الخطاط والديكتاتور ونزوة «مصحف الدم»
بوفاة أشهر خطاطي العالم الإسلامي عباس البغدادي (1951-2023) مطلع شهر آيار/مايو الجاري، أعيد فتح أحد الملفات المسكوت عنها، التي لفها الغموض مدة من الزمن. إنها قضية «مصحف الدم»، الحدث الذي وقع في عام 1998 عندما أمر الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين أشهر خطاطي العالم الإسلامي أن يكتب نسخة كاملة من القرآن الكريم بدمه.
قيل في سبب هذه النزوة الشاذة والغريبة عدة روايات، أشهرها ما صرح به الخطاط عباس شاكر جودي البغدادي نفسه في لقاء صحافي، إذ قال: «لقد استدعاني صدام حسين إلى مستشفى ابن سينا في بغداد حيث كان يزور ابنه عدي الذي تعرض لمحاولة اغتيال قبل أيام، وطلب مني أن أخط القرآن بدمه، كان الأمر عبارة عن نذر بالنسبة إليه». لكن ما صرح به صدام نفسه في خطابه في احتفال تسلم المصحف في أيلول/سبتمبر سنة 2000، كان مختلفا إذ قال: «كانت حياتي مليئة بالمخاطر التي كان من المفترض أن أفقد فيها الكثير من الدماء.. لكن بما أنني نزفت قليلاً فقط، طلبت من شخص ما أن يكتب كلمات الله بدمي امتناناً»، كما أشار الشيخ عبد الرزاق السعدي في لقاء تلفزيوني، وهو أحد فقهاء اللجنة التي تم تشكيلها للإشراف ومراجعة وتدقيق نسخة «مصحف الدم»، إذ قال، «صدام حسين كتب بخط يده في نهاية المصحف أنه تعرض لمحاولات اغتيال عديدة، وأن الله عصم دمه، فوجد أن أغلى ما يملك، دمه، يقدمه خدمة لكتاب الله المجيد».
قصة كتابة المصحف بدم الديكتاتور مثيرة بتفاصيلها التي رواها بطلها الخطاط البغدادي، الذي ذكر؛ أن «المهمة لم تكن سهلة. لقد تم إعطائي أول قارورة من دم الرئيس وبدأت العمل مباشرة، وقدمت بعد أسبوع نموذج صفحة لكي توافق عليها لجنة شكلت خصيصا لذلك»، ثم يضيف «لم يكن الامر سهلا.. الدم كان كثيفا جدا ولم أتمكن من العمل به. وقد نصحني صديق يعمل في مختبر بخلطه بقطرات من مركب زودني به ويشبه الغلوكوز، وقد نجح ذلك». ويضيف البغدادي «في كل مرة كان ينتهي مخزوني من دم صدام، كنت أطلب المزيد، وكان حراس يقومون آنذاك بجلب كيس دم عليه ملصق مستشفى ابن سينا، مستشفى عائلة الرئيس». لكن الشيخ السعدي، وكما أسلفنا هو أحد اعضاء اللجنة البارزين الذين واكبوا العمل في المصحف منذ بدايته قال إنه توجه بالسؤال عن إمكانية الكتابة بدم الرئيس، للدكتور مثنى شنشل أستاذ الكيمياء وعميد كلية العلوم، التي تمت معالجة دم الرئيس في مختبراتها، عبر إضافة بعض المواد الكيماوية، ليصبح سائلا أقرب للحبر في مواصفاته ويمكن الكتابة به. ويضيف البغدادي شارحا معاناته في هذه المهمة الغريبة والشاذة بقوله؛ إنه كان في بعض الأحيان ينتظر عدة أيام، أو حتى أسابيع لأن «صدام حسين كان مشغولا، ولأنه كانت هناك تهديدات أمريكية»، ويستكمل «لقد فقدت نظري تقريبا في كتابة هذا المصحف، لأنهم كانوا على عجلة، ما اضطرني للعمل ليل نهار طوال سنتين لإكماله». ومن أسطوريات هذه القصة تصريح نسب للبغدادي نفسه، قال فيه، إن العمل في إنجاز «مصحف الدم» استلزم حوالي 27 لترا من دم صدام ليكتب به 604 صفحات تحوي سبعا وسبعين ألفاً وأربعمئة وسبع وثلاثين كلمة (77437). كمية الدم التي قيل إن صدام قدمها للخطاط أثارت الكثير من الاستغراب والتعجب في الأوساط العلمية، كونها مبالغة خيالية، فمن المعلوم أن جسم الإنسان يحوي تقريبا ستة لترات من الدم فقط، وقد أشار سيلسو بيانكو نائب الرئيس التنفيذي لمراكز الدم الأمريكية، تعليقا على صعوبة تصديق الادعاء بأن صدام تبرع بـ 27 لتراً من الدم في مدة عامين فقط؛ إذ قال: «مقدار التبرع المسموح به للمتبرع بالدم في العالم هو 3 لترات في السنة كأقصى حد آمن مسموح به، لذلك كان يجب أن يستغرق صدام تسع سنوات للتبرع بكل هذا الدم، وليس عامين». كما طرحت عدة اسئلة حول موقف رجال الدين في العراق من هذه الهرطقة، وردود فعل العالم الإسلامي على الأمر. إذ كان رد فعل المراكز الفقهية والعلمية في العالم الإسلامي عنيفا ورافضا بشكل قطعي لهذا السلوك الشائن، فقد صرح اثنان من علماء الأزهر في القاهرة، بأن خط القرآن بالدم حرام ، فقد قال محمد عبد المنعم البري أستاذ العقيدة في جامعة الأزهر، ويحيى إسماعيل حلبوش رئيس جبهة علماء الأزهر أستاذ العقيدة في جامعة الأزهر: «لا تجوز كتابة القرآن بالدم لأن الدم نجس، والله قال في كتابه العزيز عن القرآن لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) وبالتالي فإن القرآن لا تجوز كتابته بالدم». كما علق المفكر الإسلامي الدكتور مصطفى الشكعة على الأمر قائلا: «القرآن الكريم كتاب طاهر ولا يجوز أن يكتب بالدم لأن الدم نجس»، مشيرا إلى أن «هذا العمل يتنافى مع قدسية كتاب الله وطهارته». وقد صرح مستشار الرئيس الإماراتي للشؤون القضائية والدينية الشيخ علي الهاشمي بالقول: «كتابة القرآن الكريم بالدم من علامات الساعة، فالدم نجس والقرآن الكريم لا يكتب بالدم»، وأضاف» أن بعض الناس يعمل في دين الله ما ليس من الدين بشيء»، وأضاف أن «من علامات الساعة أن العلماء الذين يفتون بالحق يموتون، فيأتي أناس من بعدهم يسكتون عن الحق وعن ردع أهل الباطل فتكون النتيجة أن يرتكب بعض الناس ما لا يجوز ولا يجدون من يبصرهم بدين الله الحق». وهذا ما كان بالضبط موقف بعض علماء العراق من المشايخ الذين تشكلت منهم لجنة «مصحف الدم»، فقد برروا الأمر بأنهم لم يكونوا يعلمون في بادئ الامر أن المصحف يكتب بالدم، لكنهم بعد أن علموا، ذهبوا يبحثون في الهوامل من الفتاوى الشاذة والمتروكة، وتوصلوا إلى فتوى مفادها: «أن النجاسة إذا تحولت طهرت»، وبما أن الدم كان يخلط بمواد كيماوية لتسييله وجعله قابلا للاستعمال في الكتابة، إذن فقد تغير كيماويا وأصبح طاهرا، وهي تخريجة واضحة التهافت قدمها وعاظ السلطان، وهذا دورهم في تحليل ما حرم الله، للطاغية.
صدام حسين كتب بخط يده في نهاية المصحف أنه تعرض لمحاولات اغتيال عديدة، وأن الله عصم دمه، فوجد أن أغلى ما يملك، دمه، يقدمه خدمة لكتاب الله المجيد
وتبقى الأسئلة تدور حول مستقبل «مصحف الدم» بعد إتمام العمل، أين وضع؟ وأين هو الآن؟ وهل تم إتلافه، أم اختفى ولا أحد يعلم أين حل به الدهر؟ في البدء تم عرض جميع الصفحات البالغ عددها 640 صفحة مؤطرة بإطارات من ألواح البيرسبيكس الشفافة المذهبة الحواف في قاعة خاصة على جزيرة في بحيرة من صنع الإنسان في مسجد أم المعارك. كانت أبوابها المعدنية المنيعة مغلقة بشكل مزدوج وكانت زيارة ومشاهدة قاعة «مصحف الدم» غير مسموحة إلا لقلة مختارة وعن طريق التعيين وفق موافقات رئاسية خاصة. بعد الإطاحة بنظام صدام في نيسان/أبريل 2003 وضع حراس جامع أم المعارك، «مصحف الدم» في مخزن حصين لحفظه، إذ قال رئيس الوقف السني الأسبق الشيخ أحمد السامرائي: إنه «عمل على حماية مصحف صدام أثناء فترة الفوضى التي شهدت أعمال سلب ونهب عمت أجزاء واسعة من البلاد في الأسابيع التي تلت سقوط بغداد، وإنه خبّأ تلك النسخة في بيته وبيوت أقاربه». ومن المفارقات أن العديد من المخطوطات الأدبية والروحية الثمينة، والكثير من أرشيفات التاريخ المضطرب للعراق، التي يعود بعضها إلى 7000 عام تم تدميرها عندما تم نهب وإحراق المكتبة الوطنية والمتحف العراقي، لكن «مصحف الدم» حظي بعناية خاصة وتم إخفاؤه في مخازن حصينة، ولا أحد يعلم هل ما يزال هذا المصحف يقبع في أحد مخازن الوقف السني ، أم تم اتلافه.
كاتب عراقي