تسعينيّة تستحضر أيام النكبة وسودانيّة تفضح عسكر بلادها!
جاءت ذكرى النكبة لتوقظ ذاكرتنا المتعبة، ولتعيد لنا روائح الموت العتيقة الجديدة. لنستعيد بها لحظات السقطة الكبرى. تلك السقطة التي أوجعت كل من يحمل في دمه شيئاً من النخوة والعزة والعروبة. لقد مرت أيام وانطوت سنوات ليبقى ذلك الجرح مفتوحاً على مصراعيه. إنه تاريخ حافل بالظلم والدماء والشهداء.
اليوم يتجسد عام 1948 أمامنا بكل أوجاعه وجبروته. تمر الأحداث لحظة بلحظة لتحفر من جديد مقابر الشهداء. إنها القضية التي لن تموت، رغم أنف المطبعين والمزمرين والمتآمرين مع العدو المغتصب.
كيف ننسى إجرام الحركة الصهيونية وجبروتها في طرد أكثر من 750 ألف فلسطيني من بيوتهم ليستحيلوا بين ليلة وضحاها لاجئين داخل البلد وخارجه. إنها السنة التي تم فيها هدم أكثر من 500 قرية وتحويل ما أمكن من المدن الفلسطينية إلى مدن يهودية، في محاولة لتزوير التاريخ وسرقة الأرض، ثم تلبيسها زياً لا تعرفه ولا يشبهها ولا تنتمي إليه.
إنها المرة الأولى، التي تحيي فيها منظمة الأمم المتحدة ذكرى النكبة الفلسطينيّة الخامسة والسبعين في مقرها في نيويورك، وفقاً للتفويض المعطى من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. قد تمنحنا تلك المبادرة شيئاً من الأمل في استعادة القضية، ولو القليل من حقوقها.
هكذا انتشرت القصص المؤلمة على مواقع التواصل الاجتماعي تزامناً مع الذكرى، وتفاعل معها رواد الـ»سوشيال ميديا» بصورة كبيرة.
من بين تلك الحكايات شهادة حياة، روتها الجدة بهيجة شحادة. وهي من قرية جمزو قضاء الرملة. إنها لاجئة فلسطينية في التسعين من عمرها. تقول فيما تفاصيل وجهها تبدو وكأنها تتساقط من حدة الألم: ليتنا لم نغادر البلاد. ليتنا نعود. عشنا وترعرعنا فيها. أخذوها منا بالغصب. نحن لم نبعها ولم نتركها بإرادتنا، بل أجبرونا على الخروج. حين أتوا إلى بلدنا جاءوا بالدبابات والطائرات. كانت تلف على البلاد لتقصفها. خاف المواطنون كثيراً وخرجوا من بيوتهم وجاء الصهاينة. يومها قتل من ضيعتي 17 فرداً.
تصمت قليلاً لتستعيد رائحة الماضي وصوره القاسية، ثم تضيف: أذكر امرأة كانت صديقة أمي، وكانت أرملة. ذهبت يومها لتحضر لأطفالها ملابس من الدار، بعد أن أخرجتهم منها بفعل الرصاص المنهمر بغزارة.. في الطريق، وهي عائدة إلى المكان، الذي خبأت فيه أطفالها، وجدت جارها العجوز جالساً أمام بيته على كرسيه. سلّمت عليه، لكنه لم يرد سلامها. فقالت له: يا عم لمَ لا ترد سلامي؟ ثم اقتربت منه وحركت لحيته فخرجت اللحية من مكانها. لقد ردت اللحية سلامها! هكذا وجدته مقتولاً.
ثم تحكي عن إمراه تعرفها كانت تحمل ابنتها البالغة من العمر حوالي سنتين. تلك السيدة قتلت برصاصة وسقطت طفلتها أرضاً. زوجها كان قريباً منها، ولكنه لم يستطع رؤيتها، لأن المسلحين كانوا على مقربة من المكان.
جلس الزوج تحت شجرة الزيتون حتى الساعة العاشرة ليلاً عله يودع زوجته وداعهما الأخير. فوجد الطفلة وحيدة قرب الجثة وكانت تردد كلمتين فقط: أمي دم.. أمي دم! أعادت قولها مرتين، وكأن بتلك الكلمات خسرت الطفلة طفولتها، وبدأت عمراً آخر من الظلمة والظلم والبرد القارس.
مشاهد لا يمكن أن تجهضها الذاكرة، ولو أجهضت نفسها. آلاف الأطفال الفلسطينيين عاشوا منذ أيام النكبة وحتى يومنا هذا مصيراً مشابهاً لمصير تلك الصغيرة، ولكن حلم العودة لن يسقط أبداً.
نطقت القبور
لقد حاولت دولة الاحتلال الإسرائيلي محو الوجود الفلسطيني، بكل الوسائل الممكنة، ولكنها لم تنجح يوماً في مهامها. لقد وجد اللاجئون الفلسطينيون ألف وسيلة ووسيلة لتثبيت تاريخهم وتخليد أسماء قراهم، رغم شتاتهم في 19 مخيماً، عدا أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية.
في السنوات الماضية سمعنا عن أطفال يخلدون القرى عبر مقاطع فيديو صغيرة ينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنهم من قام برسم القرى ونشر صورها. أما مؤخراً فقد بدأ اللاجئون الفلسطينيون برفع أسماء القرى، التي هجروا منها فوق شواهد القبور ليوثقوا معاناتهم ويحفظوا تاريخ قراهم ويحفروها في ذاكرة الأبناء. وهل هناك مكان نستأمنه على ما بقي منا أفضل من القبور؟ إنهم الأموات يحرسون قرانا ويحمون تاريخنا. قد يستفيقون يوماً ويعودون إلى أرضهم ليستعيدوها، ثم يعاودون نومهم بهدوء.
يقول راضي يعقوب وهو الناطق الرسمي باسم اللجنة الشعبيّة لمخيم قلنديا: وهيك علمونا أجدادنا إنو هذا المخيم محطة انتظار لحين العودة. يمكن إحنا ما زرنا قرانا، لكن هي محفورة بأرواحنا وعارفينها بكل تفاصيلها.
رسالة سيدة سودانيّة
ومن المأساة الفلسطينية إلى وجع السودان. رسالة مؤثرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. إنها سيدة سودانية أجبرت على ترك بيتها، تحت تهديد قوات «الردع السريع». فتركت خلفها رسالة علقتها على الحائط: «هنا لا يوجد كاش أو ذهب. يوجد الكثير من الذكريات والكتب»، ووقعت تحت تلك الكلمات بهاش تاغ: «لا للحرب»!
لقد اختصرت بكلماتها القليلة معنى الحياة. إن الحياة ما هي إلا ذكريات وكتب.
هكذا عرّت بكلماتها جهل العسكر المتصارعين على السلطة: «لا يوجد كاش توجد كتب»، قد تكون « لطشة» غير مقصودة، ولكنها جاءت في مكانها الصائب. إنها حرب الجهلى. أو ربما حروب الآخرين على الأراضي السودانية، حيث لا يمكن للسوداني الوطني أن يفعل ببلاده، كما يفعل هؤلاء المخربون!
*كاتبة لبنانيّة