابقة المقدمة إلى الجمعية العامة. ومن بينها أن « تُدرج فورا حالات الاختفاء القسري كجريمة منفصلة». كما دعت اللجنة الحكومة إلى وضع استراتيجية شاملة للبحث والتحقيق في جميع حالات الاختفاء، وأن تؤسس فورا «فرقة عمل» مستقلة للتحقق بشكل منهجي من سجلات جميع أماكن الحرمان من الحرية مع أسماء جميع المحتجزين. وإنشاء لجنة مستقلة للقيام بمهمة تقصي الحقائق للتحقق مما إذا كانت أماكن الاحتجاز السرية موجودة، بجميع الوسائل التقنية. ولمعالجة احتياجات الضحايا وحقوقهم، دعت اللجنة إلى إصدار تشريعات لضمان اعتبار أي فرد تعرض لضرر كنتيجة مباشرة للاختفاء، ضحية على النحو الرسمي ويحق له التمتع بالحقوق الواردة في الاتفاقية.
وتختتم اللجنة تقريرها بنداء تطالب فيه بتدخل عاجل ومتضافر من جانب الحكومة العراقية والبلدان المجاورة لها والمجتمع الدولي ككل لمعالجة ووضع حد لحالات الاختفاء القسري، بكافة انواعه ونطاقه، والذي يمس جميع سكان البلد، بغض النظر عن إنتمائهم العرقي والديني.
أثار نشر التقرير برسمه صورة مخيفة عن واقع لم يعد بالإمكان السكوت عليه، وكونه ليس التقرير الأول ولا المخاطبة الرسمية ألاولى مع الحكومة حول مأساة الإختفاء القسري، تساؤلات حول إمكانية حدوث تغيير فعلي أو أنه مجرد تقرير آخر يضاف إلى تل التقارير المتراكمة. وهي تساؤلات مشروعة تُحيلنا إلى ضرورة الإيمان بأهمية توثيق حالات الاختفاء القسري لتحقيق العدالة وبتطبيق القوانين المحلية والدولية وإن لم تُحدث تغييرا فوريا، فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، ومن الضروري متابعة الرحلة لديمومة الأمل.
كاتبة من العراق