جاري الذي أصبح خبراً سعيداً في وكالات الأنباء… وحيث لا طريق إلا إلى المقبرة
شدّني، مثلما شدّ الكثيرين، كما يمكن أن نتوقع، عنوان خبر من رويترز يتحدث عن «زواج عجوزين في دار للمسنين بدمشق يكسر الصور النمطية لكبار السن في المجتمع»، غير أن السطر الأول وحده، والذي أشار إلى اسم العريس، جعلني أمسك بالخبر أكثر، عندما شعرت أن هذا الاسم قد مرّ من قبل على رأسي. حين تقدمتُ أكثر إلى المتن، ثم ألقيتُ نظرة إلى الصور المرفقة صرخت بسعادة مَن عَثَر على غير توقع على لقية منسية: يا إلهي! إنه «أبو إسكندر»!
لم يضطر ميشيل ليكتب على جدار: «نيللي، أعطني قبلة»، فقد استطاع أن يقطف ما شاء من القبلات على الملأ، وقد امتلأت المقابلات المتلفزة والصور بفائض منها.
كان ميشيل يسكن قبالتي تماماً، نحو العام 2005، وكاد يمحى تماماً من ذاكرتي لولا رويترز، وأساساً لم يكن هناك مِن الأحداث والوقائع ما يجعل الرجل يشغل مكاناً في البال، خصوصاً بعد الأحداث العاصفة التي مرت بالبلاد، والتي من شأنها أن تنسي المرء حتى حليب أمه.
كان الرجل يعيش وحيداً تقريباً، مع ابن له مشاغله. مدرس متقاعد، لكنه ما زال يحتفظ بشيء من المرح، وبدا سعيداً بالشبه مع بسام كوسا، الممثل السوري المعروف، في إحدى شخصيات مسلسلاته، وهذا بالضبط ما جعلني أتعرف على اسمه وصورته في الجريدة.
ليس هذا ما جعلني أصرخ بسعادة، مع أن المرء يسعد أحياناً لمجرد العثور على ذكرى لطيفة منسية.
قرأت الخبر أكثر من مرة، ثم بحثت عن فيديوهات داعمة، سمعت صوت ميشيل (72 عاماً) وزوجته نيللي (80 عاماً)، وروى كل من العروسين، من وجهة نظره، كيف بدأت قصة الحب الهادئة اللذيذة بينهما. هذه المرة لا يمكن لقصة حب أن تكون عاصفة، فكل شيء هادئ على مختلف الجبهات؛ لا أهل يعترضون، ولا حرب بين عائلتي روميو وجولييت، لا انشغالات بشؤون الأبناء، حيث الجميع خارج البلاد، لا مخاوف وحسابات بخصوص سكن المستقبل وقروض البنك، وبأي أسلوب سنربّي الصغار. أحببتُ كيف أسعَفَها بكأس الشاي حين كانت على فراش المرض (وكانت هذه هي البداية)، وكيف أخذها من يدها للمشي في شوارع دمشق وفي ظلال كنائسها، وكتب لها كلمات حلوة على باقة الورد. لم يضطر ميشيل ليكتب على جدار: «نيللي، أعطني قبلة»، فقد استطاع أن يقطف ما شاء من القبلات على الملأ، وقد امتلأت المقابلات المتلفزة والصور بفائض من القبلات.
كل شيء هادئ على مختلف الجبهات؛ لا أهل يعترضون، ولا حرب بين عائلتي روميو وجولييت، لا انشغالات بشؤون الأبناء، حيث الجميع خارج البلاد، لا مخاوف أو حسابات أو هموم تربية الصغار.
إذاً بإمكان المرء أن يستأنف قصة حب بعد السبعين، بل إن بإمكان المرأة استئنافها حتى في الثمانين (خبر طيب لامرأة ظلت تتمَسْمَر أمام المرآة حتى في عمر متقدم في واحدة من روايات كازانتزاكي)، ليس ذلك وحسب، بإمكان المرء أيضاً ألّا ينظر إلى دار المسنين (دار العجزة في تسمية أخرى!) كنوع من «سبعة طوابق»، بحسب قصة الإيطالي دينو بوتزاتي الجميلة، الطوابق التي كانت المشفى الذي دخله «البطل»، بسبب حمى خفيفة للغاية، يبدأ الإقامة في طابقها السابع ثم يتدرج نزولاً من طابق إلى طابق، وصولاً إلى قبو الموت. وفي ظننا أن المرء لا يدخل دار المسنين إلا لينتظر ساعته (بعيد الشر عن العروسين وسواهما)، لبضع سنوات، وربما أقل.
خبر رويترز نفسه نَقلَ عن مسؤول نشاطات دار المسنين قوله: «دائماً يخرج من الدار أموات (بحكم السن) هذه أول مرة بيصير عرس، وبيصير فرحة بالدار، ورجعت الأمل للمسنين أنهم لا ينتظرون الموت، رجع الأمل بأن من الممكن أن يحبوا، أن يعيشوا قصة حب ويتزوجوا».
كل الرجاء أن تبقى كؤوس الشاي الدافئة تشعل أمل المسنين، ومن في حكمهم، ومع ذلك: «أرجوك يا نيللي، ظلّي أعطه قبلة».
************************************************************
حيث لا طريق إلا إلى المقبرة
رغم القصف، الذي طال كل أرجاء البلاد، لم أتخيل مرة أن تخترق بيتنا قذيفة، لا لشيء إلا لأن البيت، أعني بيت أهلي في المخيم، كان مختبئاً تحت جدران متراكبة كأنها متراس إلهي، غير أن بإمكان القذيفة أن تكون إلهيةً هي الأخرى.
الشعب السوري كلّه ناجٍ بالمصادفة، فهو قد مرّ منذ هنيهات فقط مكان سقوط البرميل، أو أنه كان على مسافة لا تُذْكر من سقوط صاروخ سكود، أو أنه كان ذاهباً إلى هناك لولا حكمة الرب.
تركت القذيفة حفرة كبيرة في جدار وعمود البيت، وللمصادفة كان أخي الذي يسكن السطح مع عائلته الصغيرة في غرفة مجاورة. الفارق كان جداراً هشّاً، مصادفة ذكّرتني بأن الشعب السوري المتبقي كلّه ناجٍ بالمصادفة، فهو (الشعب) قد مرّ منذ هنيهات فقط مكان سقوط البرميل، أو أنه كان على مسافة لا تُذْكر من سقوط صاروخ سكود، أو أنه كان ذاهباً إلى هناك لولا حكمة الرب.
القذائف التالية لن تجد أحداً في البيت، سيكون أهلي قد حملوا متاعاً قليلاً وتركوا المكان مع جموع النازحين تحت القصف العشوائي على حارات المخيم. وحده أبي رفض الخروج، ولم تفلح كل المحاولات في البداية على حمله. أبي خرج من شاطئ طبريا ولداً ابن اثني عشر عاماً، ويبدو أنه تعلّم الدرس بعد ستين عاماً من العذاب، هي عمر النكبة الفلسطينية، مع أنه كان يعرف جيداً أن هذا ليس شاطئ طبريا، وأنه بعيد على مسافة سبعين عاماً!
اضُطر أخي لاحقاً على حمل أبي بين يديه مجبِراً إياه على النزوح. أمر أقرب إلى الاقتلاع. لكنه ظلّ سنوات بعد ذلك لا شغل له إلا أن يتفلّت من رقابة أبنائه وبناته عائداً إلى بيته القديم. غالباً ما كان يصل إلى عتبة المخيم، الخالي تماماً من البشر بعد أن أصبح بين يدي النظام، فيمنعه عسكر الحاجز، أو أن عابر سبيل كان يجده في الطريق إليه فيحمله على الابتعاد.
خمسة أشخاص يحملون تابوت رجل حزين، فيما تنطبع ملامح الاشتياق إلى البيت على وجهه، يصارعون الريح للوصول إلى المقبرة، ويختلط صوت صفيرها بعواء الكلاب المديد.
هكذا دخل إخوتي في لعبة مطاردة مستمرة لمنعه من العودة؛ يخبّئون بطاقة هويته، وهو يعرف جيداً ما سيحلّ به على الحواجز من دون تلك الهوية، إلى أن يجدها ويعاود الكرّة.
كنا نخشى جميعاً، من دون أن يبوح أحدنا للآخر بشيء من خشيته تلك، أن نسمع خبره مقتولاً على قارعة الطريق.
لكنه عاد أخيراً إلى المخيم. لقد مات ميتة ربّه، هكذا يقول الناس لمن لم يمت بقذيفة أو برميل أو رصاصة قناص، ووحده من يموت ميتة ربّه سيسمح له النظام أن يدفن في مقبرة، كسائر الناس.
لم يعد أبي إلى أحياء المخيم الذي عاش فيه كل عمره، لم يسلك أياً من شوارعه، كما درجتْ جنازات المخيم، حيث الطريق من البيت إلى المسجد للصلاة، ثم السير طويلاً على الطريق العام، طريق السيارات.. لقد أُجبر على أن يسلك، مع حفنة قليلة من الأقارب تكفي بالكاد لحفر قبر ومواراته الثرى، طرقاً جانبية وصولاً إلى مقبرة المخيم البعيدة.
أكثر ما يؤلمني الآن في مسيرة الرجل الثمانيني المليئة بالنكبات تلك الصورة الختامية الأخيرة، حيث خمسة أشخاص فقط يحملون تابوت رجل حزين، فيما ملامح الاشتياق إلى البيت لا تفارق وجهه، يصارعون الريح للوصول إلى المقبرة، ويختلط صوت صفيرها بعواء الكلاب المديد.