أبو نضال .. تشريح الجثة بعد مواراتها الثرى
عبد الحسين شعبان يفتح أبواب ونوافذ الغرفة 46
أبو نضال .. تشريح الجثة بعد مواراتها الثرى
هل إنتحر الزعيم الفلسطيني أم نحروه؟ سؤال بإنتظار جهود باحث منصف ومتجرّد
أحمد عبد المجيد
ما من مرة زار فيها المفكر والباحث البارز عبد الحسين شعبان بغداد، إلا وحمـــــل الينا منجزاً أو اكثر من ابداعه الفــــكري، وفــي زيارته الأخيرة (5 أيار الجاري)، أتحفنا بكتابين جديدين الأول (الزمن والنخب – في انطولوجيا الثقافة العربية). وهو كتاب يزهو بعنوانه ويتقد بنخبه، على حد وصف الدكتورة الهام كلاب، والثاني (الغرفة 46 سرديات الإرهاب – خفايا وخبايا)، وهو ما سأتناوله في هذا التقريظ الذي لا يخلو من إشارات او ملاحظات سجلتها بعد القراءة الأولية .
لقد شدني محتوى الكتاب، لانه يتناول سيرة شخصية فلسطينية إشكالية، وصفت باللغز في الحياة والممات ، حيث (نحر) في بغداد يوم 17 آب 2002 واعلن طارق عزيز ان أبا نضال (انتحر) بأربع رصاصات اطلقها على نفسه في شقته بمنطقة الكرادة ببغداد. وافترضت مصادر فلسطينية انه قتل بناء على أوامر الرئيس الراحل صدام حسين ، وسط نفي السلطات العراقية ذلك وإصرارها على انتحاره.
وبرغم كثرة المصادر التي تناولت حياة الرجل، المولود في مدينة يافا في 16 آيارعام 1937 (ذات سنة ولادة الرئيس صدام حسين بتكريت)، فان قليلاً أو نادراً منها انصفته أو تحدثت، ولو يسيراً عن سجاياه، وانصبت المؤلفات بدءاً من كتاب البريطاني باتريك سيل (البندقية المستأجرة) وانتهاء بكتاب العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، على التشديد على سرد اعماله الإرهابية . فالجميع اسبغوا عليه وصف (اقسى القادة الفلسطينيين السياسيين وأشدهم وحشية). وزعمت مجلة دير شبيغل الألمانية ان أبا نضال وصف نفسه (انا روح الشر التي تتحرك في ظلمات الليل مسببة الكوابيس)، وكتبت جريدة الغارديان البريطانية بعد اعلان مصرع ابي نضال (انه المواطن الذي تحول الى مختل عقلياً، خدم نفسه فقط، وان دوافعه الشخصية هي التي أودت به الى الجريمة الشنعاء).
والحق فان كل انسان يولد مجرداً من مظاهر الشرور، لكن الظروف المحيطة به قد تحوله الى طينة أخرى. ولا يشذ أبو نضال (نضال هو ابنه الوحيد من زوجته هيام البيطار)، عن هذه القاعدة التي اسهب في تاكيدها فقهاء علم النفس والاجتماع، ولاسيما الماركسيون منهم. فوالد صبري خليل البنا ، وهذا هو اسمه الثلاثي ، الحاج خليل كان تاجراً ثرياً ومالكاً لستة آلاف فدان من بساتين الحمضيات بين مدينتي يافا والمجدل، ووالدته سورية من الطائفة العلوية ، وقد طردت قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 عائلة البنا بأكملها، الى الضفة الغربية، قبل ان تنتقل الى الأردن، وهناك عرف صبري البنا الجوع والاذلال والتشرد. واضطر الى العمل في مهن مختلفة، وقيل انه اطلع على أفكار حزب البعث فسارع الى الانضمام اليه، وفي الوقت ذاته كان يتابع تحصيله الدراسي باصرار وعناد ، ودرس الهندسة في القاهرة، لكنه لم يتابع دراسته بسبب انغماسه بالعمل السياسي. وعمل صبري ، الذي صار يكنى بأبي نضال، في السعودية ، وهناك تواصل مع ابناء وطنه وانشأ مجموعته الأولى ، وعاد الى الاردن . ويلاحظ ان معظم قادة العمل الفلسطيني وفي طليعتهم ياسر عرفات (ابو عمار) ، امضوا سنوات شبابهم بالعمل في مجالات مختلفة بدول الخليج العربي.
وتحت ضغط عوامل ذاتية وموضوعية تبلورت شخصية (أبو نضال) وتشبعت بالهم الفلسطيني ، فمن جهة نشأته الصعبة والضاغطة ، ومن جهة ثانية جو المد القومي الذي ساد البلدان العربية ، وانغماس السواد الأعظم من الشباب بتداعيات حرب 1948 والاحتلال الإسرائيلي والهزائم العربية في 1967 على مسرح العمليات ، وفي العقود التالية ، على مسرح الدبلوماسية الدولية ومجمل القضايا السياسية المرتبطة بفلسطين ، أدت الى سطوع تيارات سياسية تبدو غير منطقية، لكنها واقعية بلا مخارج ، تمثلت بما يعرف بـ(العنف الثوري) ، الذي هز العالم بأسره . ومن الواجب التذكير ان هذه الصرعة السياسية الطاغية، تزامنت مع اصداء كبرى رافقت عمليات بايدر ماينهوف، والجيش الأحمر ، والالوية الحمراء، والجيش الايرلندي السري وغيرها، وقد استنسخ شيوعيو العراق تجربة الكفاح المسلح بالانشقاق تحت خيمة عزيز الحاج في تنظيم ما عرف بالقيادة المركزية وبدء عمليات مسلحة في الاهوار أواخر عقد الستينات. وقد توزعت هذه النماذج على أجزاء من بلدان العالم، واعتمدت العنف ، الذي تحول الى إرهاب بالمنطق الغربي الأمريكي والإسرائيلي ، باعتباره نظرية عمل وليس وسيلة فقط، كما يرى الدكتور شعبان (ص10).
اعتمد المؤلف على مصدرين رئيسين في رفد كتابه بالمعلومات عن ابي نضال، الأول وثائقي بحثي يتمثل بكتاب باتريك سيل، والثاني شفاهي يتلخص بالمقابلة السرية الطويلة المرجأة التي أجراها شعبان مع المنشق عن جماعة ابي نضال ، مساعده الأبرز عاطف أبو بكر، الذي وصفه سيل بأمهر الرجال الذين قابلتهم في الحركة الفلسطينية ، وهو وصف يبدولي مبالغاً فيه ، يكشف انتهازية الصحفي، عندما ينوي تمجيد شخصية، كانت موضع لقاءاته ومصدر معلوماته أو صيده.
اسباب منطقية
وهذا المصدران ، برغم بعض التحفظات ، مهمان بالنسبة للمؤلف، لاسباب تبدو منطقية عملية، اذا عرفنا ان عاطف أبو بكر تحول الى العدو اللدود لابي نضال والشخص الوحيد المستعد او المتطوع لكشف خفايا وخبايا منظمته ودوره في العمليات المسلحة التي ضرب بها أبو نضال قيادات من الصف الأول في الحركة الفلسطينية ودول ومنشآت إسرائيلية أو ضالعة بالتعاون مع تل ابيب، ثم دفعت دولاً عربية عدة الى مهادنته تحت ذريعة (دفع الشر).
وكانت ثمة أسباب ودواع أرجأت اطلاق أسرار الغرفة 46 التي أجرى فيها شعبان حواره الطويل مع أبي بكر، بينها أمنية وشخصية وموضوعية، أسهب في تبيانها في القسم الأول من الكتاب تحت عنوان (البدايات)، وقبلها في (عوضاً عن المقدمة – كتاب بعد ربع قرن) ص9. وأنا أشاطره في كل تلك الأسباب التي أعاقت اطلاق معلومات مهمة وغير مسبوقة – ربما – عن شخصية ابي نضال وجماعته ، التي تأسست للمرة الأولى في العراق اثر خلافات عقائدية وكارزمية مع ياسر عرفات. ففي أيلول 1970 تم تعيين ابي نضال مديراً لمكتب منظمة التحرير وممثلاً للحركة في العراق. وقد عولت منظمة التحرير وحركة فتح على هذه الساحة ، باعتبارها مصدر السلاح القادم من الصين ودول المجموعة الشيوعية. وكانت معظم معسكرات التدريب الفلسطينية فيها.
استثمار الفرصة
لقد حرم الدكتور شعبان قراءه من تلك المعلومات باخفائه تسجيل المقابلة مع ابي بكر نحو ربع قرن، فيما استثمر كتاب صحفيون أخرون الفرصة، فاجروا حوارات لاتقل أهمية عما ورد في حوار شعبان، منهم السورية – الفرنسية حميدة نعنع عام 1989 والكويتي جاسم الصقر رئيس تحرير جريدة القبس عام 1985 واللبناني شربل داغر في الحياة اللندنية عام 2002 ثم اجرى التلفزيون العربي لصاحبه عزمي بشارة حواراً مطولاً مع المنشق ابي بكر في 5 تشرين الثاني 2017 وقبلها فعلت قناة الحوار عام 2011 ولم تختلف اقوال ابي بكر الهجومية في جميع اللقاءات ، لكنها أدت وظيفة واحدة هي ايقاظ ذاكرة عائلات الضحايا.
وعلى ذكر حوار نعنع في صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية مع ابي نضال. فاني رافقتها أواخر الثمانينات من القرن الماضي الى منزل إقامة الرئيس ياسر عرفات في منطقة الجادرية ببغداد، وكانت متهيبة ومتوجسة من احتمال مواجهتها بالعتب إزاء لقائها الصحفي المذكور مع ابي نضال. لكن عرفات استقبلها بالأحضان وبدد خشيتها ولم يرد ذكر المقابلة بتاتاً في حديثه الينا. وقد اكبرت في الرئيس الراحل روح الزعامة والحضور الطاغي اللذين يحملهما ، وكتبت معجباً، في عمودي اليومي بجريدة القادسية، ورأيت ان الفرق بين عرفات وسواه من قادة فلسطين يكمن في تجاوزه الخلافات وقدرته على احتواء الخصوم. ولذلك غالباً ما كنا نراه يحرص على تقبيل الرؤساء والزعماء العرب نظرائه، بحرية باعثاً الامل والرجاء في نفوسهم.
وليس صعباً على المتابع ان يكشف طابع التشويق الذي تتسم به كتابات الدكتور شعبان. ولعله توج هذه الصفة بكتاب الغرفة 46 بما أمده من اضاءات بحثية معززة بشهادات حية قدمها من واقع تجربته بفصائل منظمة التحرير وعمله في جهازها الإعلامي في لبنان، في عقد السبعينات والثمانينات ، وقد وقعت في أسر هذا الأسلوب بسبب عامل إضافي يتعلق بحيثيات شخصية ابي نضال التي كان بعض الصحفيين في بغداد يعرف مكان اقامته بمحيط ساحة المسبح ، حيث توجد في ركنها بناية بسيطة من طابقين كان يحتل احدى شققها ، فيما يقع في أسفلها محل راق اسمه طماطة لبيع ألبسة رجالية فاخرة، صناعة ماركات عالمية.
ان من حق الدكتور شعبان ان يسبغ على المنشق عاطف ابي بكر، شتى الأوصاف ، لكني لا أميل الى روايات يدلي بها مثل هذا النفر ولي أسبابي الخاصة:
اولاً: ان أبا بكر، كاره متعارض مع ابي نضال ، ولابد من الحذر من الركون التام الى ارائه.
ثانياً: ان الروايات الواردة في حديث ابي بكر تخضع لمزاج متحول قوامه انه يبدو مستفيداً من الانشقاق وعائداً بامتيازات من الرئيس ياسر عرفات في اعقاب ذلك حيث أوفد سفيراً الى دول شرقية عدة.
ثالثاً: انه لا يجوز ان نتحدث بشكل مطلق عن نصف الكأس الفارغ، متناسين الجزء المليان منه، وعلى سبيل المثال ان جماعة ابي نضال انبثقت في ظل تراجع عربي واحباط شعبي ناجم عن الصراعات العربية العربية والفلسطينية الفلسطينية وما بينهما. وكذلك ان شخصية ابي نضال تتمتع بمؤهلات واهتمامات تحدث عنها بعض الذين التقوه ومنها احاطته الواسعة باسباب النكسات والتراجعات الفلسطينية ، فهو يقول مثلاً (الحقيقة لا أنا ولا رفاقي انشقوا عن حركة فتح، انما نحن قد طردنا بقرارات تعسفية فاشية والقضية ترجمتها في العربية هنا هي الحكم المطلق).
ولا يصعب على حاذق ادراك ان وراء انشقاق ابي نضال أيضاً، جهة تدفع به الى تشظية الفصائل الفلسطينية، ولاسيما حركة فتح بعد خلاف بغداد مع ياسر عرفات ، وبعد دخول الحرب العراقية الإيرانية كعامل ضغط على الرئيس الفلسطيني الذي أعلن التأييد للثورة الإسلامية في ايران بعد اندلاعها في شباط 1979 في وقت توهمت بغداد ومعظم عواصم الخليج ان الامام الخميني ينوي شراً بها عبر مفهوم (تصدير الثورة). وانا أميل الى ان المخابرات العراقية، ابان مجدها في السبعينات، هي التي صنعت ظاهرة ابي نضال. فقد أمدته بالاحتياجات والمستلزمات ولاسيما المال ، لكن وظفته لاغراضها في خضم احداث لبنان والجفاء مع عرفات. وكنت قد تحدثت عن رفيق آخر له هو أبو العباس (محمد عباس) الذي اقام في بغداد منذ الثمانينات حتى وقوعه أسيراً بيد القوات الامريكية المحتلة، ووفاته في سجن كروبر أو سجن المطار عام 2004 في ظروف غامضة. وأشرت الى جانب من حياته غير النضالية واتجاهها الى التحول لرجل اعمال صاحب مزرعة كبيرة بمنطقة البوعيثة ، في كتابي (هذا نصيبي من التضامن – بعض ما يمكن قوله)، الصادر في بيروت عام 2020. وقد نوه اليه الدكتور شعبان في كتابه (ص 159).
وفي اطار الكأس الملآن، فان بعض الحوارات الصحفية اشارت الى مهارات ثقافية يتحلى بها أبو نضال وذكرت (انه يعزف العود ويعشق فيروز ويقرأ المتنبي وان سنحت له الظروف فانه يتابع السينما).
أما تحفظي الأشد على روايات ابي بكر فانه ينصب على كثرة الهجوم الشخصي ومحاولة تبشيع صورة الرجل، دون (ذكر محاسن موتاكم)، ووصل ذلك الى الطعن بسلوكه الفردي وفي تصويره بالمجنون والمجرم والسارق والكاذب والمتاجر بالقضية وقاتل رفاقه، وغير ذلك من أقذع الاوصاف للفترة الممتدة من 1974 حتى 1981. فقد قال في حواره مع شعبان ان أبا نضال (لم يكن يتحلى بالحد الأدنى من الشجاعة ولاسيما عند مواجهة المخاطر)، وأرد عليه بالقول ان (شخصاً شغلت اعماله العنفية العالم لمدة ربع قرن، لا يمكن إلا ان يكون شجاعاً أو اقتحامياً أو جريئاً). كما وصف أبو بكر موقف ابي نضال إزاء المرأة بالمتخلف، وارد عليه بالتساؤل (كيف بمستطاع رجل انصرف الى مشاغل العمليات السرية ان يضع المرأة ضمن اهتماماته العاطفية؟).
جذور التنوع
ويجهل أبو بكر جذور التنوع في قراءات ابي نضال ، عندما يزعم (انه يقرأ كوكتيل ويتحول الى رجل صاحب برنامج إصلاحي وحينما يجلس مع شيعي يتحول الى حليف لحزب الله وايران)، واني اعزو ذلك الى انحداره من ام علوية احاطته ، بالتأكيد، بالمعرفة الفطرية لموروثها كأي أم . أما الزعم بانه اذ يجلس مع شخص قومي فتراه قومياً اكثر منه، فلأن جذور الرجل الأيديولوجية ذات امتدادات عربية شكلت قضية فلسطين ، مركز الرحى فيها. وأرى ان أي منصف يتصدى لحياة وكفاح ابي نضال لابد ان يقتنع بانه وليد بيئته العائلية والمناطقية ومخرجات ظروفه وتوجهاته التي كانت ملتهبة وتبحث عن منقذ. ولعله كابد كثيراً من اجل ان يكون هو هذا المنقذ ويحقق الشعارات الجذابة بشأن عدالة القضية ونبلها. (انظر من 56 وما يليها). ومع ذلك فان الباحث الحاذق يستطيع ان يفرز الغث من السمين ويقارب المعطيات الواردة في احاديث وروايات عاطف ابي بكر، الذي تولى سفارات فلسطين في كل من براغ وبلغراد وبودابست ، ويضع تحت معظم سطورها خطوطاً حمراء وسوداء.
يبقى أمامنا حقيقة، ربما غفل بعض المؤرخين المحللين استنباطها. فيما يخص مصرع ابي نضال في بغداد، بعد سنوات طويلة من الترحال والتنقل والهجرة التي تمليها الظروف والانواء العربية. وبرغم ان أبا نضال عاش بآليات حكم ورعاية ليبية واسعة بما لم يحصل عليه قيادي فلسطيني آخر، فان عودته الى العراق، وانتظاره المصير المثير للجدل ، يدعو الى سؤال يتعلق بما أحاط الحكم العراقي من مآلات عشية سقوطه ودخول قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني الى البلاد . السؤال هو { هل انتحر أبو نضال ام نحروه؟
– اننا بانتظار باحث منصف ومتجرد يميط اللثام عن خبايا وخفايا هذه النتيجة المؤسفة التي ينتهي اليها ، عادة، طالبو حقوق شعوبهم، في عالم يتقاسمه الظـــــــالمون والشياطين ومضللو الرأي العام.
ويســـــــجل للدكتور شعـــــــبان، انه فتح ملف ابي نضال، وأجاب عن بعض الأسئلة العالـــــــقة، ومنها الفرق بين عملياته العنفية التي توسم بالإرهاب وعمليات الفصائل الفلسطـــــــينية التي يعدها القانون الدولي مقاومة مشروعة ضد الاحتلال. وقد حرص شعبان على تأكيد هذا الهدف لي في جلسة توديعه بفندق فلسطين مريديان قبل ساعات من عودته لبيروت ظهر الاثنين الماضي.
نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 11 أيار / مايو 2023.
عن تقريظ أحمد عبد المجيد لكتاب الغرفة – 46
قراءة خارج المتن
عبد الحسين شعبان
باهتمام كبير قرأت ما كتبه أحمد عبد المجيد الصحافي القدير والحاذق، رئيس تحرير صحيفة الزمان (طبعة العراق)، تقريظًا لكتابي “الغرفة – 46: سرديات الإرهاب – خفايا وخبايا“، دار الرافدين، بيروت – بغداد، 2023، وهو أوّل تقريظ يصدر عن الكتاب. وكنت قد أهديته له في زيارتي القصيرة إلى بغداد، حيث كان الكتاب في طريقه إلى المكتبات.
ومن دون مجاملة يمكنني القول أن التقريظ متميّز لسببين ؛ الأول – لأنه يصدر عن كاتب متميّز، وفي جريدة متميّزة؛ والثاني – لأنه يوسّع دائرة الاهتمام في موضوع خطير يعالجه الكتاب، وأعني به الإرهاب، والذي قدّمته بأسلوبين متداخلين يكمّلان بعضهما البعض؛ فهو سردية مفتوحة، أقرب إلى رواية درامية بفصول مختلفة على مدى يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن من جهة؛ ومن جهة ثانية، دراسة فكرية حقوقية وقانونية موثّقة، تتّسم بالتفريق بين المقاومة والإرهاب، وقد ظلّ الكتاب حبيسًا في أدراج مكتبي لربع قرن من الزمن تقريبًا، لأسباب جئت على ذكرها في المقدمة.
لم أكتف بشهادة الغرفة 46 التي دوّنتها عن عاطف أبو بكر، بل قلّبت كلّ ما ورد فيها تدقيقًا وتمحيصًا وتعميقًا وإضافةً واختلافًا، سواء ما بين السطور أو ما خلفها من القنوات السريّة المشكوك وغير المشكوك فيها، وذلك بهدف استكمالها بالتنقيب والحفر والتنبيش والتعقّب والملاحقة، لإظهار الحقيقة بجميع جوانبها، وقد جعلت من صاحبها محورًا تدور حوله الحكاية، مقارنةً ومقاربةً لما سبق، فضلًا عن مقابلات ودراسات وكتب وأبحاث تخصّ الموضوع، ناهيك عمّا اختزنته من رصيد معلوماتي على مدى زاد عن خمسة عقود ونصف العقد من الزمن، من علاقة بالمقاومة الفلسطينية وتياراتها واتجاهاتها.
قراءة مغايرة
جاء تقريظ أحمد عبد المجيد للكتاب من خارج محتواه أحيانًا، أو من خارج النص كما يُقال، بتقديم نص آخر أو رؤية أخرى، بعضها كان سائدًا، بمواصفات تلك المرحلة السريّة الشديدة الغموض والإبهام والالتباس.
وباشتباك ودّي أقول ثمّة معطيات كانت تسرّبها ماكينة إعلام بعض الجهات التي كان أبو نضال قريبًا منها أو تصدر أحيانًا عن بعض أعوانه أو من يتعاون معه، لإظهاره الأكثر “ثورية” في ممارسة ” العنف الثوري”، في حين أن الغالبية الساحقة من الأعمال التي قام بها تندرج في نطاق الإرهاب، وقسمها الأكبر ضدّ فلسطينيين أو معارضين لأنظمة حاكمة، وفي الكتاب أمثلة كثيرة على أساليب الابتزاز وعرض الخدمات على الفرقاء المتخاصمين حسبما تقتضي الحالة أو الحاجة.
لا أدري كيف قفزت إلى ذهني عبارة كارل ماركس في الثامن عشر من برومير “لويس بونابارت“، والتي يقول فيها: عجبي على من يريد أن يمثّل دور البطل وهو متوسط المواهب ومحدود المعرفة.
وكما هو معروف عن سيرة “الرجل” أنه كان بسيطًا، لا تتعدّى ثقافته الأدبيات السياسية ذات “الجمل الثورية” و”العبارات الرنانة”، خصوصًا بعد زيارته للصين في مطلع السبعينيات، فقد بدأ حياته كعامل تمديدات كهربائية في السعودية وانتقل إلى الأردن، حيث افتتح مكتبًا اعتُبر محطة سريّة لفتح، التي كان عضوًا فيها، وهو ما كان يؤكده الراحل ناجي علوش، الذي كان أمينًا لسر التنظيم بعد فترة قصيرة شغلها منير شفيق (أطال الله في عمره)، وكلاهما اختلف معه وحاول اغتيالهما، إضافة إلى ما ذكره من الراحل محمد داود عودة (أبو داود) الذي تعاون معه لفترة قصيرة، وقد حاول اغتياله أيضًا، وتفاصيل ذلك موجودة في الكتاب، فضلًا عن ذلك، لا يُعرف عنه أية اهتمامات تُذكر بالثقافة أو الفكر السياسي.
باتريك سيل
حين وصف باتريك سيل عاطف أبو بكر بأنه “أمهر الرجال الذين قابلهم في الحركة الفلسطينية”، فذلك انطباع صحافي غربي، وهو ليس خفيفًا ليصدر حكمًا بهذا المعنى يجانب الحقيقة أو يُجامل فيها، فعاطف أبو بكر، وكما عرفته في بغداد في بدايات شبابه في العام 1968 كان واعدًا، وهو في تنظيم فتح، وكان كادرًا طلابيًا مرموقًا، ثم انتقل إلى القاهرة في قيادة الاتحاد العام لطلبة فلسطين، ولكفاءاته اختير وهو شاب ليكون سفيرًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، حيث عمل سفيرًا في بلغراد وبودابست وبراغ، وتابعت مسيرته خلال تلك الفترة، التي سجّلت علاقات جيّدة مع الجاليات العربية في تلك البلدان، إضافة إلى علاقاته الإيجابية وصداقاته بالمضيفين.
وقد اهتمّ منذ شبابه بالأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وله عدة مجموعات الشعرية، إضافة إلى ذلك كان يمتلك عقلًا منظمًا وذاكرة يقظة، ولغته العربية سليمة وجملته أنيقة، وله كاريزما وحضور جلي، ومثل تلك المواصفات تجعل من شخصية مثل باتريك سيل يُعجب به، بل إن شخصيته تثير الإعجاب فعلًا، وإن كان لديّ ملاحظاتي على خياره السياسي الأخير والخاطئ، سآتي على ذكرها.
لعلّ الحوارات التي أجراها عاطف والمقابلات التي أعطاها، تكشف مدى قيمته الحقيقية، ولا أقصد هنا الكتاب الذي نحن بصدده، والذي هو في جزء منه مراجعة نقدية لتجربته، بقدر ما فيه من تقييم لحركة المقاومة الفلسطينية، وفي جانب آخر ما له علاقة بحركة التحرّر الوطني، وبالعديد من البلدان التي عمل فيها. وفي خريطة العلاقات تلك تنبجس الكثير من الأسرار والمعلومات التي ظلّت مستترة أو محجوبة أو ضائعة أو مضبّبة، وعلى الباحث التعامل معها من هذا الموقع، بحذر ومسؤولية في الآن، خصوصًا وهي تصدر عن صاحب رأي واجتهاد قد تتفق معه أو تختلف.
أعتقد أن القراءة الصحفية السريعة وراء مثل هذا الالتباس الذي حصل في التقريظ، فعاطف أبو بكر لم يكن مستفيدًا من الانشقاق الذي وقع بالحصول على امتيازات ياسر عرفات في أعقاب ذلك، حيث أوفد سفيرًا إلى دول شرقية عدّة، كما ذكر عبد المجيد، بل أنه ضحّى بالامتيازات والمناصب في خلافه مع عرفات، حيث التحق بحركة فتح الانتفاضة العام 1983 في الشام (ضدّ ياسر عرفات)، وبسبب عدم توافقه معها، عرض عليه أبو نضال الانضمام إليه ليكون الشخص الثاني فعليًا والمسؤول عن الإعلام والعلاقات والكيان التنظيمي بعد حرب المخيّمات الشهيرة في لبنان، التي كان له دورًا توفيقيًا تصالحيًا فيها، ووافق بشروط، على أن يتمّ تحويل الجزء الأساسي من التنظيم إلى العمل السياسي والإعلامي، ويبقى الجزء العسكري في مواجهة “إسرائيل”، و”إسرائيل” فقط.
وقد يكون مثل ذلك العرض إغراءً لقبوله الموقع وانتقاله من ضفّة إلى أخرى. فأبو نضال ظلّ يبحث عن أسماء لامعة، بل يحتاج إليها، خصوصًا وأن سمعة التنظيم يغلب عليها الطابع العنفي الإرهابي. وإذا كان ثمة هدنة أو مراوحة لطمئنة أبو بكر، إلّا أنها سرعان ما شهدت تراجعًا مريعًا، فبدأت الخلافات بإخراج التنظيم من سوريا، بعد أن شعر أبو نضال أنه لم يعد بإمكانه السيطرة عليه والتحكّم به كليًّا، وذلك في العام 1988، أي أن عاطف لم يعمل فعليًا فيه سوى ثلاث سنوات ونيّف (من العام 1985 وإلى العام 1988)،حيث بدأت الخلافات والشكوك تكبر بين الطرفين، خصوصًا حين تكشّفت الكثير من الأوراق وأصبحت بيد عاطف، لاسيّما باختفاء بعض مساعدي أبو نضال بطريقة غامضة يرد تفصيلها في الكتاب.
وقد توجّس الشاعر مظفر النواب خيفة على حياة أبو بكر، لأنه يعرف أبو نضال جيدًا، وهو ما أسرّني به في حينها، وسعى كي لا يناله سوء مثلما حاول الليبيون ذلك، خشية من حدوث المحذور، فعاطف اسم علم التقى رؤساء وزعماء ومسؤولين عديدين، الأمر الذي قد يثير اغتياله إحراجًا، لكنه في نهاية المطاف أدرك أن كلّ ذلك قد لا يحول دون تدبير أمر ما له، وقد يتّهم طرفًا ثالثًا، فاضطرّ إلى الهروب إلى أحد البلدان وظلّ مختفيًا عن الأنظار منذ 35 عامًا إلى اليوم، وتوفيت زوجته الأولى أم فرح، وهو في محنته وفي وضع صحي ونفسي ومالي لا يُحسد عليه.
ظلّ الهم الأكبر لعاطف هو كشف الحقيقة مهما كان الثمن كما قال، وبسبب ذلك تحمّل الاختفاء الطوعي – القسري، وهو الرجل الذي شهدت له المحافل الدبلوماسية والسياسية والإعلامية صولات وجولات.
أظنّ من الخطأ الكبير إسباغ صفة الشجاعة على من يقوم بأعمال القتل بدم بارد أو ارتكاب أعمال عنف منفلتة من عقلها أو بتفجير يلحق أذى بالسكان المدنيين الأبرياء العزّل، انتقامًا من رأي أو وجهة نظر أو موقف، فما بالك حين تكون الضحية فلسطينية أو عربية، بغضّ النظر عن خطئها أو صوابها، فالشجاعة صفة لصيقة بالخير وليست بالشر، والقاتل أو المجرم أو المرتكب أو الجلّاد لا يمكن أن يكون شجاعًا، حتى وإن انتصر على خصمه وحطّمه وأذلّه، فتلك انتصارات أشدّ عارًا من الهزيمة.
والثورة في نهاية المطاف ليست حمام دم، على حدّ تعبير روزا لوكسمبورغ في رسالتها الشهيرة إلى لينين، والعنف سيلوّث المبادئ الإنسانية.
الشجاعة فضيلة من فضائل القلب الحرّ، أمّا العنف والقسوة وإرهاب الآخر، فتلك من صفات الشر، ولا علاقة لها بالشجاعة، والشر عمل جبان ومن يقوم به كذلك، ومن يمارس العنف لإرغام خصمه أو عدوّه على الإذعان، فإنه يمارسه بحقّ نفسه أيضًا، أي بانتزاع ما تبقّى من إنسانيته.
بالمحصلّة أستطيع القول، لم تقدّم تلك الأعمال الإرهابية أية خدمة للفلسطينيين، وحتى بعض الأعمال العنفية، مثل خطف الطائرات أو غيرها، التي التجأ إليها المناضل وديع حداد، فإنها كانت محدودة وليست ضدّ الفلسطينيين، وهدفها إلفات نظر العالم للقضية الفلسطينية بتعريض الرأي العام العالمي للصدمة، بعد خمول وطغيان القوّة، في ظرف عربي وإقليمي ودولي لم يكن مؤاتيًا حينها، ومع ذلك تخلّت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عن هذا الأسلوب، ولم تعد تلجأ إليه. وبالطبع لا علاقة لتلك الأعمال بالعنف الثوري. وتكرّست أعمال المنظمات الفلسطينية، فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والقيادة العامة وجبهة النضال الشعبي وحماس والجهاد وغيرها، في الكفاح ضدّ العدو الصهيوني، باستخدام جميع أساليب النضال، من أبسطها حتى أرقاها ضمن إطار مشروع قانوني حقوقي.
المقاومة والإرهاب
لم يكن القصد من فتح ملف “الإرهاب والإرهاب الدولي” هو الإدانة وحسب، بل التفريق بين الإرهاب والمقاومة، وهو ما حرص الكاتب على إبرازه في فصل خاص ألحقه بالكتاب، ويتألف من 45 صفحة، تحدّث فيه عن الإرهاب الفردي والإرهاب الجماعي ومافيا الفكر والإرهاب الإعلامي والمعاهد المتخصصة للدعاية والتضليل، حيث القاعدة في العدالة بالحق وليست بالقوّة في إطار مناظرات فقهيّة بينهما.
حين تتمكّن فكرة ما، حتى وإن كانت نبيلة، من عقل إنسان فتصيبه بالتعصّب، ووليده التطرف بالانتقال من التفكير إلى التنفيذ، وإذا ما صارت سلوكًا، سيتحوّل إلى عنف، وإذا ما ضرب عشوائيًا يصبح إرهابًا، وتلك الحالة تُعطي لصاحبها الحقّ في ممارسة كلّ ما هو محظور بزعم امتلاك الحقيقة وادّعاء الأفضليات، فحتى أكثر الأفكار إنسانيةً، بما فيها العقائد الدينية، فإنها لا تعصم من ارتكاب الجريمة، فما بالك حين يُصبح العنف والإرهاب نظرية عمل وليس وسيلة لتحقيق غاية، فالغاية الشريفة تحتاج إلى وسائل شريفة لتحقيقها، والوسيلة من شرف الغاية، مثل البذرة إلى الشجرة، حسب المهاتما غاندي.
لقد عيّر أبو نضال باتريك سيل بأصله اليهودي وفكره الصهيوني، علمًا بأن الرجل أسلم وتزوّج من الشاعرة السورية رنا قبّاني، لمجرّد أنه حاول تناول سيرته، وحاول حنّا مقبل، الأمين العام لاتحاد الصحفيين العرب، منذ العام 1979، الاقتراب من تدوين سيرة جماعة أبو نضال، فلقى مصرعه في قبرص (أيار / مايو 1984)، وكان ثمة شبهات حامت حول جماعة أبو نضال في مقتله.
أما ميشيل النمري أحد مؤسسي رابطة الكتاب الأردنيين ورئيس تحرير مجلة الموقف العربي، وصاحب نشرة “النشرة”، فقد قتل هو الآخر، لمجرد اقترابه من تناول الظاهرة الإرهابية.
مثلما اغتيل يوسف السباعي وزير الثقافة المصري الأسبق، وأمين عام منظمة التضامن الأفروآسيوي من ذات الجماعة، والمبرّرات متوفّرة وكثيرة، وكنت قد رويت ذلك في حواراتي المنشورة مع نوري عبد الرزاق في جريدة الزمان (3 حلقات في 30 و 31 ديسمبر / كانون الأول 2019 و 2 كانون الثاني / يناير 2020).
لا توجد عملية كبرى ضدّ العدو الصهيوني باستثناء محاولة اغتيال شلومو آرجون، السفير “الإسرائيلي” في لندن في حزيران / يونيو 1982، التي اعتُبرت إحدى ذرائع العدوان “الإسرائيلي” لاجتياح لبنان، ومحاصرة العاصمة بيروت، وعدا ذلك فغالبية العمليات كانت ضدّ الخصوم الفلسطينيين والعرب، ولتصفية بعض الحسابات السياسية، بعضها لصالح الغير.
مع عاطف أبو بكر: في النقد والنقد الذاتي
حين عرفت أن عاطف أبو بكر جاء إلى الشام للالتحاق بفتح الانتفاضة، تاركًا موقعه كسفير في م.ت. ف، قلت له وما الفرق بينهما، أليست بضعة شعارات؟ فحاول إظهار تبرّمه وضيقه من بعض الممارسات في (فتح)، لكن العلاقة مع فتح الانتفاضة في سوريا لم تدم سوى بضعة أشهر.
بعدها فاتحني بمشروعه الخاص، وأعني به بالالتحاق بأبي نضال في دمشق، ويبدو أنه كان قد قرّر ذلك، قلت له بطريقة لا تخلو من استفزاز صادم وبطريقة صداقية: شاعر وإرهابي؟ لم يقبل منّي هذا الكلام، وكنت أقصد أن الصفة الغالبة على التنظيم هي كذلك، وهو سؤال أعدته عليه ضمن حواراتي معه في الكتاب، بل ذهبت أكثر من ذلك، حين قُلت له، كيف امتدح أبو نضال بقصيدة؟ قال: هي قصيدة بعنوان “النفي الفلسطيني”، وهي تتحدّث عن الثوابت، فقلت له: وماذا تقصد بقصيدتك المهداة إلى وفاء نور الدين “أتيتك والفؤاد يطير شوقًا”، وهي منشورة في ديوان “الفتح نحن“.
فهذا الفارس المقدام حزبي … وتحت لوائه اخترت انضوائي
فقال في الشعر رمزيات ووجدانيات عليك أن تحسبها لمن تريد. ثم أشار إلى أنه أهدى دواوينه لإبنته “فرح” وللأطفال عمومًا، وإحدى القصائد أهديتها إلى ابنتي وابنته كطفلين، كما قال.
كنت أشعر أن وجوده مع “الجماعة” خيار خاطئ في الوقت الخاطئ، وهو خطأ استراتيجي صميمي بلا أدنى شك، وهو ما قدّم نقدًا ذاتيًا جريئًا بشأنه، وإنْ بدا واثقًا في أيامه الأولى، لكنه كان قلقًا ومهمومًا، بل أن الكدر تسرّب إليه قبل مغادرته الشام، فخياره جاء خارج السياق الذي اختطّه لنفسه، وقد حاولت مرّة فتح هذا الحديث معه أمام الرفيق عامر عبد الله، وفي منزل الأخير، وهو ما حاول تبريره بمساعيه تحويل الجماعة إلى تنظيم سياسي، فسأله حينها عامر عبد الله: ولكن ماذا سيقول صاحبكم؟ لقد اعتاد على التخفّي والعمل السرّي، وهو مطلوب، وسيظلّ إلى آخر يوم في حياته كذلك.
شهية القارئ
أعود إلى ما كتبه أحمد عبد المجيد فإنه فتح شهية القارئ، وذلك هو عين ما أسعى إليه بهدف إماطة اللثام عن الخفايا والخبايا. وحاولت تفكيك الظاهرة لدراستها دفاعًا عن المقاومة وما لحق بها من ترّهات استغلت تشويهها، وآن الأوان لنفصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود.
أعتقد أن خروج عاطف من فتح والخلاف مع عرفات، ومن ثم الاحباط الذي أصابه مع فتح الانتفاضة، هو الذي دفعه وتحت ضغوط مختلفة للانضمام إلى “الجماعة” كما يسميها، وكنت قد سألته: هل دفعك اليأس لتتحالف مع بندقية، أو تجمع الثقافة والشعر والديبلوماسية مع العنف؟
كان جوابه جريئًا كعهدي به: تلك الفترة غير مدروسة بشكل كامل، فيها الكثير من التسرّع وعدم التمحيص، وضبابية الرؤية المستقبلية، وكان ذلك خطاً كبيرًا.
لقد أراد من خلال نقده الذاتي أن يطهّر ضميره، وتحمّل بسبب ذلك كلّ تلك العذابات، قانعًا بنصيبه من الحياة، ليس عابئًا بشيء سوى تشبّثه بالحقيقة.
نشرت في جريدة الزمان (العراقية) في 16 أيار / مايو 2023.