الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي (الحلقة الثالثة
نبيل الربيعي
من خلال الحلقة الثالثة من مقالنا (الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي) نستطيع أن نعود لواحدة من تلك المهازل لتاريخ العلاقة بين العراق والاتحاد السوفيتي وبالذات على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث طُلب من الحزب الشيوعي العراقي أن يأخذ موقف المساندة الدائم للزعيم قاسم والامتناع عن إثارة الخلافات معهُ، لا بل ضرورة الاصطفاف معه وتأييده في مجمل سياسته، وقد وقفت القيادة السوفيتية موقفاً قامعاً لجميع الأصوات داخل الحزب الشيوعي العراق والتي كانت تندد بسياسة الزعيم عبد الكريم أو تشير لبعض أخطائه. ويعود السبب الرئيسي لهذا الموقف لضمان وقوف الزعيم عبد الكريم والدولة العراقية مع الاتحاد السوفيتي في المحافل الدولية. فلم يكن الاتحاد السوفيتي بحاجة لنفط العراق ولا خيراته الأخرى، ولكن صوت العراق وموقفه الايجابي من سياسات الاتحاد السوفيتي، كان السبب الرئيس في المساعدات التي قدمت للعراق. ونفس السياسة كانت تستخدم مع باقي البلدان وبالذات السائرة في طريق التحرر والاستقلال الوطني، ولم يكن هذا الموقف ببعيد عن بلدان المنظومة الاشتراكية التي كان الاتحاد السوفيتي يبذل قصارى جهده لكي تقف على قدميها فيقدم لها العون المادي والمعنوي.
فكان السوفييت يقدمون للعديد من البلدان أسلحة بالمجان وبأبخس الأثمان، ويرسل خبرائه ومعداته ويساعد في بناء ورش ومصانع وأبنية. فضلاً عن انتشار الفقر بين اوساط الشعب السوفيتي واشاعة طرق الرشوة وسرقة المال العام، فكان بعض اساتذة الجامعات يتقبلون الرشوة بابتذال ومثلهم أفراد الشرطة والأمن لا بل الكثير من موظفي الدولة. فالطالب الموفد للدراسة في الاتحاد السوفيتي يحصل على راتب كمنحة من الدولة قدره 90 روبلاً والمهندس السوفيتي وصاحب التحصيل العلمي العالي يستلم راتباً قدره 90 روبلاً، والطبيب يستلم بين 90 إلى 100 روبل، وهذا ينطبق على العديد من موظفي الدولة وذوي الاختصاصات العلمية العالية. في الوقت الذي كانت تعمل القيادة السوفيتية على تخصيص جل ميزانية الدولة للأنفاق العسكري، لذا ترك الناس يعيشون في تلك الأماكن الضيقة وظروف سكن قاسية ووضيعة. كان سباق التسلح وتخصيص جل ميزانية الدولة للمؤسسة العسكرية وصناعة الاسلحة اخلالاً فاضحاً في مستوى انجاز باقي قطاعات الاقتصاد.
لكن بعد الاطاحة بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963، ومن ثم اطيح بحكم حزب البعث في العراق من قبل حليفهم عبد السلام عارف، قام الأخير بزيارة القاهرة ورغب بنقل التجربة المصرية إلى العراق، وقد طرح عارف فكرة تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تقليداً لخطوة جمال عبد الناصر، شعرت القيادة السوفيتية بالكثير من الارتياح وكأنها وجدت في ذلك ما يشفع لها للذهاب بعيداً نحو خيار الطريق اللارأسمالي في بناء الاشتراكية. وعدت القيادة السوفيتية خطوة عبد السلام توجه سليم ومكسب كبير، ورموا بعيداً ما كان يمثله عبد السلام عارف من طبيعة دموية فاشية بعد مشاركته في قتل الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه، وكذلك إيغاله ومشاركته في اغتيال قادة وأعضاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي في انقلاب شباط 1963م. وكان رأي مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية بوناماريوف قد لعب الدور الفاعل في رمي ذلك الانطباع بعيداً عن عبد السلام عارف.
ومع تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تصاعدت آمال السوفييت بالقدرة على إعادة تجربة ما حدث في مصر وتكرارها مع الحزب الشيوعي العراقي، لذا اتخذوا بالضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي للتهيؤ بما يتناسب والاستعداد للدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي الذي كان قد أسس حديثاً. وكانت حجج الجانب السوفيتي تركز على طبيعة الحزب الشيوعي العراقي واعداده الغفيرة التي لو قيض لها الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي فأنها سوف تصبح القوة الرئيسية فيه، وعندها يمكن لها أخذ زمام المبادة وتحويل مسيرة الاتحاد نحو الوجهة الصحيحة في السير قدماً نحو بناء الاشتراكية.
عملت قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي على توجيه ضغط هائل بدأته بين أوساط قيادة الحزب الشيوعي العراقي وكوادره وأعضاءه الموجودين في عموم الاتحاد السوفيتي، ومنهم عزيز محمد سكرتير اللجنة المركزية وسلام الناصري وغيرهم. وتوجهت حملة ممنهجة وواسعة عبر وسائل عديدة حزبية واعلامية في الداخل لدغدغة مشاعر الشيوعيين العراقيين ودفعهم للقبول بالدخول إلى الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد السلام عارف.
في هذا الأمر وتلك المرحلة فإن التاريخ يسجل للحزب الشيوعي العراقي كقيادة وقواعد موقفاً قوياً وذكياً في القدرة على المراوغة وعدم الأخذ بالرأي غير الحكيم لقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي. ولذا لم يصدر عن اللجنة المركزية أي قرار لا بالموافقة على الدخول ولا بحل الحزب وفي ذات الوقت امتنع الحزب عن اصدار ما يفند الرغبة بذلك. لكن بعض التوجهات الشخصية صدرت من بعض الكوادر دعت للدخول إلى الاتحاد الاشتراكي ومن ضمن هؤلاء السيد باقر إبراهيم عضو المكتب السياسي واللجنة المركزية حينذاك، ولكن تلك الدعوات واجهت انتقادات حادة وهجمة شرسة من داخل الحزب الشيوعي العراقي، افشلتها وقضت على رغبة القيادة السوفيتية.
كان موقف الحزب الشيوعي العراقي موقفاً ثابتاً ومبدئياً، فرغم قوة الضغط الهائلة التي مورست على الحزب الشيوعي العراقي من قبل القيادة السوفيتية، إلا أنهم لم يستطيعوا تغيير موقف الشيوعيين العراقيين في أحد أهم المفاصل التاريخية في حياته كحزب شيوعي. وتلك كانت نقطة هامة وفعالة أثبتت صحة موقف قيادة الحزب وخياره في طريقة إدارة شؤونه التنظيمية والعقائدية، وبقائه ككيان مؤسساتي له ثقله الفعلي داخل العراق.