واقعة خلف الطواحين.. وثمة ذاكرة (1)
شهادة وليست رواية شيء عن بشتاشان
عبد الحسين شعبان
بشتاشان أو كما تُكتب باللغة الكردية بشتئاشان، ومعناها باللغة العربية “خلف الطواحين”، قرية من قرى كردستان العراق، حبتها الطبيعة بكلّ ما هو جميل من مناظر خلّابة ونُهير ذو مياه عذبة يخترقها منسابًا من جبل قنديل متّجهًا نحو وادي شاروشين، إضافة إلى عيون ماء “حلوة” عديدة. والقرية عبارة عن غابة كثيفة مكتظّة بالأشجار، ولاسيّما أشجار الجوز والفواكه المتنوّعة، خصوصًا العنب. وكانت تقوم حياة القرية والناس فيها على تربية المواشي والنحل وزراعة التبغ وبيع منتجاتها الزراعية إلى المدن والمناطق الأخرى.
سلسلة جبلية
تنقسم بشتاشان إلى قسمين: بشتاشان العليا وبشتاشان السفلى، وتتصل جغرافيًا بعدد من القرى المتقاربة من بعضها مثل أشقولكا وليوْجة وقرناقو ورزكة وكاسكان وسط سلسلة عالية من الجبال الشديدة الوعورة والدروب والمسالك المتعرّجة ذات الانحدار الحاد، كما أن الوصول إليها عسيرًا، خصوصًا في فصل الشتاء لقسوة المناخ، حيث تصل درجة الحرارة إلى 20 درجة تحت الصفر، فتنقطع سُبل الحياة فيها وتعيش حالة عزلة شبه كاملة، الأمر الذي يتطلّب خزن المواد الغذائية لنحو ثلاثة أشهر أو ما يزيد عن ذلك، لاسيّما أشهر (كانون الأول / ديسمبر وكانون الثاني / يناير وشباط / فبراير).
وتستمر الثلوج بالهطول على نحو كثيف حتى شهر (آذار / مارس)، كما يزداد سقوط المطر طيلة فصل الربيع الذي يمتاز بالبرودة أيضًا. أمّا في فصل الخريف فإن المطر حين يهطل يستمرّ لعدة أيام دون انقطاع، والمناخ يزداد برودة كلّما اقتربنا من فصل الشتاء، وخصوصًا في شهر تشرين الثاني / نوفمبر، في حين يكون المناخ معتدلًا والهواء عليلًا في الصيف. ويقيس الفلاحون قساوة فصل الشتاء بمراقبة ردود فعل الحيوانات وحركتها تحسّبًا للبرودة فيزداد انكماشها، وهذا يعني أن البرد سيكون قارصًا، وكذلك وخلايا النحل فيما إذا بدت مبكّرة في فصل الخريف.
تعتبر قرية بشتاشان مثل قرى جبل قنديل الأخرى معزولة، ولا تصل إليها سيارات، وسكاّنها ينتقلون إمّا مشيًا على الأقدام أو يركبون الحيوانات، ولاسيّما البغال. والبغل مهم في حركة الأنصار، لدرجة عُدّ من الرفاق “الجهاديين” حسبما كنّا نتندّر فيما بيننا، لكنه أحيانًا يحرن ويتمرّد وحتى ينتحر، وهكذا يخرق قواعد النظام الداخلي والطاعة الحزبية، لذلك لا بدّ من العناية به.
كان كلّ شيء في تلك القرية الجميلة الوديعة يسير هادئًا وبطيئًا، فقد ظلت مستلقية وراقدة منذ قديم الزمان على سفح جبل قنديل الذي يبلغ ارتفاعه 7800 قدم وتكسوه الثلوج طيلة أيام السنة تقريبًا باستثناء شهريْ تموز / يوليو وآب / أغسطس، لكن الأمور تغيّر وانقلبت رأسًا على عقب، فقد تم تهجير سكّانها البالغ عددهم 70 عائلة إلى معسكر (جوارقورنة) القسري في العام 1975? وجرى تجريف منازلهم وأكواخهم ومزارعهم، التي ظلّت مهجورةً على الرغم من انتقال الأنصار الشيوعيين إليها في العام 1982? ثم بدأ بعض سكّانها بالعودة إليها في الثمانينيات والتسعينيات.
لم يكن أحد يتصوّر أن تلك المنطقة النائية المعزولة المنقطعة عن مراكز الحضارة والمدنية ستستقبل مئات من المثقّفين كتّابًا وصحافيين وشعراءً ومسرحيين وفنانين وأطباء ومهندسين ومعلّمين وحقوقيين وأساتذة جامعة وطلابًا وعمالًا وفلاحين وعددًا كبيرًا من السياسيين الذين أجبرتهم الظروف للعيش في تلك الأرض المنسية من العالم.
أقام الوافدون حياةً جديدة في تلك القرية وبعثوا حركة دائبة فيها، حتى بدت تلك البقعة من الأرض وكأنها ورشة عمل دائمة لا تهدأ ولا تنام، حيث نُصبت فيها إذاعة ونُقلت إليها أجهزة طباعة وأنشئت فيها طبابة وانتظمت فيها ندوات وأماسي واحتفالات وافتُتحت فيها معارض فنية وعُرضت فيها مسرحيات، ناهيك عن تنظيم حراسات، مثلما كان يجول فيها مسلّحون بينهم الكثير من العرب الذين لم يسبق لهم حتى زيارة كردستان، فضلًا عن أنهم لا يتكلّمون لغتها ولا يعرفون تقاليدها وعاداتها الاجتماعية، وبسرعة كبيرة أصبح بعضهم يتحدّث باللغة الكردية (اللهجة السورانية أو البهدنانية) حسب منطقة وجوده، بل صار دليلًا في تلك الطرقات الوعرة والجبال العالية.
وكان الكرونجية (الباعة المتجولون)، سواء الذين يأتون من الداخل العراقي الكردستاني أم عبر الحدود الإيرانية أحد مصادر المعلومات التي يستقي منها الأنصار ما يجري حولهم، وكان هؤلاء غالبًا ما ينقلون أخبارًا مبالغ فيها أو أن جزءًا منها يقع ضمن تقديرهم ووعيهم، وهذا في الكثير من الأحيان بعيدًا عن الدقّة إن لم يكن مفبركًا أو مغرضًا بحكم هواهم ومصالحهم، ناهيك عمّا يسمعونه من الأطراف المختلفة التي تريد منهم نقل رسائل محدّدة إلى الأنصار.
حياة قاسية
كان الكرونجية غالبًا ما يبدون إعجابهم واستغرابهم في الآن بقدرة الشيوعيين على تحمّل الصعاب ومشاق الحياة القاسية، إذْ لم يحدث أن عاش غرباء في تلك المنطقة، فما بالك حين يكون هؤلاء من مناطق العراق العربي. فليس من السهولة بمكان التأقلم مع الظروف الطبيعية القاسية وطريقة العيش البدائية، وانعدام الحد الأدنى من مستلزمات الحياة البسيطة. وكانوا يرددون من باب الانبهار أنه لا أحد يستطيع العيش في هذه المنطقة سوى الخنازير والشيوعيين.
ومثل هذا الكلام سمعته في قرية قاسم رش في الوادي المنحدر من ناوزنك – نوكان، ومن صاحب دكان اسمه كاك أحمد ويُدعى أحمد كلاشنكوف أو أحمد طلقة، وكان يقول أنه نائب ضابط سابق في الجيش العراقي حين خاطبني قائلًا: أنتم الضباط، ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ لم أجبه، فأردف مضيفًا، أنا أعرفك، كنتَ نقيبًا في الجيش، فأجابه رفيقي سامي عبد الرزاق الجبوري (أبو طه) الكاك ليس ضابطًا، فوجّه خطابه إليه قائلًا: وأنت كذلك كنت نقيبًا؟ وأنا أعرف الضباط من هندامهم وقيافتهم. ويُذكر أن قرية قاسم رش كانت سوقًا مفتوحة، فيها يتم تبادل العملات وبيع الممنوعات، كما كانت مرتعًا لأجهزة المخابرات الإقليمية والدولية المختلفة.
في أيار / مايو العام 1983 دخل اسم بشتاشان القاموس السياسي، وأصبح معروفًا على نطاق واسع كرديًا وعربيًا وعالميًا بفعل ما نقلته وكالات الأنباء والصُحف عمّا حصل فيها، مثلما أصبح لها رمزية خاصة وإن ارتبطت بمأساة إنسانية. وأستطيع القول أنها احتلّت مكانًا خاصًا في ذاكرة جيل من الحركة اليسارية والكردية في العراق، وذلك حين هاجمت قوات “الاتحاد الوطني الكردستاني” الذي يرأسه جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق لاحقًا، ونائبه ناوشيروان مصطفى أمين مقرّات الحزب الشيوعي العراقي في بشتاشان وارتكبت مجزرة راح ضحيتها نحو 70 شهيدًا شيوعيًا ، بعضهم لا تُعرف قبورهم حتى الآن، وبعض الناجين غادروا الحياة دون أن يسمعوا اعتذارًا أو اعترافًا أو تعويضًا لما حصل، وظلّت الحقيقة تحاصر من تورّط بالفعل الشنيع، فضلًا عن أسئلة التاريخ الحارقة.