من سوريا إلى السودان: طفل يمتهن حفر القبور وآخر يفضح رموز الحرب في بلاده
نحن أبناء أرض متعبة. متعبة حد الضياع. تهتز بحروبها وزلازلها وخيانة زعمائها لها. لا نعرف أياً من البلدان أشد حزناً أو دمارا. هل هو السودان، أم سوريا، أم العراق، أم لبنان، أم اليمن، أم ليبيا؟ فقر ونزوح مهين، ولجوء متاجر به، وتشرد وموت مخز ومعيب!
قد يتساءل بعضنا عن معنى الموت المعيب؟ إن خانته واسعة جداً في بلادنا، ولكن إحدى معانيه هي أن تمرض فتموت، لأنك لم تجد الدواء أو لأنك لا تملك نقودا كي تدخل مستشفى.
عرفنا كل أنواع العذابات. وبات الخوض في متاهاتها عقيم. واستنزفنا وأرهقت دماء أطفالنا، ولم يبق أي شيء. بلاد المجد والتاريخ والحضارة تئن من كثرة الوجع. وصلت بنا الآلام إلى حد تجمدت فيه مشاعرنا وتلبدت أحاسيسنا، وكأننا أدمنا الوجع، واعتدنا عليه، حتى أصبحت كل مشاهد العذابات مألوفة!
قرأنا الكثير من قصص الموت، وما زالت تلك الأخبار، تضج بها الصحف والقنوات الإخبارية وتتصاعد حدتها يوماً بعد أخر.
من أين نبدأ حكايتنا؟
إنه مصطفى طفل سوري، لم يتعد عمره 11 عاما. ولكنه بطل من نوع آخر. هو مثل الكثيرين من أطفال سوريا وجدوه تحت الأنقاض مع أمه وأخته، بعد قصف دمر بيته وأحلامه كلها. أما والده فقد مات، وهو يصارع ليشهق شهقته الأخيرة. لم يكن خروج مصطفى وأهله من العتمة إلى النور بداية جديدة. ولم يكن النور نوراً، بل ذلك النور كان محجوباً يخفي تحته ظلمة أشد قسوة وعنجهية من عتمة عاشها تحت الأنقاض.
خرج إلى الحياة ليجد نفسه مسؤولاً عن أسرة صغيرة. نعم طفل يرعى أسرة. يصحو في الصباح الباكر، عند الساعة السادسة، ليخرج إلى عمله ولا يعود إلى بيته قبل الساعة السابعة مساءً. إنه حفار قبور. قد يكون ذلك العمل من الأشغال التي لا يتمناها أحد. وقد يرعب حتى الكبار.
لكنه لم يُخِف مصطفى. وهل هناك ما يرعب أكثر من عيش الحرب بصواريخها وقذائفها وقنابلها؟ هل ما يخيف طفلاً أكثر من موت أبيه بجواره تحت الأنقاض، وهو عاجز عن مساعدته قبل أن يسحبوه إلى الخارج.
في القبور أموات ظرفاء لا يمكنهم أن يحملوا الأسلحة، ولا أن يرموا البراميل المتفجرة، ولا يهددون الآخرين بأذيتهم. ينامون بصمت جميل وهدوء يبعث الطمأنينة. إن موطن الأموات فيه رزق فُقِد في حضرة الأحياء. هكذا أصبح هؤلاء الأموات أكثر رأفة وعطفاً على الطفل الصغير. وربما قد نشأت بينهم صداقة حقيقية. فهو يحفر لهم كي يستريحوا تحت الأرض، وهم يمنحوه وأهله بعض المال كي يشبعوا جوعهم فوق الأرض.
هكذا يحمل فوق كتفه فأساً أكبر منه، ويتجه إلى المقابر، حيث يقضي يومه، وبعدها يذهب إلى السوق لشراء ما أمكنه من الخضار والأغراض حتى تطبخ أمه لأبنائها.
تقول صفية أم مصطفى، والحزن يرتج في صوتها: «صعب هو بروح من الصبح على المقبرة.. قبل الحرب كنا عايشين في أمان، لكن بعد الحرب صرنا ننزح من هون لهون، واليوم صار مصطفى الطفل معيل العائلة»!
صفية فخورة بابنها، ولكنها تخشى عليه من ظروف الحياة. تتمنى أن تحدث معجزة تعيده إلى المدرسة ليكون له مستقبلاً أفضل، ولكن ليس باليد حيلة.
كم نتمنى أن تسمع الجهات المختصة المعنية بحقوق الطفل وحقوق الإنسان صرختها، علها تعيد لمصطفى بعضاً من حقوقه الإنسانية المفقودة.
دماء الأطفال
ومن سوريا إلى السودان، الذي فاجأنا عسكره بحرب شوارع بين «الجيش السوداني» و«قوات الدعم السريع» في مناطق مأهولة بالمدنيين في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك.
دمار وموت ودماء تسيل على الطرقات. صرخات النساء والأطفال تدمي القلوب. حكايات كثيرة من بينها قصة طفل عالق في مكان بعيد عن أهله. لقد شهد موت رفاقه كلهم أمامه. يبكي ويشهق ويستغيث قائلاً: «شايفين الدمار يا ناس.. أقسم بالله نحن لا علاقة لنا بهذا الدمار. قتلوا كل أصحابي. لا أستطيع العودة إلى بيتي ولا أعرف ما العمل. أختبئ هنا في منزل أشخاص أعرفهم. السودان لا يستحق هذا الدمار.»
يشهق ويحاول مسح دموعه بقميصه، ولكنه يغرق في بكاء عميق. وهو يكرر كلمة دمار أكثر من خمس مرات، في فيديو لا يتعدى الدقيقة الواحدة. طفل مصدوم لا يعرف أين يذهب، وهو يرغب فقط أن يرتمي في حضن والدته ويجلس بين إخوته.
كما انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي فيديو آخر لامرأة في منتجة الدواجن، التي ترعاها تصرخ وهي عاجزة أمام موت الدواجن بسبب انقطاع المياه والكهرباء. تقول: يا جماعة هذا الانتاج.. علينا التزامات وشيكات.. يا جماعة ما عندنا ماء وما عندنا كهرباء.. وما عندنا غاز.. وأنا بجانب المعسكر.. انتاجنا رايح قدامنا.. ما في لا مواصلات ولا بنزين ولا أي شيء.. على العيد سندخل السجون، إذا لم نتمكن من العمل ودفع الشيكات.. ارحمنا يا برهان.. ارحمنا يا حميدتي.. خافوا الله في شعبكم!
بلد عربي جديد يحترق لأجل مصالح الزعماء وأطماعهم في الأرض. بلد جديد يقتل شعبه بدماء باردة!
إنه زمن بشع يرأسه كل هؤلاء المنافقين والمتعطشين إلى السلطة.