هل انتصر أدونيس حقاً على السعودية؟.. مسلسل «الزند» والمثقف المنحاز للشتائم
تحتفل قناة لبنانية ممانعة، بلسان الصحافي وصاحب برنامج «في كل الأحوال» بيار أبي صعب، بزيارة أدونيس أخيراً للسعودية، يسميها الإعلامي اللبناني «انتصاراً لمشروع الحداثة ودعاته في الجزيرة العربية» (حتى الساعة لم تُعْتَمَد تسميته انتصاراً إلهياً)، بعد منع طويل للشاعر السوري- اللبناني من دخول السعودية «بسبب قراءته النقدية للتراث العربي»، بحسب أبي صعب.
يعرض البرنامج مقتطفات متلفزة من الزيارة، يقول فيها الشاعر: «أنا سعيد جداً، لدرجة لا أعرف كيف أصف هذه السعادة». قبل أن يستأنف أبي صعب حديثه: «بالنسبة لجمهور المبدعين والمثقفين السعوديين كانت زيارة أدونيس حدثاً مهماً؛ من حق هذا الجمهور أن يتفاعل مع أيقونة الحداثة العربية، بعد طول منع وحرمان. حلو الناس تحتفي بزيارته في إطار عام الشعر العربي 2023».
يحق لشاعر الممانعة ما لا يحق لغيره! يبقى الممانع منتصراً مهما كانت خياراته؛ إن شَتَم الخليج، أو ذهب إليه مهرولاً، إن أطلقَ طلقة على إسرائيل، أو أحجم عنها، إن أقام اتفاقاً، أو امتنع عنه.
لا يفوت أبي صعب، في خضم هذه الهمروجة، وفي قلب هذا الاحتفال الانتصاري، تمرير بعض الانتقادات التي لا تعني شيئاً ما دام التطبيل هو العنوان، وربما من قبيل زرع خطط دفاع استباقية عن النفس، عندما يقول: «اليوم، تغيرت الظروف، ظاهرياً على الأقل»، و»المشكلة أن المشروع الحداثي لا ينمو إلا في مناخ من الحرية الفكرية والسياسية.. هناك خلف واجهة الانفتاح والتحديث وتهميش السلفيين النقد ممنوع، والاختلاف أيضاً، وتغريدة يمكن أن تأخذك إلى السجن 45 سنة»، و«لا يجب أن يستعمل اسم الشاعر وتاريخه في تبييض صفحة السلطة».
طيب، ألا تستحق كل هذه الأسئلة، والأسباب، التخفيف قليلاً من بهجة الانتصار، ومن غبار دبكة بيار أبي صعب؟ ألا يجب أن يلام الشاعر على زيارته، بل وسعادته الفائقة التي لا يجد لها وصفاً، ببلاد لا يمكن التغريد فيها، بل إن التغريد فيها يودي بك وراء الشمس (ومرة أخرى بحسب أبي صعب نفسه)، إن لم نتحدث عن أشياء أخرى.
أم يحق لشاعر الممانعة ما لا يحق لغيره! مثل أن يبقى الممانع منتصراً مهما كانت خياراته؛ إن شَتَم الخليج، أو ذهب إليه مهرولاً، إن أطلقَ طلقة على إسرائيل، أو أحجم عنها، إن أقام اتفاقاً، أو امتنع عنه.
وبالمناسبة؛ بودّنا، لو اتسع المكان، أن نحصي لك، كم من الفنانات والفنانين سبقوا أدونيس إلى هذا الانتصار.
أسلوب هوليوودي وعتابا
تناولت «الجزيرة بلس» المسلسل السوري «الزند» بحلقة تحت عنوان «الوتر الحساس، أنا عاصي الزند». حلقة تكاد تكون إعلاناً أنتجتْه الشركة المنتجة للمسلسل نفسها، من فرط مهادنتها وإعجابها غير المحدود. وعلى الرغم من المتابعة الكبيرة للعمل، كان من السهل العثور على آراء متضاربة حوله، وسيكون من المثير لتساؤل المتفرجين والمتابعين، لو أن حلقة «الجزيرة بلس» عرضت نبذة عن تلك الآراء.
غير أن مذيعة الحلقة بدت مأخوذة بكل تفصيل بالعمل، من التمثيل، خصوصاً تيم حسن، إلى الموسيقا، و»العتابا التي تخلع القلب»، إلى المديح الاستثنائي لشركة الإنتاج اللبنانية المنتجة للعمل، والمنتجة أيضاً لأعمال أخرى مُمَجِّدة لثقافة التشبيح والحشيش وتهريب السلاح والخروج عن القانون. لم تتردد المذيعة في تطويب الشركة كـ «إمبراطورية الإنتاج الدرامي في أيامنا».
لم تتردد مذيعة في تطويب الشركة المنتجة لمسلسلي “الزند” و”الهيبة” كـ«إمبراطورية الإنتاج الدرامي في أيامنا»!
وفي معرض مديحها أشارت المذيعة إلى اعتماد النص على «أسلوبين بغاية الأهمية؛ اعتمدتْهما السينما الهوليوودية الضخمة؛ النص المختصر الذي يجعل لكل جملة وقعاً وقيمة وتأثيراً. والحبكة الدرامية».
وبالطبع لا يمكن اعتبار العنصرين المذكورين أسلوباً، إذ كيف لعمل درامي أن يخلو من الحبكة، أما النص (مختصراً كان أم مطولاً) فلا بدّ أن يأتي على قدر ما يحتاج الموقف. ولكن هل يمكن اعتبار نص «الزند» مختصراً حقاً؟ أين تضعين إذن كل ذلك الفائض من الشتائم المستجدة تماماً على الدراما التلفزيونية العربية، هل يمكنك تسويغها وتبرير وظيفتها الدرامية في إطار حبكتك الهوليودية المزعومة؟ جربي مثلاً أن تتخلي عنها لنرى إن كانت الحبكة ستسقط، أو «يَهُرّ» النص المختصر.
وجوه المثقّف
في مقابلة معه، دافع الفنان السوري فايز قزق، أحد الممثلين الرئيسيين في مسلسل «الزند» (وهو كذلك المخرج المسرحي ومدير مديرية المسارح والموسيقا لبعض الوقت)، عن الشتائم المقذعة الواردة على لسان تيم حسن في العمل. قال «إنكم تسمعونها يومياً في شوارعنا، ثم لماذا لا تحتجون على شتائم الأفلام الأمريكية!».
مضى قزق في تبرير الشتائم بوحشية ذلك الوقت، والفقر والقتال الدموي، والمواجهة بين ابن القتيل وابن القاتل.
لكن هل تخلو دراما من مواجهات مماثلة؟ المسلسلات كما الأفلام السينمائية والمسرحيات غالباً ما تدور حول صراعات في حدها الأقصى، بين ظالم ومظلوم، قاتل وقتيل، ديكتاتور وأبرياء، تاجر رقيق ومكافحين من أجل الحرية، فما رأيك أن نملأ كل هذه الدرامات، بما يكافئها من شتائم؟
ثم إنك قد تحتمل كلمة على مدار عمل كامل، أما أن تغدو الشتيمة لازمة في حوار البطل، كما لو أنها أغنية أو زجل، فلا نجد اسماً لذلك حقاً سوى الاستخفاف، والإحساس بأن الناس سيتقبّلون من بطلهم كل ما يقول، مهما بلغ من الانحطاط.
ما أسوأ مثقف المصلحة، الذي بإمكانه أن يدوّر الحجج والذرائع على هواه، كما تقتضي مصلحته ولقمة عيشه.
مع العلم أن المرء لا يجد في الشتيمة، إن كانت في مكانها، شأنا كبيراً يستحق الاحتجاج، لكن لا بد من ملاحظة الفارق بين شروط السينما وشروط التلفزيون، ما دام قزق يتحدث عن الأفلام الأمريكية، حيث هناك إمكانية أن تصنف السينما لفئات عمرية مختلفة، ما يصعب في شروط الدراما التلفزيونية العربية، التي تكون في متناول الجميع، خصوصاً أنها غالباً ما تكون مهيأة للعرض في شهر رمضان.
أمر آخر؛ يا لطيف ما أسوأ مثقف المصلحة، الذي بإمكانه أن يدوّر الحجج والذرائع على هواه، كما تقتضي مصلحته ولقمة عيشه.
فايز قزق، في وضع لا يمكنه معه إلا أن يدافع عن مسلسل هو أحد أبطاله الرئيسيين، وهو فرصة استثنائية لممثل مثله في مواجهة نجم بارز مثل تيم حسن. على الرغم من أن قزق بمثابة أستاذ لتيم (في المعهد العالي للفنون المسرحية)، ويفترض أن تكون العلاقة مقلوبة.
بئس المثقف «المصلحجي»، وبئس «الأستاذ»، عندما يكون متملّقاً «تلميذه».