سحر الكتابة و«الحقيقة» الإبداعية
كل سحر هو غامض في جوهره. والكتابة سحر يحتوي على كامل المواصفات التي تقوده نحو هذا التعريف الذي لازم الكتابة زمناً طويلاً. ربما منذ بدء الخليقة والإنسان يرسم على الحجارة أحلامه اليومية وعيشه الصعب ويسجل ذاكرة لم يكن يعيها. وإلا كيف نشرح انقياد المئات والآلاف بل الملايين من القراء تجاه كتاب أو كاتب؟ لا قوة جاذبة إلا اللغة وسحر القصة وتخييل القارئ الذي يتقاطع مع الكاتب وقد ينفصل عنه منشئاً عالمه الخاص الذي لا يشترك فيه مع غيره من القراء، لأن الفضاءات السحرية التي تخلقها الكتابة في عمق أي قارئ تتصف بالخصوصية. يقرأ القارئ نصه ويعيش في دائرته زمناً طويلاً، يكبر ويتسع معه قبل أن يدخل في ملف القراءات ويصطف في مكتبة الذاكرة إلى أن يأتي كتاب جديد يسحبه بعيداً نحو عالم آخر بكل سحره ومميزاته. ويظل هكذا في دوامة السحر والكتب.
القارئ عندما يقرأ يلبس تفاصيل الرواية لغاية أن يتملكها ويعتبرها حقيقية وكأنه يشاهد فيلماً لولا تصديق «الكذبة» السينمائية لما استطاع المتفرج أن يحب ويندمج فيما رآه إذا دخل في سؤال الحقيقة والكذب. كل ما نراه ونقرأه هو حقيقة، لكنها حقيقة الفيلم أو حقيقة النص التي لا تنتمي للحقائق الأخرى في الحياة. حتى بالنسبة للروايات التاريخية التي يفترض أن بها شيئاً من الحقيقة الموضوعية بالخصوص إذا ما بُنِيتْ على أحداث حقيقية. سرعان ما ينسحب النص نحو حقيقته، أي نحو ما ينشئه من أحداث ووقائع روائية تشد القارئ إليها. درءاً لأية شبهة «واقعية»، كثيراً ما نجد هذه الجملة تتصدر النص: أي تشابه بين أحداث الرواية وحياة أي شخص، فهو من قبيل الصدفة. وسيلة للوقاية من الذين يرون في الكتابة رديفاً للواقع يمكن أن يجر «الساحر» (الكاتب) نحو المحاكم، عندما تتقاطع بعض التفاصيل مع الحقيقة الموضوعية. وكأننا في الزمن الإغريقي القديم عندما كان السحر من أكبر التهم القاسية. الم تتهم روما الكاتب الكبير والفيلسوف أبوليوس بالسحر والإغواء وكان عليه الدفاع عن نفسه بكل الوسائل في مرافعته المعروفة؟ وقد نجد جملة أخرى يقصد بها التأكيد على حقيقية الأحداث: «وقائع هذا الفيلم مأخوذة من قصة حقيقية». اعتراف بتقاطع النص مع قصة حدثت في زمن ما، قام الكاتب بتوليفها وكتابتها، أي أن يد «الساحر» هي التي أنجزتها، فأصبحت كياناً أدبياً يقع خارج النص المروي بوصفه قصة حقيقية، وكثيراً ما يقع نوع من الاصطدام «كيف سمح الكاتب لنفسه أن يغير في قصة ليست له فشوهها». المشكلة التي تغيب كثيراً عن القارئ هي أن ما يراه تشويهاً قد يكون هو الكتابة عينها؛ أي لمسة الكاتب على القصة التي تبدو خارج المدار المفترض اتباعه. أكثر من ذلك كله، فالكاتب ليس مكلفاً بكتابة سيرة ولكنه داخل عالم تخييلي مهما كانت تقاطعاته مع الواقع، يظل مستقلاً. سيعطي من عنده الكثير، لأن أية قصة مروية عن الغير تظل ناقصة عندما يريد الكاتب استثمارها. ما نراه قصة التزمت برواية الحكاية كما هي، فهي في النهاية ثمرة شخص محدد رواها وفق رؤيته الخاصة؟ لماذا نعيد اليوم النظر في المرويات التاريخية بوصفها مرويات غير حقيقية وكتبها لأنها كتبت برؤية المنتصر؟ وهل المنتصر هو الحقيقة المطلقة؟ لماذا تعيد السينما الألمانية اليوم رواية تاريخ الحرب العالمية الثانية وفق رؤاها؟ لأن من رووا سردية هذه الحرب هم المنتصرون على ألمانيا النازية. ولا يمكن للرواية الجادة أن تكون مجرد ترديد للمتفق عليه أنه حقيقة.
الإبداع من حيث كونه فعلاً حراً فهو يقوم على الطرف النقيض من الحقيقة الموضوعية التي هي في جوهرها حقيقة مؤقتة. من هنا يفرض علينا سؤال الكتابة نفسه بقوة: هل يحيل سؤال الكتابة إلى ما نكتبه وما يشغلنا من أسئلة معقدة؟ هل هو هشاشتنا تجاه ما يحيط بنا التي هي أهم صفة للكاتب، أي قدرته على تشغيل حساسيته الإنسانية في أقسى درجات الحياة واليأس؟ هل هي الفعل الفيزيقي المصاحب للكتابة الذي يشبه إلى حد كبير صخرة سيزيف؛ جهد جبار يقصر من أعمارنا عندما تتحول الكتابة إلى رديف لمهنة الحياة؟ هل هي وسيلتنا القوية لمقاومة الاندثار القدري الصعب الذي يمنحنا حياة قليلاً ما نتخلى عنها، وحباً نصنعه على مقاسنا، أم هي (الكتابة) وسيلتنا للهرب ليس من جاذبية الكرة الأرضية ولكن من جاذبية المرايا التي تصورنا أكبر من أحجامنا وبشكل مقلوب؟ ما يُرفض هو وهم العظمة والاكتفاء بوهم صغير، هو من حق الكاتب بأن حياة نصنعها يمكن أن نتقاسمها مع غيرنا في لحظة من اللحظات، ونحتاج إلى أن نصدقها أنها حقيقة كما رأينا سابقاً، وكما يقول كولريدج: «أهم صدمة هي أن يدرك الكاتب بفعله الكتابي أنه ليس معلماً ولا قائداً عظيماً ولا نبياً ولا إلهاً صغيراً، ولكنه مجموعة تشظيات لا شيء يجمعها إلا شعاع الكتابة التي تعطيها المعنى». أمام هذا الكم من التساؤلات، ليس أمام الكاتب أية أجوبة إلا ما تصنعه يده من حروف ومصائر إيهامية، وما يقع خارجه هو مجرد حياة اعتيادية التي عليه أن يلبس لها الأقنعة اللازمة لكي يستمر فيها بوسائله الفنية.
في الرواية التاريخية الحديثة، ليس الرهان أن يكون الكاتب وفياً للزمن ولكن لروحه. في الرواية إيقاعات وموسيقى وألوان تتجاوز فعل التاريخ. الرغبة السرية في الرواية التاريخية هي تدمير اليقين والدخول في صلب الإبداع، أي في نقيض ما تأسس على أنه الحقيقة الوحيدة والمطلقة، وإلا سيصبح كل شيء مجرد ترديد وتنويعات على حقيقة مقدسة لا يمكن لمسها أو مسها. الكتابة سحر لأنها تملك قوة الإقناع بوسائطها الفنية لا غير. ومن أراد غير ذلك، فليبحث عنه خارج الكتابة.