العطش..قصة قصيرة
نوال السعداوي.
————–
أرض الشارع الاسمنت تلين تحت قدميها من شدة حرارة الشمس. تلسعها كقطعة حديد منصهرة.. فتقفز هنا وهناك .. تتخبط كفراشة صغيرة ، تصطدم بلا وعى بجدران لمبة النور الحارقة . وكان يمكن أن تنحرف إلى الظل في جانب الطريق، وتجلس بعض الوقت على التراب الرطب. ولكن سبت الخضار معلق في ذراعها، ويدها اليمنى مطبقة على ورقة مهلهلة من ذات الخمسين قرشا ، تردد بينها وبين نفسها الأشياء التي ستشتريها من السوق كي تحفظها .. نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين قرش ، كيلو كوسة بخمسة صاغ ، كيلو طماطم بسبعة صاغ ، والباقي ثلاثة فروش ، نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين ، كيلو كوسة بخمسة صاغ ، كيلو طماطم بسبعة صاغ ، والباقي ثلاثة قروش.. نص كيلو لحم بــ ..
وكان يمكن أن تستمر في العد ، حتى تصل إلى السوق كالمعتاد كل يوم، ولكن عينيها لمحتا فجأة شيئاً غريبا ، شيئا لم يخطرعلى بالها قط .. وتغلب الدهشة على سخونة الأرض ، فوقفت تحملق . عيناها مفتوحتان وشفتاها متدليتان .كانت هناك حميدة بلحمها ودمها، تقف أمام الكشك وفي يدها زجاجة كازوزة مثلجة ، ترفعها إلى فمها وتشرب منها .
لأول لحظة لم تعرف أنها حميدة.. كانت دائما تراها من الخلف ، وهي واقفة أمام الكشك ، ولم تتصور أنها حميدة.. قد تكون احدى البنات ، اللاتي تراهن كل يوم أمام الكشك يشرين الكاروزة.. البنات أولاد الناس..
اللاتي يلعبن بالكرة والحبل، ويذهبن إلى المدرسة ولا يشتغلن في البيوت.. مثل سعاد ومنى وأمل ومرفت ، وكل صديقات ستها الصغيرة سهير ..
كانت تظن أنها احدى هؤلاء البنات ، وكانت ستمضى في طريقها.. ولكنها لمحت سبت الخضار .. لمحته وهو يتدلى من ذراعها وهي واقفة أمام الكشك .. ولم تصدق عينيها فدققت النظر ورأت خصلات شعرها الأكرت تتدلى على قفاها من تحت المنديل الأبيض.. هذا هو منديل رأس حميدة، وهذه هي ذراعها يتدلى منها سبت الخضار.. ولكن أيمكن أن تكون حميدة حقا ؟.
وأخذت تفحصها من الخلف فحصا دقيقا ، ورأت كعبيها المتشققتين يبرزان من الشبشب البلاستيك الأخضر.. هذا هو شبشب حميدة الأخضر وكعباها.. ورغم كل ذلك لم تستطع أن تصدق، وأخذت تفحصها من جميع الزوايا.. من الشمال ومن اليمين، وفي كل مرة ترى شيئا ، لا يمكن أن يكون الا لحميدة التى تعرفها .. الجلباب التيل الأصفر وفيه شق صغير من الجنب فوق فخذها اليسرى، وفردة الحلق المصدية في أذنها اليمنى، والجرح العميق القديم على صدغها الأيمن . هي حميدة اذن بعينها.. بلحمها ودمها، وليست بنتا أخرى بأي حال من الأحوال ، ووقفت تتأملها أكثر..
كانت حميدة واقفة أمام الكشك .. وفى يدها اليمنى زجاجة كازوزة على سطحها الخارجى تلك النقط المائية الشفافة.. لم تكن تشرب بسرعة مثل البنات الأخريات، ولكنها كانت تشرب ببطء شديد.. تحوط أصابعها حول الزجاجة تتحسس برودتها في تلذذ وتظل ممسكة بالزجاجة لحظة، ثم ترفعها فى بطء الى فمها، وتلامس طرف شفتيها بفم الزجاجة، وتلعقه بلسانها ملتقطة كل ما حوله من رذاذ ، ثم ترفع ذراعها الى أعلى قليلا لتميل الزجاجة على فمها ميلا خفيفا ، لايسمح الا برشفة واحدة من السائل الوردى المثلج.. وإلى هنا تطبق شفتيها باحكام شديد محتفظة بالرشفة فى فمها بعض الوقت ، لا تبتلعها دفعة واحدة، ولكنها تمتصها على مهل حتى تتلاشى فى فمها إلى آخر قطرة فيها.. مستمتعة أشد الاستمتاع، ملقية برأسها إلى الخلف بعض الشئ، وعضلات ظهرها مسترخية متكئة في راحة على جدار الكشك الخشبي..
إلى هنا لم تستطع أن تقاوم.. وكانت قد اقتربت بلا وعى شيئا فشيئاً من الكشك ووقفت تحتمى فى ظله من الشمس.
فجلست على الأرض ووضعت سبت الخضار إلى جوارها، وعيناها معلقتان تراقبان اللقاء الحار بين شفتى حميدة وفم الزجاجة، ثم الرشف وعملية المص البطيئة ، وما يعقبها من استمتاع واسترخاء . وكان التراب ساخنا يلسع ردفيها النحيلين من خلال الجلباب الدمور البالي، ولكنها لم تهتم ، كل ما يهمها أن تظل ترى .. أن تظل تتابع حركات حميدة حركة حركة بعينيها وأعضائها. فتثنى رأسها إلى الخلف كلما ثنت حميدة رأسها إلى الخلف ، وتفتح شفتيها كلما فتحت حميدة لسانها .. ولكن حلقها جاف ليس فيه قطرة لعاب واحدة ، ولسانها ناشف يروح ويجيء ويرتطم بجدران حلقها .. كالعصا الخشبية.. والجفاف يمتد من حلقها إلى زورها ويغوص حتى معدتها … جفاف غريب فظيع لم تشعر به من قبل.. كأن الماء تبخر فجأة من كل خلايا جسمها .. من عينيها ومن أنفها ومن الجلد الذى يغطى كل أجزائها .. جفاف وصل إلى عروقها وإلى الدم الذي يجرى فيها فجففه أيضا. وشعرت بآلام حرق في جوفها ، وتحسست جلدها فشعرت به سميكا جافا مجعدا كجلد السردينة المجففة.. وشعرت بطعم الملح فى فمها ، مرا كالعلقم لاذعا حارقا،وهي تحاول أن تبحث عن ريقها لتبلل شفتيها المملحتين ، ولكن طرف لسانها التهب دون أن يعثر على قطرة واحدة . كل ذلك وحميدة لا تزال أمامها تحيط شفتيها بفم الزجاجة المثلجة وتمتص خلايا جسدها الكازوزة خلية خلية ..وحميدة تحمل فى ذراعها سبت الخضار مثل سبتها، وفي قدميها شبشب مثل شبشبها وعلى جسدها جلباب رخيص مقطوع مثل جلبابها، وهى تشتغل فى البيوت مثلها.
وارتخت قليلا عضلات أصابعها المطبقة على الورقة القدرة من فئة الخمسين قرشا ، وعادت إلى ذاكرتها الأسطوانه التي كانت تحفظها .. نص كيلو لحم بخمسة وثلاثين.. كيلو كوسة بخمسة صاغ ، كيلو طماطم بسبعة صاغ ويفضل ثلاثة صاغ.. وثمن زجاجة الكاروزة ثلاثة صاغ ، غالية جدا، كانت العام الماضى بثلاثة تعريفة فقط.. لو وقع هذا الحدث العام الماضى ، لكان من الممكن أن تفكر فى شراء زجاجة .. ثلاثة تعريفة ليست قليلة ، ولكن كان يمكن أن تدبر الأمر.. فالكوسة أحيانا بخمسة ونصف والطماطم بسبعة ونصف، أما اللحم فلا يمكن أن تزيد عليه تعريفة .. لأنه بالتسعيرة، والست تعرف التسعيرة عن ظهر قلب، ولا يمكن أن يفوتها شيء.. حتى بالنسبة للخضار الذى يتغير ثمنه كل يوم، فيزيد أو ينقص تعريفة . كانت أيضا تعرف الزيادة أو النقصان يوما بيوم ، كأنها تحلم بالتسعيرة كل ليلة . وإذا فرض واستطاعت أن تغالطها في تعريفة الكوسة وتعريفة الطماطم ، فمن أين لها بالتعريفة الثالثة.. ليس من السهل أن تدعى أنها ضاعت منها ، فهذه لعبة لا تخيل على الست الناصحة ذات الصفعات القوية . كما أنها ستلجأ في كل هذا إلى الكذب، والكذب أخو السرقة كما تقول لها أمها ..” أوع يابت يا فاطمة تمدى إيدك على قرش ، السرقة يا بنتى حرام وربنا يحرقك في النار..”.
كانت تخاف من النار ، كيف يمكن أن تشتعل النار في شعرها ورأسها وجسمها، وإذا كانت لسعة عود الكبريت تؤلمها ، فما بال النار تلتهم كل جسدها ؟.. لم تكن تتصور هذه النار، لم تعرفها ، لم تشعر بها، الذي تشعر به هو تلك النار الأخرى التي تحرق جوفها.. نار الجفاف والعطش، نار لا يطفئها شئ سوى بعض رشفات من زجاجة الكازوزة.. والكشك إلى جوارها تستطيع أن تلمس جداره بكفها .. وحميدة أمامها تشرب زجاجة الكازوزة .. ولكن كيف تحصل على الثلاثة قروش .. أسهل شئ هو أن توزعها بالتساوى على اللحم والكوسة والطماطم، تزيد قرشا على كل منها .. كلام أمها لا معنى له الآن .. النار التي تهددها بها لم تعرفها ، لم تر أحدا يحترق بها أمامها .. ربما لا تكون هناك هذه النار.. وإذا كانت موجودة فهى بعيدة جدا عنها .. بعيدة بعد الموت. وهي لا تعرف متى تموت، ولا تتخيل أنها ستموت يوما.
ونهضت من جلستها تنفض التراب عن جلبابها، ووقفت تتطلع إلى حميدة.. وهى تفرغ آخر جرعة من الكازوزة فى فمها ، وتضم شفتيها حول فم الزجاجة ، لا تود أن تفارقها، وشد الرجل الزجاجة من يدها ، فتطبع عليها قبلة وداع طويلة قبل أن تنتزعها إلى الأبد من بين شفتيها .. ثم تفتح يدها اليسرى فى حرص ، وتعد ثلاثة قروش كاملة..
ارتعدت بعض الشئ ، وهى تقف أمام الكشك في المكان نفسه الذي كانت تقف فيه حميدة .. وهبت من داخل الكشك نسمة رطبة تحمل رائحة الكازوزة .. ليحدث بعد ذلك ما يحدث.. الصفعات القوية لم تعد تؤلمها فقد تعودتها، والنار التى تحرق لم تعد تخيفها لأنها بعيدة ، والدنيا بكل ما فيها من آلام ومخاوف ، لا تساوى رشفة واحدة من الكازوزة المثلجة.
من المجموعة القصصية ” وكانت هى الأضعف ” طبعة أولى 1977
طبعة ثانية 2018
————————