الفيلم الأمريكي «خَطَر»: تحويل المجرم إلى بطل محبوب
حقق فيلم «خطر» Heat الذي عرض عام 1995 شهرة غير عادية، واعتبر علامة فارقة في تاريخ السينما العالمية، لاسيما أفلام العصابات الإجرامية الحديثة. لكن هذا كان متوقعا نظرا لاجتماع أغلب عناصر جذب المشاهد إليه، فقد اجتمع فيه خمسة من ممثلي الصف الأول في عالم السينما الأمريكية وهم روبرت دي نيرو وآل باتشينو وفال كلمر وجون فويت وآشلي جد، ومجموعة من مشاهير الصف الثاني مثل توم سايزمور وداني تريخو. وظهرت في الفيلم الطفلة ناتالي بورتمان، التي أصبحت في ما بعد من أشهر ممثلات السينما الأمريكية. ولا يمكن تجاهل براعة المخرج مايكل مان الذي اصبح هذا الفيلم أشهر أعماله. والغريب في الأمر أن المشاهدين والنقاد يعدون أحد مشاهد هذا الفيلم من أشهر المشاهد في تاريخ السينما الأمريكية. لكن هل كان هذا الفيلم يستحق كل هذا التقدير؟
قصة الفيلم
يتناول الفيلم عصابة مختصة في السلب المسلح للمصارف والعربات المصفحة المستعملة في نقل الأموال والأشياء الثمينة، ويتراسها نيل مكولي (روبرت دي نيرو). وتبدا أحداث الفيلم في مدينة لوس أنجليس بهجوم متقن وجريء لعصابة على إحدى السيارات المصفحة لسرقة سندات بمبلغ مليون وستمئة ألف دولار كانت العصابة على علم بها. وتمت العملية بنجاح إلا أن عضوا جديدا فيها قام بقتل أحد الحراس، على الرغم من تعليمات رئيس العصابة بعدم القيام بأي عمل قتل. ونتيجة لذلك يقرر رئيس العصابة قتل العضو الجديد إلا أنه يفر في اللحظة الأخيرة. وتستمر الأحداث حيث تتعرض العصابة لملاحقة الشرطة بقيادة فنسنت هانا (آل باتشينو) وكذلك صاحب السندات المسروقة المرتبط بالمافيا. وتتخلل الأحداث علاقة أعضاء العصابة بزوجاتهم، باستثناء رئيسها الذي يؤمن في أن يكون المرء وحيدا دون أي ارتباط كي يسهل الفرار عند الحاجة. ومع ذلك يحسد رئيس العصابة بقية الأعضاء بسبب الاهتمام والحب اللذين تبديهما زوجاتهم نحوهم. ولذلك، فإنه ينسى مبدأ الوحدة الذي طالما التزم به، وينتهز أول فرصة لبدء علاقة غرامية مع فتاة تمنحه فرصة لإقامة علاقة عاطفية. ويلتقي رئيس العصابة بضابط الشرطة في أحد المقاهي، وعلى الرغم من تأكيد كل منهما للآخر أنه سيقتله عند الضرورة، وأنه لن يتوقف عما يفعله، فالإعجاب المتبادل يبدو واضحا. ويطلب ضابط الشرطة (آل باتشينو) من رئيس العصابة (روبرت دي نيرو) التوقف عن النشاط الإجرامي! لكن الثاني يقول إنه يفعل ما يبرع به، ولا يجيد أي شيء آخر، ولذلك فإنه لن يتوقف، أي أنه يعترف بجرمه.
تتوالى الأحداث العنيفة بشكل وحشي وتصل الإثارة إلى ذروتها عندما تقوم العصابة بالسطو على أحد البنوك الكبيرة لسرقة أكثر من اثني عشر مليون دولار، حيث تصطدم بالشرطة عند خروجها وتقع مواجهة عنيفة بالأسلحة النارية، تؤدي إلى مقتل اثنين منها ومجموعة من رجال الشرطة. وبعد ذلك يقوم رئيس العصابة بقتل صاحب السندات والعضو السابق الهارب. وأخيرا يلتقي رئيس العصابة وضابط الشرطة في مواجهة مسلحة تنتهي بمقتل رئيس العصابة.
تحليل الفيلم
اقتبس اسم الفيلم من مقولة ذكرتها الشخصية التي جسدها روبرت دي نيرو، أكثر من مرة في الفيلم. ومفادها أن على المرء عدم الارتباط بأي شيء قد يمنعه من الانسحاب عند الشعور بالخطر. وإذا كان اسم الفيلم باللغة الانكليزية يعني حرارة، فإن سياق المقولة يجعل المعنى اقرب إلى «الخطر».
ليس الفيلم عن صراع بين شرطة تسعى إلى الخير ومافيا شريرة، بل عن جانبين يكادان أن يكونا عصابتين متنافستين. وهذا أحد الجوانب التي تبين أن قصة الفيلم في الواقع لفيلم رعاة بقر. وحتى المشهد الشهير للقاء في المقهى، فانه لم يكن سوى نسخة حديثة لمشهد لقاء العصابات المتصارعة في حانة المدينة الذي يراه المشاهد في أغلب أفلام رعاة البقر. يظهر رئيس العصابة (روبرت دي نيرو) في الفيلم وكأنه مثال للمجرم النبيل، فعندما يقتل العضو الجديد حارس العربة المصفحة دون سبب يحاول رئيس العصابة قتله، فالعصابة تسرق فقط، كما أنه يقرا كتبا مخصصة للمهندسين. وأما القتل، فلا يحدث إلا في الحالات الطارئة. ويكتشف المشاهد أن عضو العصابة هذا يقتل المومسات كهواية، ولذلك فإن قتله على يد رئيس العصابة تحقيقا للعدالة الإلهية. ويمتاز هذا المجرم النبيل بصدقه وحفاظه على وعوده، فهو شريف. وعندما تهاجم العصابة المصرف يقول رئيسها للموظفين والعملاء أن عصابته لا تريد إلحاق الأذى بأحد، وأن على أصحاب الحسابات في المصرف الاطمئنان لأن الحكومة الأمريكية قد ضمنت حساباتهم، فيا له من مجرم شريف وكأن أموال البنك لا مالك لها.
أما إخلاصهم لزوجاتهم اللواتي يتصرفن كسيدات المجتمع الراقي، فمثير أكثر للدهشة. وفي نهاية الفيلم ينتحر أحد أفراد العصابة لمقتل زوجته، وعندما ينظر عضو آخر من العصابة (فال كلمر) إلى زوجته للمرة الأخيرة قبل هروبه، فإنه من الواضح أن تركه لها كان طعنة في قلبه.
ويتجاهل المخرج قيام أفراد العصابة بضرب حرس المصرف وبعض موظفيه بقسوة شديدة، فهذا على ما يبدو للأسف من مستلزمات العمل. وعندما يكتشف رئيس العصابة أن زوجة أحد أفرادها تقابل عشيقا، فإنه يؤنبها ويحثها على التوقف فورا ومنح زوجها فرصة أخيرة، فهو لا يعتدي على امرأة وقصده شريف دائما، أي أنه رجل نبيل، لكنه مجرم, وهذا مجرد تفصيل صغير. أما أفراد العصابة، فلم يبدوا كمجرمين، بل كأفراد فرقة عسكرية من قوات النخبة، إذ كان انضباطهم مثيرا للدهشة، على الرغم من ادعاء المخرج أنه أخضع ممثلي أدوار أفراد العصابة لتدريب عسكري على يد خبير بريطاني، وأنهم قابلوا سجناء كانوا قد سجنوا بتهمة السطو المسلح، لكن أفراد العصابات في الحقيقة يختلفون جذريا عن الجنود المحترفين، ولذلك كان ذلك من نقاط ضعف الفيلم.
أما إخلاصهم لزوجاتهم اللواتي يتصرفن كسيدات المجتمع الراقي، فمثير أكثر للدهشة. وفي نهاية الفيلم ينتحر أحد أفراد العصابة لمقتل زوجته، وعندما ينظر عضو آخر من العصابة (فال كلمر) إلى زوجته للمرة الأخيرة قبل هروبه، فإنه من الواضح أن تركه لها كان طعنة في قلبه. ويرى المشاهد مشهدا مماثلا عندما ينظر رئيس العصابة إلى حبيبته (آمي برنرمان) للمرة الأخيرة. ومن الواضح أن إضافة الزوجات في الفيلم كان لاضفاء الاحترام على مظهر المجرمين. إذا كان المخرج قد دبر لقاءات لممثلي أدوار أفراد العصابة مع مجرمين حقيقيين، فكان عليه تدبير لقاء بين آل باتشينو وضابط شرطة حقيقي، حيث كان استعراضه للعضلات وصراخه المستمر ورميه جهاز التلفزيون في الشارع كأنه يقول للمشاهدين «أنا آل باتشينو» وأنه كان يخشى أن يتفوق عليه روبرت دي نيرو. وبالنسبة لدي نيرو، فقد كان الممثل الرئيسي الحقيقي في الفيلم، على الرغم من مبالغته في جديته وشجاعته وتوتره، حتى أن المشهد الرومانسي الذي ظهر فيه مع حبيبته كان باردا.
كانت محاولة المخرج لجعل المشاهد يتعاطف مع المجرم عن طريق اختلاق مظهر زائف لمجرم نبيل واضحة طوال الفيلم، وحتى في نهايته عندما يصاب رئيس العصابة من قبل ضابط الشرطة، بعد مطاردة غريبة، فإنه لا يسقط على الأرض، بل على صندوق ضخم وكأنه يبقى واقفا، فقد كان ذلك تعبيرا عن كون الأبطال لا يموتون على الأرض، بل يموتون وهم واقفون. أما المصافحة الأخيرة بين الغريمين، فكانت مفرطة في الخيال. وليس هذا جديدا في عالم السينما، حيث قامت أفلام شهيرة بذلك مثل «بوتش كاسيدي وسندانس كد» Butch Cassidy and The Sundance Kid و»بوني وكلايد» Bonnie and Clyde و»الخدعة» The Sting و»غابة الإسفلت» The Asphalt Jungle وأفلام أخرى كثيرة. وكان القائمون على السينما يشجعون المشاهدين على الدخول في عالم الإجرام.
وفي الوقت نفسه نجد ضابط الشرطة عديم الاهتمام بحياة الرجال، فهو يقول لرئيس العصابة إنه إذا كان عليه الاختيار بينه، أي رئيس العصابة، وبين رجل على وشك أن تصبح زوجته أرملة، فإنه سيختار رئيس العصابة، أي أن ضابط الشرطة يهتم بالرجل بسبب زوجته، وليس لكونه إنسانا. ونجد ضابط الشرطة نفسه يحاول إرشاد رئيس العصابة إلى العضو السابق في العصابة، الذي قتل حارس العربة المصفحة، كي يقبض عليه عند قدومه لقتله، ضاربا سلامة ذلك العضو السابق عرض الحائط.
امتاز الفيلم بأحداثه المثيرة التي امتازت ببراعة الإخراج والتمثيل، لكنها امتازت كذلك بالتناقض وضعف الربط بينها أحيانا، فأحيانا تبدو الشرطة تتابع أفراد العصابة بدقة، حتى إنها تراقب اجتماعا لهم، بينما من الواضح أنها لا تعرف عنهم شيئا في أحيان أخرى. ومن المضحك في الفيلم أن رئيس العصابة يراقب أفراد الشرطة ويصورهم في اجتماع لهم. أليس هنالك بعض المبالغة في هذا؟
هل كان للفيلم علاقة بالواقع؟ على الإطلاق، فلا يتصرف افراد العصابات بهذه الدقة والإخلاص، ولا يجتمع ضباط شرطة بمجرمين خطيرين في أماكن عامة وكأنهم أصدقاء قدماء، ولا يطارد ضابط شرطة مجرما خطيرا بمفرده في الظلام، بل يكون مصحوبا بفريق مختص من الشرطة. أما المعركة المثيرة خارج البنك في نهاية الفيلم، فلا تحدث في هذا الشكل. لا يمكن إغفال الجانب النفسي الذي يجعل المشاهد يعجب بالشخصية الشريرة التي مثلها روبرت دي نيرو، فهذا الإعجاب يدل على رغبة قد تكون لا شعورية لدى المشاهد ليكون مثل تلك الشخصية، أي أن أغلب المشاهدين يريدون أن يكونوا أشخاصا مخيفين وقساة وقادرين على فرض سطوتهم على الآخرين مهما كان مستوى سوء الشخصية وحتى تجاه من يحبونهم. ولا يدل هذا على أن النفس البشرية في صحة جيدة.
خلفية الفيلم
برز المخرج مايكل مان في بداية حياته المهنية كمخرج للمسلسل الشهير «شرطة ميامي» Miami Vice. وألف قصة هذا الفيلم عام 1979، ثم أخرجها في فيلم تلفزيوني عام 1989، دون أي ممثل معروف كي يكون بداية لمسلسل تلفزيوني، واستغرق التصوير تسعة عشر يوما. لكن فشل هذا الفيلم جعل الشركة المنتجة ترفض إنتاج المسلسل. ومع ذلك كان ذلك الفيلم التلفزيوني بمثابة تدريب للمخرج لتحسين القصة وطريقة الإخراج. وفي نهاية المطاف نجح في الاتفاق مع إحدى شركات الإنتاج السينمائي واتصل بروبرت دي نيرو وآل باتشينو، اللذين وافقا فورا على الاشتراك فيه، حيث مثل هذا الفيلم أول فيلم لهما يظهران معا في أحد مشاهده. وركزت دعاية الفيلم على هذا الجانب بالذات حتى أصبح كون اشتراك هذين الممثلين في فيلم واحد ظاهرة وعاملا يضمنان النجاح الفائق. وأما مشهد الاثنين في المقهى، فقد أصبح أشهر من الفيلم نفسه، حيث يعد الآن من أعظم المشاهد في تاريخ السينما الأمريكية. وادعى الإعلام أن القصة في الحقيقة مأخوذة من الواقع، وبالتحديد من أحداث وقعت لمجرم متخصص في السلب المسلح في شيكاغو، وقتل على يد الشرطة عند سطو عصابته على محل لسرقة حوالي ثلاثة عشر ألف دولار فقط عام 1965. لكن من الضروري عدم تصديق هذا الادعاء بسهولة، فأحيانا تكون العوامل المشتركة بين الادعاء والحقيقة تافهة. وعلى سبيل المثال ادعى مؤلف مسرحية «اثنا عشر رجلا غاضبا» Twelve Angry Men الذي تحول إلى فيلم سينمائي شهير بالاسم نفسه عام 1957 أن مفهوم وتفاصيل المسرحية مستوحاة من تجربته الشخصية عندما كان عضوا في هيئة للمحلفين لإحدى المحاكمات في مدينة نيويورك في أربعينيات القرن الماضي. لكن المؤرخين بينوا أن هذا الادعاء لم يكن سوى أكذوبة استخدمت كدعاية للفيلم والمؤلف، لأنه لم يشترك في أي هيئة للمحلفين.
لم يترك المخرج هذا الفيلم وراءه، فقد أعلن مؤخرا أنه يخطط لعمل جزء ثان له يتناول فيه حياة الشخصيات قبل الفيلم الشهير. ويتساءل المعجبون الكثيرون في هذا الفيلم عمن سيمثل الأدوار التي مثلها نجومهم المفضلون في هذا الفيلم.
مؤرخ وباحث من العراق