من مسارات الحروف وكواليس الكتـابة .الحلقة ٢١
د.خيرالله سعيد
مـرثيـة بغــــداد لسميح القـاسم .
خلقت الحرب على العراق أجـواءً ملتبسة على عموم منطقة الشرق الأوسط، وأصبحت ” القـوّة ” هي البديل الأقـوى الذي تستخدمه أمريكـا ضد أعـدائهـا من الشعوبِ والحكومات الصغيرة، الأمر الذي جعل من ” حكومات الشرق الأوسط ” تابعـاً لهـا، في أكثر من محـور ، وصارت ” ظـاهرة التـدخلات الأجنبية ” في شؤون العراق واضحة للعيان، لا سيمـا من قبل دول الجِـوار للعراق، وأصبح ” قـرار العراق ” ليس بيدهِ، فقـد صار الفكر العراقي، خارج دائرة الضوء والفعـالية، حيث كان ” تقسيم كعـكـة العراق ” بين أحزابٍ طائفية وقومية وشوفينية، بغية فـك اللُّحمة الوطنية في بُـنيتـهِ التاريخية والثقافية والإجتماعية، وقـد لعبت كل من الولايات المتحدة وإيران، على هذا الوتـر التقسيمي ” الإثني والطـائفي ” وصار لكلٍ منهـا أتـباعـهُ وأنصاره في الحكم، وراحث هـذه الأحزاب الشوفينية والطائفية، تسعى لتحقيق مصالح مُـشغـّليهـا من الأمريكان والإيرانيين، فتشقّـقت وحدة الشعب العراقي، وتوزعـت على الإثنيـات والطوائف الدينية والقومية، وضعُفَ الشعور الوطني كثيراً، لأن العقـل السياسي العراقي، لم يعـد قـادراً على الخـروج من أزمـاته الفكرية، فصار كل حزب عراقي ” يُـغـنّي على ليـلاه ” الأمر الذي يزيد من غياب الوحـدة الوطنية .
هذا الأمر انعكس على واقع العراقيين في موسكو، ورأينـا شيوعيين سابقين ينتمون إلى طائفتهم الشيعية أو السنية، والأكراد الشيوعيين السابقين ذهـبوا باتجـاه أحزابهـم الكردية ” الإتحـاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستـاني” وظهر ذلك واضحـاً في أوّل سنة بعد الإحتلال، أي في بداية شهـر نيسان من عام 2004 ، عندمـا قامت ” منظمة الحزب الشيوعي العراقي في موسكو” أُمسية سياسية ” بمناسبة الذكرى 70 لتأسيس الحزب، ومرور السنة الأولى على الغزو الأمريكي للعراق، حيث ” حجزوا قـاعـةً في ” الكريست ” لجامعة الصداقة، وحضرهـا غالبية العراقيين، وقـد حضر مُـمَثـلي الحزبين الكرديين، وهـما يحملان ” عـلم كردستـان ” على يـاقة سترتيهـمـا، فيمـا حضر أشخاصٌ يمثلون القـوى الإسلامية، وكانوا في السابق شيوعيين. بـدأ الحفل بكلمة للسيد ” أبو أنيس ” مسؤول منظمة الحزب الشيوعي في موسكو، مشيراً فيهـا إلى ” أهمية دعم السلطة السياسية القائمة” باعتبار أن ” الحزب الشيوعي العراقي ، مُـمَـثَـلٌ فيهـا، مع بقية الأحزاب الكردية والوطنية والإسلامية، ثم قـامـا ممثلي الحزبين الكرديين وألقـيا كـلماتهـما ” المُرحّـبةِ بالفـدرالية ” والحكم الديمقراطي للعراق، وقـد طُـلب مني أن أُلقي كلمة في هذه المنـاسبة، فبـدأت بالهـجوم على كل الأحزاب المُـمَـثَـلةِ في ” مجلس الحكم ” وسلطتهِ الإحتلالية، وأشرت إلى ” معنـى النـكوص السياسي للقـوى الثورية، والتي يمثلهـا الحزب الشيوعي العراقي، بوصفهِ قبل وجودهِ في هذا التشكيل السياسي، ” حـزبـاَ شيعيّـاً ” لا شيوعيّـاً، ثم أشرت إلى ” معنى التبعية والذُل والعمالة ، في ” الرسالة المزدوجـة التي بعث بهـا كل من جـلال الطلباني ومسعود البرزاني إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش ” لإقـامة ” قـاعدة أمريكية في كردستـان العراق ” ورحتُ أُعـدّد عـدد القـواعـد العسكرية الأمريكية في العراق ، وأشرت إلى معـنى أن يُـسلّم العراق القوى الفاشية الدينية والقومية الشوفينية، وإلى أيِّ مـدى ستؤثّـر هذه السياسة في مستقبل العراق ، وحمّـلت كل القِـوى السياسية المشاركة في العملية السياسية، مسؤولية السكوت على وضع العراق ” تحت الإحـتلال الأمريكي والهيمـنة الإيرانية ” ولا يصح أن يكون هـناك شخصٌ ينتمي إلى العراق، ويوافق على هذا السلوك الإحـتلالي .
* لم يَـرُق خطابي هـذا إلى كل الحضور في هـذا الحفل، بل تجرّأ أحدهم وهـو د. فلاح الشيباني ، ليوصّفـني ” أحـد مروجي الإرهـاب ” وقد ذكر بـأنه جـاء للتـوء من العراق، وقد التقـى بالدكتور موفّـق الربيعي، مسؤول الأمن القومي في العراق، في السلطة الجديدة، وهم يعتبرون ” مثل هـذا الخطاب ، خطـابـاً إرهـابيّـاّ ” . فقلت لـه : مبروك عليك هذه الزيارة . ثم قام غيره من الشيوعيين الموسكوفيين، ليصفني ” بـالخـارج عـن أصول الماركسية اللّينينية ” فضحكت منـه، وبعـد ذلك قلت : لا يشرفني الحضور إلى مثلِ هذه الجلسات ، التي تشيد بالإحــلال الأمريكي للعـراق. ونهضت وغـادرت القـاعة .
* * *
* سميح القـاسم يُـرثي بغـداد .
* شكّـل سقوط بغـداد على يـد الأمريكان عام 2003، نكسةً وصدمـةً كبيرة في الوجـدان العربي، وراحت الذاكرة التـاريخية للأدباء والمفكرين العرب، تشتعـل بذكريات المـاضي، وحضوره البـاهي في التـاريخ، مـذ كانت بغــداد عاصمةً للخـلافة العباسية في عصرهـا الذهبي، وكان الشُـعراء أكثر إستجابة للتفـاعل مع هذا الحـدث التـاريخي . فلقـد كتب الشاعر الفلسطيني سميح القـاسم ،واحدةً من أشهر قصائـدهِ الشعرية الرائعة ، وسمـاهـا ” بغــــــداد ” ونشرهـا في ” جريدة الدستور الأردنية ” في القسم الثقافي ، وفي العـدد 12964 ، الصادر في يوم الجمعة في 1 / رجب / 1424 هـ / الموافق 29 / آب / 2003 ، وقد وصلتني القصيدة في اليوم الثاني لنشرهـا، بواسطة صديق فلسطيني جاء من الأردن لموسكو، واتصل بي حـال وصولهِ إلى موسكو، وقال لي : هـناك قصيدةً هـامة لسميح القـاسم، يرثي فيهـا بغـداد، وقد جلبتُ لك تلك القصيدة، مع الجريدة المنشورة فيهـا، ثم قال : سـأراك غـداً في ” مطعم المـيراج ” عند الصديق حسن الغـزو، صاحب المطعم، لنتحدث حول الموضوع، فـما رأيك !؟ قلت : حسنـاً، والتقينـاً فعلاً في ذلك المطعم المذكور في العاشرة صباحـاً. وأثـنـاء تنـاول الشاي، بـدأتُ أقـرأ القصدة، وأُعـلّم عليهـا ببعض الهـوامش، حتى أكملت قـراءتـهـا بعد حـوالي نصف ساعة، إذ أنهـا قصيدة طويلة ومن النظم ” الكلاسيكي” وتقع في 74 بيتـاً من الشعر .
* عند العـودة إلى البيت، بـدأت بـإعادة قراءة القصيدة، مع وضعِ إشارات وهـوامش على النص، المنشور في الجريدة، ثم شرعت بكتـابة ” مُـسَـوّدةٍ نقـدية ” في دفترٍ خـاص، ضمن ” منهجية الكشاكيل ” التي أستخدمهـا في الكتـابة، قبل النشر، ونظراً لأهمية القصيدة، في هـذا الظرفِ بالذات، إرتـأيت أن أقـرأهـا من زوايا مختلفة، بغية تسليط الضوءَ عليهـا، وإبراز جـواهـر معـانيهـا، وعمقِ استنـبـاطاتهـا، بـاعتبارهـا ” واحدة من معلّـقات هذا القرن 21 ” وأطلقت عليهـا تسمية ” بغـداد معلّـقة سميح القـاسم المعـاصرة ” . وانطلقت من هذه التسمية باعتـبار أن هـذه القصيدة، واحدة من المعلّـقات الحقيقية، بكل ما تحمله كلمة ” معلّـقة ” من معنىً ومضامين معرفية، إضافة إلى كـون القصيدة، تُـبرز مسؤولية المثقف – الشاعر، أزاء مـا يحدث حوله من أمورٍ جسام، تُـحرّك فيه وازع الإبـداع ووازع الموقف، فيصبح فـاعلاً ومنفـعـلاً ، في لُجّـة الأحـداث، وبالتـالي يعلـن صوتـه الرافض ضد كُـل ما يُسئ إلى كـيانـه الحضاري، ومحمولهِ الثقافي، ومن ثمَّ رفضهِ المُـطلق لكل محاولةٍ تُـريـد تهـميشه ، كـمبدع ، وتكميم صوتـهِ ، كـإنسان ، ولذلك أطلق سميح القـاسم هذه القصيدة ” بغـداد ” ليقول كلمتـهِ في هـذا العصر، عصر العولمة الأمريكية، والإذلال العربي، والسكوت المطلق، لأن الشاعر يعـي معنى الكلمة ومعنى الموقف .
* تفاعلـُت جيداً مع هذه القصيدة، وتشرّبتُ كل معـانيهـا، فـأثّرت بي بشكلٍ رهيب، حتى أنيّ بقيتُ أشتغل عليهـا لوحدهـا ، لمدةٍ زادت على الشهر من الزمن، بين قـراءة وتنـقيح، حتى أنجزت الدراسة عنهـا بـ ” 76 صفحة” فولسكوب، ونشرتهـا في موقع ” الحِـوار المُـتـمدّن ” بـأربعـة مقالات متسلسلة، كان القسم الأول منـهـا ، نُشرَ في العـدد 655 بتاريخ 17 / 11 / 2003 ، ثم تـوالت نشر الأجزاء، بنفس الموقع،، ثم نُـشِرت بمواقع أنترنيتية أخرى عـديدة جـداً .
* وقـد طلبت من أحـد الأصدقاء الفلسطينيين، في الأراضي المحتلة، أن يوصل هذه الدراسة النقدية، بـأجزائهـا الأربعـة إلى الشاعر الفلسطيني ” سميح القـاسم ” وأوصلهـا فعلاً لـه، الأمر الذي حـدا بسميح القـاسم، لأن ينشرهـا في أكثر من موقع وصحف فلسطينية وعربية، بل أغـرتـهُ هذه الدراسة، لأن يجمع كل قصائدهِ التي قالهـا في ” المُـدن العربية ” وأصدرهـا بعملٍ جـديد ، سمّـاه ” القصائد العربية ” وجعل ” هذه الدراسة التي كتبتـهـا ” مُـقـدّمة ” لهذا العمل الإبـداعي ، ونشرهُ في عـام 2006 في دار الكرمل بفلسطين .
ومن جانبٍ آخر، أغرتني هذه القصيدة أيضاً، وهذه الدراسة، لأن أجمع كل القصائد العربية التي قيلت في بغداد، وجمعتـهـا في ” كـتاب إسمـه بغــداد والشعراء والقـدر” وقد أخذت هـذا العـنوان من قصيدة لفيروز ، غنّـتهـا، عندما زارت العراق في منتصف سبعينـات القرن المنصرم، حيث كان إسم أغنيتهـا ” بغـداد والشعراء والصورُ ” .
وقد اشتمل هذا العنـوان على مجموعتين من القصائد الشعرية، مختلفة الأزمـان والأشخاص، مؤتلفة بموضوعـهـا، وحسرتهـا وبكائهـا، وكل قصيدة تُظهـر لواعج شاعرهـا ، وتنقسم هذه المجموعة الشعرية إلى فـئتين: الأولى، إنطلقت من اوان العصر العبّـاسي، حين جَـسّدت بغـداد، شموخ الحضارة العربية – الإسلامية، ورمزاً للحاضرة العباسيّـة، ومشخّصة لحـالة بغـداد وظروف ذلك الزمـان،، ومعلّـمة على حالات الخلل السياسي آنذاك .
فيمـا الفئة الثانية من القصائد ، لشعراء معـاصرين، عـشقوا بغـداد وتغـزّلوا فيهـا، منذ أن أصبحت ” جمهورية الثوب والملبس” وكل شاعرٍ يدلو بدلوهِ، وبالصورةِ التي يراهـا ويرسمهـا لبغــداد ، وقـد نَشرتُ الكتـاب بطبعةٍ ألكترونية عام 2012 .
* ومن الغريب، والخـارج عـن المـألوف الأخلاقي والثقافي والمهني في عـالم الطباعة، أن يقوم ” السيد مُـعـاذ يوسف ” صاحب دار إضاءآت ، للطباعة والنشر في القاهرة، أن يـأخذ دراستي النقدية هذه، عـن ” قصيدة بغـداد لسميح القـاسم، وينشرهـا بكتابٍ مستقلٍ ، بنفس العـنوان ، دون إذنٍ منّي أو من سميح القاسم، وينشرهـا في القاهرة عـام 2008 ، وقد كتبت عـن ذلك ” منشوراً بالفيس بوك ” عـن هذه السرقة، وطالبت السيد رئيس إتحـاد الناشرين العرب بذلك، ولكن دون فائدةٍ تُـذكر، حتى هذه اللحظة. !
* * *
* حـلَّ العـام 2004 م، والوضع في موسكو يزداد سوءاً، من الناحية الإقتصادية، والسياسية والإجتماعية حتى، وبـدأت بعض مظاهـر لنزعـة عنصرية تظهر بوضوح عـند الروس، ضد الأفارقة وغيرهم من الملونين السُمر والصُفر، وصارت الحركات الفاشية تظهر بالعـلن، لِـتُعبّر عـن ممارساتهـا داخل الأسواق، وفي الساحات العامة، والأنكى من ذلك، صارت المـافيـات الروسية، تحت قيادة الشرطة في موسكو، وأصبحـنـا نحنُ المُـلونين، صيداً سهـلاً لهذه المـافيات الشرطية، ” وعليك أن تـدفع لهـم ” حتى وإن كنت تملك الوثـائق الرسمية” فكم من ضحيةٍ قتلوه واستولوا على نقـودهِ البسيطة، وهـناك الكثير مِـمّـن رُميـوا من أعلى البنايات الشاهـقة، بحجة أنهم ” إنتحروا ” والحقيقة هي عكس ذلك . ولا أحدٌ يستطيع أن يتقدّم بشكوى ضد الشرطة الروسية في موسكو .
ضاقت بنا سُـبل العيشُ ، فاضظرّ أغلبنـا للإشتغال بالأسواق العامة ” الرينك” حيث لم تتجاوز الأجرة اليومية عـن ” 20 دولار” في اليوم، من الساعة 7 صبـاحـاً حتى الساعة 5 مساءً، وقد دفعتني الظروف لأن أشتغل ” قصّـاباً ” لبيع اللّـحم، في مطعم أحد الأفـغـانيين في حياض جـامعة الصداقة، وأحيانـاً يصدف أن يُنشر لي مقالاً أو بحث، في بعض الصحف أو المجلات الخليجية، لأسـدَّ بـهِ رمق العيش وإيجـار الغرفة .
* العـمل في السينمـا :
ذات مرّةٍ، إتصل بي أحد الأصدقاء اللبـنانيين، وقال لي : هـناك شركة روسية، تبحثُ عـن مترجمٍ لنصوص إنجليزية، تُحوّل إلى اللغة الروسية، ومن ثم يُحوّل إلنص / في السيناريو / إلى ” اللهجة الشعبية العراقية ” وعـندمـا سـالوني خطر إسمك على بـالي، وأعطيتهم إسمك ورقم تليفونك، وسيتصلوا بك في الأيـام القـادمة، فشوفهم وتحدّث معهم، فـإن راقك العمل فـاشتـغل معهم، وفعلاً بعـد يومين، إتصل بي شـابٌ إسمه ” مكسيم ” يتحدّث باللغة العربية بشكل لا بأس به، سـلّم بشكلٍ لطيف وقال : ” نحـتاج إلى تحويل سيناريوهـات إلى اللهجة العراقية، ونحتاج إلى كثير من العاملين معـنـا من المترجمين وغيرهم، وقـد رشّحوك لهذه المهـمة . قـلتُ : حسنـاً، إعطني العـنوان ورقم الهـاتف، وسنلتقي غـداً في ساحة المترو، داخل المحطة . فوافق على ذلك، وذهبت في اليوم التـالي، والتقيت بالسيد مكسيم داخل صالة المترو، ثم خرجـنـا إلى موقع العمل، وهـو عبارة عـن ” طـابقٍ ثالث، من بناية لم تكتمل بعـد، وفيهـا بعض الغُرف والقاعات الكبيرة، ودخلت إلى الإدارة، فرحبت بي ” السيدة ليـنـا ” مديرة العمل، وبعض العاملين معها، وعرضوا عليّ السِيناريوهـات ، المُترجمة من قبل الدكتور عبد السلام الشاهباز، وكـان موجوداً وأنـا أعرفه جيداً، فقد سبق وأن تعـارفـنا في ” راديو موسكو، حيث يشتغل مترجمـاً هـناك مع الزميل عبدالله عيسى . فصرتُ أراجع كل 10 صفحات من السيناريو وأحوّلهـا إلى ” اللهجة العراقية ” مقابل ” 25 دولار ” وهكذت تمت الموافقة على العمل، ثم اقترحوا عليّ أن ” أشتغل في التمثيل السينمائي ” فقلتُ : أنـا لا أعرف التمثيل ولم أشتغل فيه طوال حياتي . فقـالت السيدة ليـنـا : ويبدو هي مديرة الإنتـاج ” الأمر سهـلٌ جداً، هـناك مخرج ومصوّر وهيئة مساعدة، وسوف يعلمونك كيفية الأداء، وغـداً ستـأتي مجموعة من الشباب العراقيين، سيقومون بهـذا العمل، وستراهم، ثم أضافت : إن التمثيل للشخصية المطلوبة، سيكافئ عليهـا الممثل كل ساعة بـ 100 دولار ” قلتُ : خرشو ، سـنـأتي غـداً ونرى ذلك، وفعلاً جئت في اليوم التـالي، بحدود الساعة 1 ظهـراً، فرأيت أمامي كل من د. محمد الطيّـار، وهو أستاذ لغة عربية ومترجمٌ ممـتاز عن الروسية، ثم هـناك الشاعر الشعبي لطيف الساعدي، والفنـان التشكيلي كاظم الشاهين ” زاهر ” ثم التحق بنـا ” الحـلاّق رعـد ” وآخرين، ونظراً للحـاجة إلى ممثلين أكثر ممن يجيدون اللغة الروسية، إستدعيت د. كامل أوراهـا، لأنه مترجم ممتـاز، ويعرف اللغتين الروسية والإنجليزية ، فـاشتغل معـنـا .
* طبيعة السيناريوهـات، التي يجري تمثيلهـا، كانت تشير بمضامينهـا إلى أسباب الغزو الأمريكي للعراق، وموقف المعارضة المسلحة منهـا، واستطعـنـا أنـا ود. كامل أوراهـا أن نستنتـج أن هـذه الأعمال السينمائية هي مخصصة للقوات الأمريكية الغازية للعراق،، لغرض الإطلاع على طبيعة اللهجة العراقية، وبنية الشخصية العراقية، وردود أفعـالهـا ضد الغزو الأمريكي، وكانت حصيلة العمل السينمائي ” 3 ساعـات فقـط ” ولكنهـا نُـفِّذت بحدود الشهرين، كل عشرين يوم كنّـا نقوم بتسجيل حلقة أو عـدة مشاهـد ، لمدة ساعة واحدة، كل حسب دوره، وكنت أقوم بتمثيل شخصية الضابط الأمريكي، فيمـا يقوم الآخرون بأدوار ” الفـلاحين وأهـالي المنطقة” أو أصحاب مقهـى يقام فيهـا حـوارٍ سياسي، لشخصين عراقيين يناقشان الموقف والحـالة السياسية في البلد، وقد قمنـا أنـا ود. كامل بتمثيل هاتين الشخصيتين . ولكن العمل لم يستمر، وتوقّـف فيمـا بعـد، كمـا أخبرتني السيدة ليـنـا ، مديرة الإنتـاج،لأننـا جميعـاً ليس فينـا من درس التمثيل أو مارسه في حـيـاتـه.
* هذه المسألة ” أقصد مسألة التمثيل ” جعلت من بعض أعضاء جمعية المقيمين العراقيين، أن يعـلّقوا عليهـا بالقول : إن السيد أبو سعاد، صار يقبض بالدولار من الأمريكـان، والتركيز عليَّ فقـط، دون بقية الناس الذين كانوا معـنـا في العمل السينمائي .
* في بداية تموز، 2004 ، إتصل بي الزميل ” Giza ” , وهـو مندوب اللاّجئين الأجانب في روسيـا، وممثلهـم في ” منظمة كـليبر ” التابعة للأمم المتحدة،، وأخبرني بـأن ألتـقيه غـداً في مقر ” منظمة كـليبر ” لتسليمي بعض الأوراق الرسمية، لإجراء الفحوصات الطبية العامة، في أحد المستشفيات، إضافة إلى مراجعة ” دائرة الهجرة التـابعة للأمم المتحدة ” ومـلئ الإستمارات الرسمية، مع 4 صور شخصية، وصورة جـواز السفر، وفعـلاً تم ذلك في اليوم التالي، حيث كُـنّـا مجموعة من 4 أشخاص، ذهبنـا سوية إلى المستشفى، المقرر، وفحصونـا بشكل دقيق، ثم أخبرونـا بـأن النتائج سوف تصدر في الأسبوع القادم، وعند صدور تلك التقارير الطبية، في الوقت المحدد، وكانت كلهـا إيجابية، توجهـنا من هـناك مباشرة إلى ” دائرة الهجرة ” وسلمـناهم التقارير الطبية ونتائج الفحص، فقـالوا لـنا: سوف نطلبكم مرة ثانية، لتسليمكم الوثائق الرسمية كاملة، والتي سوف تستصحبونـهـا معكم إلى البلدان التي وافقت على ” لجـؤكم الإنساني ” إليهـا . وحين خرجـنـا من تلك الدائرة، سـالت الزميل ” Giza ” إلى أين سـنتـّجه ؟ فقـال : أنتَ إلى كـندا ، وآخرين للسويد، وشخص آخر إلى الولايات المتحدة، ففرحت في داخلي وقلت : أحـقّـاً خلصت من إشكالات موسكو، وصعوبة العيش فيهـا ! .
* بعد حـوالي 3 أسابيع، راجعـنا دائرة الهجرة، وسلّمونـا ” الوثائق الرسمية، داخل ” كيس نـايلون – عِـلاّﮔـة ” وعلى هذه ” العِـلاّﮔـة ” رسم وشعـار الأمم المتحدة، وقالوا لنـا : هذا الكيس تحملونه بـايديكم، حتى يعرفكم العاملون في الأمم المتحدة، في حالة نزولكم في أيِّ مطار دولي، ويستقبلونكم رسميّـاً، فحذاري أن تضيّـعـوا هذا الكيس ؟ .
* في منتصف شهر آب / 2004 ، كان لي مـوعـد مع ” مترجمة عراقية، في اللغة الإنجليزية، داخل السفارة الكندية في موسكو، وعند اللّـقاء مع القائم بأعمال السفارة الكندية بشكلٍ جيّد، كوني أحمل شهـادة الدكـتوراه في العلوم الإنسانية، وبعد حوارٍ دام حـوالي نصف ساعة، هـنأني على ” القبول في كـندا ” وأعطـاني بعض الوثائق الرسمية، مع جـواز سفري، وبطاقة سفر، محـدد وجـهـتها إلى ” أوتـــاوا ” العاصمة الكندية، ومحدد فيهـا ساعة السفر من موسكو، الساعة 4 فجراً من يوم 8 / 9 / 2004 ، وعليّ أن أكون متواجداً في مطار موسكو قبل موعد الإقلاع بساعةٍ على الأقل، ثم صافحني قـائـلاً : Good luck ، حظـاً سعيد .
عُـدتُ إلى البيت فرحـاً، وهيأت حقائبي، وبعض الكتب والكشاكيل، التي يجب أن أستصحبهـا معي إلى كـندا، وصفيت أشياءِ وفرزت بعض الأوراق والمُـسودات، التي كنتُ أدوّن فيهـا بعض ملاحظـاتي حول أمور الكـتابة .
* عند المساء، إتصلت نـاتاشـا من مدينة روستوف، لتخبرني بمجيئهـا غـداً صباحـاً، حيث ستـأتي بالطائرة وليس بالقطـار، وعليّ أن أَعُـدَّ الفطـور الصباحي ، قلتُ حسنـاً أنـا بإنتظـارك، وفي صباح الغـد، كانت قد وصلت بحدود الساعة 8 صباحـاً، جـائتني إلى الشقة، فرحّـبت بهـا ” البـابوشكـا يوليـا ميخـائيلوفـنـا، تنـاولنـا فطور الصباح، وخرجـنـا إلى قلب موسكو، حيث أنهـا تريد أنهـاء بعض الأوراق في وزارة التجارة، ومن ثم تجولـنـا في وسط العاصمة موسكو، وأقدامـنـا سارت نحو ” الساحة الحمراء” جلسنـا هـناك في إحدى الكـافيهـات، لاحظت نـاتـاشا أنّي على غير عـادتي، فثمة هُـدوءٍ في سلوكي، فقـالت : مـابك اليـوم !؟
قلت : نـاتـاشـا، قد يكون اليوم آخر لقاء بيـنـنـا، فقـد تمَّ قبولي لاجئـاً في كــندا، وفي الأسبوع القادم، سـأكون قـد غـادرت موسكو! تـوقّـفت نـاتاشا عـن الكـلام، وأطرقت برأسهـا إلى الأرض برهـةً ثم قالت : تلك هي حياتي، لم ينصفني الدهـر بمن أُحِب! ثم نهضت وقالت : دعـنا نفترق من الآن، فـأنـا لا أُطيق الوداع. ورأيت بريقُ دمـعٍ قـد غـزا مُقـلتيهـا، قـبّلتني بشكلٍ سريع ومضت . تثاقلت قـدمـاي عند النهـوض، ومسحة من الحزن راحت تُـطبقُ عليّ، وبعـد حوالي الساعة وصلت من محطة المترو إلى البيت، فرميتُ نفسي على السرير لأرتـاح قليلاً، تذكرت جملةً كانت قـد قالتـهـا نتـاشا ذات مرّة ، ونحن في مدينتـهـا روستوف : ” إذا فرّقت بيـنـنـا الأيـام، أرجـوك أن تذكرني في أحـد أعمالك الأدبية ” .
* مـرَّ ثقيلاً هـذا اليوم، ولم أخرج من البيت، رغم أن بعض الزمـلاء والأصدقاء، رغبوا في دعـوتي، فـاعتذرت لهـم .
* في 2/ 9 / 2004 ، كان اللّـقاء الأخير لأعضاء المنـتدى الثقافي العراقي في موسكو، حيث قرّر الزملاء في المنتدى تـوديعي، وإنتخـاب ” رئيسـاً للمنتدى” بـدلاً عـني، فوقع الإختيار على الزميل د. سلام مسافر، لرئاسة المنتدى، ثم أقيم حفلُ وداعٍ لي في ” مطعم الصديق اللّـبناني حكمت صميلي” .
* قبل يومين من سفري، أي في 6 / 9 / 2004 ، زارني كل من د. علي عبد الرزاق، ود. جابر الصرّاف، وتنـاولوا الغـداء معي في البيت، وأثناء الغـداء تحدّث الصفّـار قائلاً : نحنُ جئنـا لوداعك، فنرجو ان تذكرنـا بخير، فربمـا قصّرنـا معك، وعلى العموم، نتمنى لك سفراً ميمونـاً، ثم أردف قائلاً : هـناك مسألة كلّفني بهـا د. عبد الحليم ﮔـاصد، وهي أنّه سبق وأن أعطـاك 100 دولار، قبل كم سنة، عـندمـا كنتم ” أصدقـاء ودهـن ودبس ” وأنت في مرحلة الماجستير ، أي في عام 1996 م، قلت : هذا صحيح، فقـال : هـو يُريد هذا المبلغ أن تُـعيدهُ إليه ، قلت للدكتور علي عبد الرزاق : إعطيه 100 دولار ، من ثمن هذا الكمبيوتر، والذي جئت لتـأخذه اليوم، فـوافق على ذلك، ثم قلت للدكتور جابر الصراف : هـناك بـدلتين وحـذاء، سبق للدكتور عبد الحليم ﮔـاصد أن أهـداهـما لي، فـأوصلهـما إليه مع الشكر. ثم نهضت متّجـهـاً إلى دولاب الملابس، ووضعت تلك البدلتين مع الحذاء في ” كيس نـايلون كبير ” بغية أخذهمـا معه عند الخروج والمغادرة، وبعـد حـوالي الساعتين، خرجـا من عـندي، فـاخذ د. علي الكمبيوتر، وحمل د. جابر الصرّاف كيس الملابس ، وكان ذلك آخر لقاء بيننـا .
* في ليلة 7 /9 /2004 ، حضر الصديقـان د. حميد العتّـابي والصديق سمير العبيدي، حيث سينقلاني ، بعـد منتصف اللّـيل إلى مطـار ” شيرميتفـا دفـا ” وهـو المطار الدولي في موسكو، حيث انطلقنـا من البيت في حـدود الساعة 12 ليلاً، وحملنـا الحقائب والكتب، وتركت كل آثاث الغرفة من تليفزيون ملّـون وسرير نـوم وغيرهـا، للسيدة البـابوشكـا ” يوليا ميخـائيلوفـنـا ” والتي ودّعتني والعبرةُ تخنقـهـا .
* وصلنـا إلى المطـار في حـدود الواحدة بعـد منتصف اللّـيل، وكـان هـناك أحد ” موظفي منظمة كليبر ” في انتظـارنـا، وصديق آخر كان مسافراً معي أيضـاً إلى كـندا، وكان لا يحمل معه سوى حقيبة يد صغيرة، فوزنـا الحمولة سـويّـة، فودعت أصدقائي، ودخلت إلى ” صالة المسافرين، بحدود الساعة الثانية والنصف صباحـاً، وفي الرابعة صباحـاً، أقلعت بنــا الطائرة الروسية من موسكو متوجِّـهةً إلى ” مطـار فرانك فورت ” في ألمـانيا، ومن هـناك سوف نُـبدّل إلى طـائرة أخرى، متّجـهة إلى ” مطار تـورنتـو ” وقد استقبلني أحد ” موظفي الأمم المتحدة” والذي عرفني من خـلال ” كيس النايلون ” الخاص بالأمم المتحدة، ثم قام هذا الموظف، باستصحابي معه، وقام بتحويل الرحلة إلى ” مطار أوتــاوا ” حيث وصلتـهـا ليلاً، في حـدود الساعة 8 مساءً من يوم 8 / 9 / 2004 ، وكـان أحد ” موظفي دائرة الهجرة الكـندية ” في إستقبالي في المطـار، فحملت حقائبي وكتبي بسيارة خـاصة، توجّـهت بي من المطار إلى ” دار الضيافة – رسبشن هـاوس ” في مدينة أوتـاوا .
* * * يتبع