هل كان الصراع العثماني الأوروبي دينيا فقط؟
علاء اللامي*
لماذا تدخلت أوروبا مرتين لإنقاذ عدوتها “الدينية المفترضة” الدولة العثمانية من السقوط بعد هزيمتها العسكرية أمام مصر محمد علي باشا، ثم تدخلت ثالثةً لإنقاذ حكم حفيد محمد علي (الخديوي توفيق) من ثورة أحمد عرابي ووضعت مصر تحت الحماية البريطانية. عن هذه المحطات التأريخية الكبرى التي ربما يجهلها البعض أدرج أدناه الخلاصات التالية من أكثر من مصدر:
*اسمه الكامل محمد علي باشا المسعود بن إبراهيم آغا القوللين، من بلدة “قولة” التابعة لمحافظة مقدونيا شمال اليونان عام 1769، ومن أسرة ألبانية. (ادعى آخر ملوك هذه الأسرة الألبانية وهو فاروق نسبا هاشميا حسينياً وفق ما جاء في بيان نقابة الأشراف برئاسة “محمد الببلاوى”، المنشور في صحيفة الأهرام بتاريخ 6 أيار/مايو 1952، وهو ادعاء لم يؤكده طرف آخر). بدأ محمد علي حياته عسكرياً بسيطاً، لم يكن يتكلم غير اللغة الألبانية وشيئا من التركية، ضمن قوة “المتطوعين” الذين أجبرت المدن التابعة للسلطنة العثمانية – ومنها الألبانية – على تقديمهم عقب غزو نابليون لمصر في عام 1799، ثم عُين محمد علي قائدا مساعدا لهذه المفرزة المؤلفة من مئات الجنود. ولكنه برز سريعاً بفضل كفاءته وبراعته وشجاعته وترقى في السلم الوظيفي العسكري. في عام 1802 عُين محمد علي رئيسا لجميع الوحدات الألبانية في الجيش العثماني حتى هزيمة نابليون وانسحاب حملته من مصر إثر ثورة المصريين في 21 أكتوبر 1798، وبعد هزيمة نابليون أمام أسوار عكا وتحت الضغط البحري البريطاني المنافس.
*في مارس 1804، عيَّن الباب العالي والٍ عثماني جديد يدعى «أحمد خورشيد باشا»، الذي استشعر خطورة محمد علي وفرقته الألبانية، فتمكن الوالي من إجلاء المماليك إلى خارج القاهرة، وطلب من محمد علي التوجه إلى الصعيد لقتال المماليك، وأرسل إلى الآستانة طالباً بأن تمده بجيش من “الدلاة” وهم قوة من الجنود الأكراد ضمن الجيش العثماني عرفت بالبسالة والتهور والقسوة ولذلك أطلق عليهم اسم الدلاة أي “المجانين”. وما أن وصل هذا الجيش حتى عاث في القاهرة فساداً ما أثار غضب الشعب، وطالب زعماؤه الوالي خورشيد باشا بكبح جماح تلك القوات، ولكنه فشل في ذلك، فاشتعلت انتفاضة شعبية أدت إلى عزل الوالي العثماني، واختار زعماء الشعب بقيادة عمر مكرم -نقيب الأشراف- محمد علي ليجلس محله. وفي 9 يوليو 1805، وأمام حكم الأمر الواقع، أصدر السلطان العثماني سليم الثالث فرماناً سلطانياً بعزل خورشيد باشا من ولاية مصر، وتولية محمد علي على مصر. اتبع محمد علي منذ الأيام الأولى من حكمه سياسة مستقلة، ولم ينسق قراراته مع اسطنبول.
*ظهر البريطانيون في مارس عام 1807 في حملة عسكرية قادها الجنرال ألكسندر ماكنزي بقوة قوامها 6000 عسكري أمام السواحل المصرية وتمكن من احتلال الإسكندرية، إلا أن محمد علي صد البريطانيين بهجوم مضاد وأجبرهم على الجلاء عن مصر.
*بعد أن ثبت أركان حكمه، شرع محمد علي في إصلاح الدولة، وبدأ بمساعدة ضباط أجانب في تحديث الجيش المصري، وتخلى عن التقاليد العسكرية القديمة التي اتبعها المماليك، وأعاد تشكيل قوات المشاة والمدفعية وجهزها بأسلحة حديثة، ومضى أبعد ببناء أسطول بحري قتالي.
*على خلفية تمرد بقايا الماليك على الإصلاحات الجارية وحرمانهم من امتيازاتهم، لم يتردد محمد علي في القضاء على تلك البقايا في ما عرف بمذبحة القلعة (سنة 1811 وقُتل فيها 470 مملوكاً) وعزز سلطاته بإنهاء الحكم المملوكي لمصر إلى الأبد.
*في عام 1831 شنَّ الجيش المصري بأمر من محمد علي حربا ضد السلطان العثماني، وزحف شمالا وسيطر على سوريا الغربية (وكانت تشمل لبنان الحالي، ومعه فلسطين والأردن)، وعبر الجيش المصري الأناضول وهدد بشكل مباشر القسطنطينية، إلا أن القوى الأوروبية ضغطت على محمد علي باشا وأجبرته على التراجع.
*بعد محاولة عثمانية فاشلة لاستعادة السيطرة على سوريا في عام 1839، أرسل محمد علي باشا حملة عسكرية جديدة ضد الدولة العثمانية في عام 1840، وهزم قواتها وانفتح الطريق أمامه رحباً للتقدم إلى القسطنطينية. وهذه المرة أيضا لم ينقذ الدولة العثمانية من السقوط في قبضة الجيش المصري إلا تدخل بريطانيا والنمسا. حيث قطعت الدولتان اتصالات الجيش المصري البرية والبحرية في خريف عام 1840، واستولى البريطانيون على بيروت وعكا، وأجبر محمد علي بموجب اتفاقية وقعت في 13 تموز /يوليو 1841 على إعادة معظم الأراضي في سوريا إلى الدولة العثمانية، إضافة إلى الأسطول العثماني الذي كان قد انشق في السابق وانضم إلى الجيش المصري. وتعرف هذه الاتفاقية باتفاقية المضائق بين (فرنسا وانكلترة والنمسا وبروسيا) والدولة العثمانية. وقد “تطورت اتفاقية المضائق كوسيلة لحماية الدولة العثمانية من الانهيار. فمصر في ذلك الوقت، بقيادة محمد علي باشا، ثارت على الدولة العثمانية. وقرر القيصر الروسي، نيقولاي الأول، أن سقوط العثمانيين سيكون كارثياً/ اتفاقية المضائق في “موسوعة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المعاصر“.
*ثم تدخلت بريطانيا للمرة الثالثة وأنقذت حكم الخديوي توفيق من انتفاضة الجيش المصري الاستقلالية بقيادة أحمد عرابي وعززت حكم الخديوي ووضعته تحت حمايتها ووصايتها بعد هزيمة عرابي في معركة التل الكبير في 13 أيلول /سبتمبر عام 1882، وعززت سيطرة الخديوي توفيق مرة أخرى من الإنجليز بعد هزيمة الجيش المصري.
*بعد أن تمكنت أوروبا من انتزاع مخالب وأنياب محمد علي تركت له ولخلفائه حكم مصر والسودان وراثيا، وبقيت سلالة الخديوي في سدة الحكم حتى عام 1952، حين أطاحت حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بالملك فاروق، وتأسست جمهورية مصر.
*السؤال المركزي هو، هل كان هذا الصراع صراعاً دينياً كما يزعم البعض، فلماذا إذن تدخلت أوروبا في كل مرة نشأت فيها حالة حكم استقلالي في العالم العربي، ووقفت ضد انتصار الدولة المصرية الوليدة والمتمردة على العثمانيين الذين يزعم الخطاب السياسي الرسمي للطرفين أنهما (أوروبا والدولة العثمانية) عدوان تقليديان وتاريخيان دينياً، ثم وقفت – بريطانيا – ضد انتفاضة أحمد عرابي وأنقذت حكم حفيد محمد علي، الخديوي توفيق، ووضعت مصر تحت الوصاية البريطانية ثم تتالت التدخلات اللاحقة وصولا إلى العدوان الثلاثي سنة 1956 ضد مصر الجمهورية وما بعده؟
*هذا السؤال قد يبدو نافلا ولا يحتاج إلى جواب سريع ومختصر بل إلى تفكير طويل مشفوع بالممارسة الاستقلالية المقاوِمة للغرب الإمبريالي وإلا فلن تقوم قائمة لأي محاولة استقلالية “سياسية أو اقتصادية أو ثقافية” في المنطقة العربية كلها.
تلك هي حكمة التاريخ وخلاصة تفاصيل العلاقة الصراعية العنيفة، ذات الأساس الجغراسياسي والاقتصادي، بين ضفتي البحر المتوسط، الجنوبية الشرقية العربية والشمالية الأوروبية في القرنين الماضيين وقبلها دارت تجارب استقلالية مشرقية مشابهة بين هاتين الضفتين، أقدم عهداً وتمتد إلى العهود الوثنية كما هي الحال في الحروب البونيقية الثلاث بين روما الإمبراطورية وقرطاجنة الفينيقية الساعية إلى الاستقلال. لقد اختتمت تلك الحروب بهزيمة حنة بعل (247 ق.م) وتدمير قرطاجنة من قبل الجيوش الرومانية التي رفعت شعار “قرطاجنة يجب أن تزول إلى الأبد”، وبعد ذلك في تجربة دولة زنوبيا (272م) في تدمر الوثنية الآرامية، والتي انتهت بدورها نهاية مأساوية بسيوف جيوش الإمبراطور الروماني أورليان وماتت زنوبيا أسيرة في روما حسب بعض الروايات، ولكن تدمر انتفضت في ثورة عارمة بعد عام واحد فعادت إليها جيوش أورليان ودمرتها تماما. ولكن نزوع الدويلات العربية لم ينته، وتوِّج بحرب الفتح والتحرير العربية الإسلامية وتم تحرير العراق وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا في القرن السابع الميلادي، لتبدأ صفحات أخرى من الصراع بين ضفتي المتوسط وما تزال تترى فصولا حتى يومنا هذا!