مدينة خلف الطواحين .. وثمة ذاكرة 5
شهادة وليست رواية .. شؤون وشجون
عبد الحسين شعبان
الحقيقة نادرًا ما تكون خالصة، وهي ليست بسيطة قطعًا
أوسكار وايلد
أدرك أن الحديث عن بشتاشان هو حديث ذو شجون وحسّاس ومحرج في الآن، فالارتكابات لا يمكن تبريرها أو تنزيه فاعليها من فعل جرمي، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بقتل الأسرى أو التمثيل بهم، وذلك بالنسبة للضحايا وذويهم، ناهيك عن مستلزمات تحقيق العدالة.
معالجة الاثار
ومبعث الحديث عن الشؤون والشجون قد يكون بحُسن نيّة ورغبة في رأب الصدع، لكن ذلك يتطلّب اعتذارًا صريحًا وواضحًا أولًّا، ومن ثمة معالجة الآثار المترتّبة عليه ثانيًا، كما كرّرت أكثر من مرّة انطلاقًا من روح التسامح وبعيدًا عن الثأر والانتقام وهو ما يمهّد لطي صفحة الماضي المأساوية التي وإن بقت ستجدها على صفحات كتب التاريخ وفي الأبحاث والدراسات.
يضاف إلى ذلك فإن دراسة التجربة ومراجعة تفاصيلها تقودنا إلى التوقّف عند الأخطاء، وقُصر النظر فيما يتعلّق بالانجرار للمعارك وضعف اليقظة وتقديم ما هو ثانوي وطارئ على حساب ما هو جوهري واستراتيجي، وما هو ذاتي على حساب ما هو موضوعي، وقد وقعت جميع الاطراف السياسية بمثل تلك التقديرات الخاطئة، ودفع الجميع أثمانًا باهظة بسبب الاحترابات والنزاعات غير العقلانية، ولو قلّبت اليوم في ثنايا الذاكرة وتوغّلت في أعماق المشاعر، ستكتشف أسفًا حقيقيًا وندمًا شديدًا ونقدًا مخلصًا لما حصل في بشتاشان، حتى وإن اختلفت أسبابه بين الفرقاء، أو تمسّك بعضهم بمواقفه السابقة أو حاول تبريرها بمكابرة وتعنّت.
ومن موقعي الشخصي ومناقشاتي مع العديد من الناجين، فضلًا عن بعض ما كُتب من مذكرات ومقالات، وما قيل من آراء ووجهات نظر بالرغم من اختلاف التوجّهات، يمكنني تقديم قراءة نقدية ارتجاعية للحدث أيضًا من خارج دائرة الصراع الداخلي الذي كنت طرفًا فيه في وقت من الأوقات، ولكن ما أقوم به اليوم لا يندرج ضمن الاصطفافات التقليدية المعروفة، خصوصًا بانقضاء سنوات طويلة وأنا خارج دائرة العمل الحزبي والسياسي اليومي الروتيني والمسلكي، إذْ لم يعد ذلك من اهتماماتي أو انشغالاتي على الرغم من اعتزازي بتاريخي.
وجهات نظر
وبقدر ما اختزنت من أفكار وآراء ووجهات نظر حاولت فيها أن أميّز نفسي من الانحيازات الضيّقة والمسبقة والانتماءات الأيديولوجية الصارمة، إلّا أن ذلك لا يعني عدم إبداء الرأي فيها، لكن الأمر سيكون مختلفًا حين أقاربها من زاوية فكرية، انطلاقًا من صفة الباحث عن الحقيقة، ناهيك عن أنها شهادة للتاريخ وجدتُ من مسؤوليتي ككاتب أن أُدلي بدُلوي فيها قبل أن يحصل المحذور.
وذاكرتي البشتاشانية هي خليط من سرديات “زمكانية” (زمانية – مكانية)، فيها امتزج الألم والأسى بالشجاعة والواجب، مثلما اندغم الحب والرومانسية بالأمل والحلم، وفيها أسئلة كبيرة ورؤية جديدة وإعادة قراءة الواقع. مثلما فيها تحدّ وإصرار، ففيها مراجعة للنفس ومحاكمة للمسلّمات والبديهيات، “النحن” والهم” والأنا” والآخر”، فضلًا عن نظرة أكثر عمقًا للوطن والمواطنة والحق والعدل والنصر والهزيمة والثقافة والوطنية، وذلك ضمن دوائر متداخلة تجتمع فيه العراقية بالعروبة، والعروبة بإقرار حقوق الهويّات الفرعية، والدين بالقيم، والشيوعية بالتطبيق، والغاية بالوسيلة، وذلك في إطار إعادة النظر بالعناوين الكبيرة، لأدخل إليها من زوايا صغيرة، لكنها مرشدة وهادية لأنها تُفصح عن الجوهر.