عالمية نازك الملائكة
نتساءل أحيانا عن العالمية في المجال الأدبي وما الذي يجعل الأديب عالمياً؛ أهي اشتراطات نابعة من الأدب نفسه من ناحية بنائه وتكوينه ومواصفات ما ينبغي أن يكون عليه أم هي مقاييس متواضع عليها في الأدب الموصوف بأنه عالمي، مثل مقياس انتشار الأديب في أصقاع كثيرة من العالم ومقياس الحصول على الجوائز العالمية؟
قد يصح واحد من هذين الافتراضين، وقد يكون الاثنان صائبين، وقد لا يصح أي منهما لأن الأدب غير ثابت المقاييس، وليست له موازين محددة الصياغة؛ بل هو موار لا يستقر على حال كما أن الأديب قد ينتشر اسمه إعلاميا ودعائيا ولغايات منها سياسية ومنها غير أدبية حسب أجندات ودوائر مشبوهة أو غير مشبوهة تقف وراء شهرته. ولا يمكن أيضا أن نرتكن إلى الجوائز باستثناء جائزة نوبل لأنها لا تقصر نفسها على لغة أو جغرافية أو حقول معرفية بعينها بل تشمل العلمية والإنسانية معا، وهي تمنح تقييماتها بحسب وزن الاسم ومنجزه ومكانته ومن ثم هي ليست كالجوائز الأخرى عبارة عن مسابقات تقدم لها أعمال منجزة في عام يتم ترشيحها من قبل دور نشر أو أشخاص. وعلى الرغم من كل ما في جائزة نوبل من صرامة في المقاييس، فإن عوامل خارجية لا علاقة لها بالإبداع الأدبي يمكن أن تتدخل فتؤثر في منح الجائزة لأديب لا عالمية لأدبه أو تحجب نفسها عن أدباء عالميين حقيقيين بعطائهم المتفرد حتى لا يمكن لأحد أن ينكر تأثيرهم في الأدب العالمي كتولستوي وبريخت وجويس وغوركي، وكل واحد من هؤلاء اجترح في الأدب منجزا جديدا.
وإذا كان الأمر كذلك، فإننا سنعود نتساءل مجددا: ما العالمية؟ ونستطيع القول إن العالمية منحة تأتي طائعة من تلقاء نفسها إلى أديب أنجز ما أنجز وقدم ما قدم فكان متفرد العطاء مستحقا للعالمية وأهلا لها. والعالمية أيضا تعني الإضافة الجديدة إلى عالم الأدب وبها يفرض المبدع نفسه فينتشر اسمه من دون افتعال أو ترشيح. فالعالمية تعرف الطريق إلى أصحابها ولا تحتاج وسائط توصلها بهم أو دلائل تهديها إليهم. فهم يدلون على أنفسهم بأدبهم، وأدبهم يشير إليهم. وما كان نجيب محفوظ عالميا بجائزة نوبل، بل هو قبلها كان عالميا، بما حمله أدبه من قيمة فنية قدمت للإنسانية جمالا لم تقف بوجه انتشاره أية حواجز أو قيود لغوية أو مادية.
وليست العالمية حكرا على أدباء أمة بعينها كما أنها لا تنحصر في جغرافية غربية أو شرقية، ولا تعترف بتقدم صناعي أو تأخر اجتماعي، ولقد نال كثير من أدباء أمريكا اللاتينية لقب العالمية بما قدموه للأدب من إضافات أصيلة جعلتهم يحرزون العالمية وهم داخل بلدانهم.
وبهذا المعنى تكون نازك الملائكة شاعرة عالمية بما اجترحته وابتدعته في شعرها ونقدها داخل مجتمع أقل ما يقال فيه أنه محافظ ومتطامن مع القديم المتجذر والمترسخ في النفوس والعقول.
وحسنا فعلت منظمة «الألكسو» للتربية والثقافة والعلوم العربية بإعلانها اسم نازك الملائكة رمزا للثقافة العربية لعام 2023 وكان حريا بالمنظمة أن تصفها بالعالمية. فالرمزية التي تركتها نازك في الأجيال الشعرية انما هي توكيد لعالميتها كشاعرة مجددة وناقدة مبدعة خرقت عمود الشعر وشقَّت فيه هي وصحبها الثائرون طريقا جديدا ضد التقاليد الجاثمة على الشعر العربي قرونا وقرونا. هذا الطريق الذي ما كان يسيرا الاستمرار فيه من دون تضحيات، فصمدت وكتبت ودافعت وردت وناظرت وعارضت إلى أن تأكد نجاحها الذي حاول كثيرون تجريدها منه والالتفاف عليه. ووعي نازك الشعري لم يكن اعتياديا، فلقد جمعت المعاصرة بالتراث وانفتحت بعقلها على شتى الثقافات واستلهمت منها ما يطور تراث الشعر العربي ويقوي دعائم لغته.
وقد يكون في تزامن إعلان الألكسو هذا مع عيد المرأة ما يشي بأنه كان من باب دعم المرأة العربية ذراً للرماد في عيون من يقول إن المنظمات الثقافية ذكورية السلطة. هذا إن لم تكن هذه المنظمة قد أرادت بإعلانها تأكيد فاعليتها لمن يقول إن منظمات الجامعة العربية جامدة لا تحرك ساكناً إزاء ما يجري من تراجع في مستويات التربية وتدن في أساسات التعليم العام والعالي.
عموما نقول إن نازك الملائكة نار على علم ولن تضيف تسمية هذا العام باسمها شيئاً إليها، فشهرتها طبقت الآفاق، وقيمة منجزاتها لا تنسى. وعلى الرغم من أنه قد مر عليها ثلاثة أرباع القرن، فإنها حاضرة في كل أوان.
وإذا كان لنا أن نحتفي بنازك فجدير أن يكون عيانياً كإنشاء مكتبة باسم نازك الملائكة في كل عاصمة من العواصم العربية أو إقامة نصب تذكاري يشمخ في بوابات المطارات العربية أو أن نطلق باسمها جائزة عربية على غرار جوائز البوكر وغونكور إلى غير ذلك من المشاريع التي بها تُعرف صورة نازك الملائكة كرمز مادي ومعنوي لا ينقضي بانقضاء العام، والأهم من هذا وذاك نقل إبداعها الى اللغات الأخرى.
للأسف مثل هذه المشاريع تظل تطلعات وأماني عذابا، لاحتياجها إلى ما لا يسعى إلى تحمله الواقع الحالي. ومن ثم يكون أضعف الإيمان كما ارتأت المنظمة هو تسمية العام باسم نازك الملائكة.
وإذ نشكر المنظمة على التفاتتها؛ فضعف الإيمان خير من انعدامه لكن المأمول أكثر. ومن ذلك أن تعمل على تأكيد عالمية أدبائنا المبدعين وأن تكون مسألة العالمية على جدول لوائح عملها مستقبلاً، فلعلنا نتخلص من الشعور بالخضوع والتبعية ونكون على قدر المسؤولية في التأشير على إبداع أهلنا. فأمتنا لم تعدم مبدعين عالميين في أي مرحلة من مراحل تاريخها الطويل والعصيب.
ومثل نازك الملائكة في العالمية عشرات الأدباء العرب ممن كان التجريب والتطوير والتغيير شغلهم الشاغل ومبدد راحتهم ومالئ حياتهم حتى بلغوا بالأدب جديداً. ومن الجدير بنا أن نكون شجعاناً ونقر بالعالمية لشعرائنا وقصاصينا وروائيينا أصحاب الإضافات الأصيلة. بيد أن الإشكال هو كيف نعترف بهذه العالمية ونحن نفسياً غير مهيئين ولا قادرين على التخلص من عقدة الدونية، بعكس بلدان أمريكا اللاتينية التي تخلصت من هذه العقدة فكان نقادها ومفكروها يتحدثون عن أدبائهم بوصفهم عالميين مع أن بعضاً منهم لم تطأ قدمه أوروبا ولا عرف اللغة الإنكليزية ولا نال جائزة غربية أو خرج بأدبه عن المحلية. والمحلية لا تتعارض مع العالمية، بل المحلية هي التي تفرض عالميتها، وأدب محفوظ صار عالمياً بأجوائه الشعبية القاهرية الخالصة.
والمفروض أن الأمر نفسه يطبق على الأدباء العرب غير أن واقع الحال ليس كذلك، فالتبعية مقيتة ومستحكمة جداً ومن ثم لا نمجِّد إلا ما يمجِّده الغرب. وإذا كنا نحن لا نقر لأنفسنا بما هو فينا فكيف ننتظر من الغربي أن يبادر إلى الاقرار، كي نردده من بعده منتشين؟
واعتقد أن الأوان لم يفت كي نستدرك ما فات، ولعل مبادرة منظمة الألكسو إزاء الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة إشارة تبشر بخير على طريق نرجو ألا يكون طويلاً، فنشهد مؤسساتنا وهي تقر بالفضل لمن هم أهلٌ للعالمية دونما انتظار قرارات جائزة أو مرسوم مؤسسة. وكيف يشرعن الغربي العالمية لغيره وهو يحصرها في بني جلدته أو جلدة من له مصالح معه، بل هو إلى اليوم ما اعترف لأسلافنا الذين كان في عالمية عطاءاتهم الأدبية والفكرية والعلمية أثر مهم في نهضة ما نسميه اليوم «العالم الغربي»!
إن العالمية سمة إنسانية ليست مخصوصة بأمة، بل هي لكل الأمم وبحسب ما عندها من طاقات وعطاءات إبداعية. فهل نظل نذكر نجيب محفوظ كمثال على العالمية كونه الوحيد الذي نالها بمرسوم غربي؟ سؤال نطرحه وتظل الإجابة مرجأة مع أسئلة أخرى قد يطول المقام بنا ونحن نعرضها كلها.
*كاتبة من العراق