الدفاتر المنسية: كيف تخيل حيدر حيدر المدينة العربية؟
أثار خبر رحيل الروائي السوري حيدر حيدر قبل عدة أيام، نقاشا واسعا بين المثقفين، لاسيما السوريين، حول نتاج الرجل وأيديولوجيته وعلاقته بالأحداث الراهنة. سرعان ما أخذ البعض يقتبس من بعض رواياته جملاً وعبارات توحي، بموقف سلبي من حيدر تجاه بعض المدن، مثل مدينة دمشق. ومن خلال هذه الصور هناك من حاول القول، إن ابن قرية حصين البحر في مدينة طرطوس (حيدر) يتفاخر بقدوم أبناء الجبل (العلويين) إلى دمشق وسيطرتهم عليها. وتكمن الإشكالية في هذا التحليل أنه نسي في المقابل، أنّ هذا الروائي كان قد عبّر عن موقف صلب من البعث والقيادات العلوية، التي حكمت البلاد لاحقا، وهذا الموقف جعله يعيش في الغربة في ظروف سيئة للغاية (من السبعينيات إلى قرابة وسط الثمانينيات).
مقابل هذه الصورة، هناك من قال، حتى لو أنّ حيدر حيدر لم يتوافق مع حافظ الأسد في لحظة ما، فإن موقفه الطائفي ظل يشكل الهاجس الذي يصنع عالمه الروائي. وفي هذا العالم يبدو الإسلام هو المشكلة، ويبدو أنه لا نهضة ثانية إلا بتدميره هو ورموزه. سيلاحظ المطّلع على نصوص حيدر هذا الموقف السلبي تجاه الظاهرة الدينية عموما (السنية) وحتى العلوية (هذا ما نراه مثلا في رواية «شموس الغجر»).
وربما من الأشياء التي قد تفيد في فهم تفاصيل أكثر عن رؤية حيدر حيدر للمدينة العربية (السورية) بالأخص، هي اليوميات التي نشرها في سنواته الأخيرة تحت عنوان «يوميات الضوء والمنفى». وهي يوميات ظلت بعيدة عن النقاش في الأيام الأخيرة. ولذلك يشكّل الاطلاع عليها فرصة لإعادة التعرف أكثر على كيفية تخيل هذا الروائي للمدينة من ناحية، وأيضا كيفية تشكّل رؤيته للإسلام المعاصر وأزماته، وبالأخص بعد إقامته في الجزائر لسنوات.
يوميات منسية:
في هذه اليوميات المنشورة حديثا، يذكر لنا حيدر أنها كانت مكونة من خمسة دفاتر صغيرة، ظلت لسنوات طويلة مهملة في أحد الصناديق، وربما كانت ستتلف لولا نصيحة زوجته بضرورة إعادة نشرها. وتضمّ هذه الدفاتر يوميات متناثرة كتبها تقريبا منذ فترة 1965 إلى 1986، وبالتالي فأهميتها أنها لم تكتب اليوم، أو تعبر عن ذاكرة الرجل في أيامه الأخيرة تجاه رحلته الحياتية والثقافية، بل هذه اليوميات أكثر ارتباطا بالماضي كونها كتبت في ذلك الزمن، ولذلك فهي تشكل اليوم مصدرا جديدا للباحثين في نتاج هذا الروائي، للتعرف أكثر على التجارب اليومية والدوافع الأيديولوجية والمراجع التي ساقته لكتابة بعض الروايات مثل «وليمة لأعشاب البحر».
ومما يذكره في هذا السياق، أنه لم يتدخل كثيرا في إعادة تحرير هذه المواد، إلا قيامه أحيانا بحذف بعض التفاصيل (وليته لم يفعل). لا يذكر لنا في الفصل الأول (مرحلة الطفولة) متى كتب هذه اليوميات، خلافا لباقي اليوميات، لكن هناك إشارة في المقدمة إلى كونه كتبها وهو في الجزائر (أي في السبعينيات). ولعل اختياره تقديمها على يوميات أقدم، جاء من باب الإجابة عن ذكريات الطفولة التي ظلت تلاحقه في غالب رواياته تقريبا. هنا سيحدثنا عن والده الذي كان مهووسا كما يقول بتلاوة القرآن صباحا ومساء، كما كان يقرأ باستمرار كتاب «الانقلاب العثماني» عن السلطان عبد الحميد وكان معجبا بالدستوريين العثمانيين وعلى رأسهم مدحت باشا.
يبدو الأب مثقفاً على صعيد القرية، فهو يقرأ القرآن وشعر الصوفيين كابن الفارض وابن عربي، وفي الليل كان يسكر ثم يندفع أحيانا إلى «ساحة القرية شاتما الشيوخ وطغاة الأسر الثرية المستترين بالدين والذين يبتزون فقراء الفلاحين». ومما يذكره عن ماضيه، أنه كان من المحظوظين الذين اتيحت لهم فرصة التعلم في مدينة طرطوس الساحلية. سيعيد في هذه المقدمة تقديم وصف شبيه للأوصاف التي أطلقها على مدينة دمشق لاحقا (في زمن الموحشين). مما يقوله «على أبواب المدن تنتهي حدود البراري، ينتهي عالم الحرية ليبدأ عالم السجن والخوف والتدجين». وفي مكان آخر نرى تصوّرا أو هجاء لفكرة المدينة، فالمدينة السورية كما يعتقد بقيت ترى في الريفيين غرباء متوحشين «قدموا لغزو المملكة المقدسة، النظيفة والمنظمة». لكن قبل الحكم على هذه الصورة وكيف اقتبسها، نرى من الضرورة السير أكثر في يومياته لنتعرف أكثر على رؤيته، أو كيف تخيل المدينة (دمشق بالأخص).
ويبدو أن هناك توترا أحيانا بين فانون وحيدر، ففانون من ناحية لا يرسم لنا صورة واضحة عن مجتمع ما قبل الكولونيالية، وثانيا يرى أنّ العودة التي يقوم بها المحلي للتراث والماضي، ناجمة بالأساس عن تأثر بالرؤية الكولونيالية المانوية، وفق تعبيره.
في يومياته التي دونها في عام 6/1965، تبدو دمشق مدينة حزينة بلا مستقبل «الليل والقلب والأماكن الصغيرة والإنسان الذي لا مستقبل له». يبدو في هذه المدينة غريبا (صديق واحد يلتقي به فقط)، ولا نعثر على أي تفاصيل تتعلّق بالمدينة، مما تتكون، حال الناس والبشر وفضاءاتها. كل ما نراه نقد للمجتمع الدمشقي، الذي يبدو أنه مجتمع محافظ. ومع أنه لا يذكر هذه العبارة صراحة، إلا أنّ هناك ما يشير لذلك عندما يكتب: «فالأخلاق السائدة حتى الآن والمتبناة رسميا وقانونيا هي أخلاق دينية متوارثة قاصرة ومشحونة بالاضطهاد والخراب النفسي». وربما في هذا التخيّل للمدينة وأهلها ما يذكرنا بقراءات بعض السوسيولوجيين (أرنست غلنر) الذين وجدوا أنه مع انتصار الدولة القومية كان الإسلام الصوفي يعلن عن هزيمته لصالح الإسلام المحافظ/العقلاني، الذي يعبر عن السوق ومصالحه. وفي رأي حيدر، فهذا الإسلام يبدو أنه كان يشكّل أحد عناصر الأزمة (إضافة الى الرفاق الحزبيين) ويعيق أي تطور. وبالمناسبة هذا رأي لم يكن يختص به حيدر فحسب، بل الكثير من المثقفين من أبناء جيله اليساريين. ومع تقدّم اليوميات (وبالأخص بعد هزيمة حزيران/يونيو)، نعثر على صورة أخرى من مشهد المدينة، وهي صورة العسكر البورجوازيين الذين تحالفوا في الغالب مع المحافظين والكولونيالية. وكما ذكرنا، فإنّ يومياته بقيت متناثرة وتنقطع في مرات عديدة، ليستأنفها لاحقا مع ذهابه للجزائر 1973. لكن لو حاولنا استكمال الصورة التي تخيلها عن المدينة، في غياب يوميات أوسع، يمكن القول إنّ روايته «زمن الموحشين» تبدو بعد قراءة اليوميات وكأنها استكمال لها. في هذا النص، تظهر مدينة دمشق على لسان أحد أبطالها بوصفها مدينة ألف ليلة وليلة. وهذا الوصف ليس بالضرورة أمرا سلبيا أو تصورا استشراقيا، فعالم ألف ليلة وليلة كما رسمه لنا مثلا محسن الموسوي في كتابه «الذاكرة الشعبية لمجتمعات ألف ليلة وليلة» معقد، لا يضم صورا عن الجنس فحسب، بل أيضا صورا عن العامة وهم يواجهون السلطة، وصورا أخرى عن الأسواق وحياة التجار، والحياة اليومية، والدين والنخب. مع ذلك لا يلتفت حيدر لكل حيوات الأبطال السابقين، وإنما يفضّل النظر للمدينة بوصفها، ككثير من مدن العالم، عمارات من حجر وشوارع يعبرها الناس والسيارات. وفي الوقت الذي كان فيه اليساري الفرنسي هنري لوفيفر يدعو إلى الحق في الدفاع عن المدينة (1967) من خلال النظر إلى سكان الحضر، وليس فقط عمال المصانع أو الفلاحين كأداة للتغيير الثوري، تبدو المدينة وفق القاموس اليساري التقليدي لحيدر مدينة عبودية، تسوقك من بوابة البيت إلى مستنقع الوظيفة، مدينة قذرة، محملة بالأمتعة، وسراب ملطخ بالدمقس والبروكار، والانقلابات التي تركب قطار الثورات. وبالتالي وفق هذه الصورة، نحن أمام مدينة لا هم لأهلها سوى البيع والشراء، لا نعرف أكثر عن جماعاتها وأفرادها وحياتهم، هم إما محافظون أو بائعات هوى، ولا يمكن التحالف معهم لإعادة تشكيل المدينة وفق تعبير لوفيفر.
أعشاب فانون:
وبالعودة إلى يومياته التي توقّفت عند رحلة الجزائر (مدينة عنابة) في تدريس اللغة العربية ضمن حملة تعريب الجزائر، يمكن القول إن هذه اليوميات تكشف لنا عن جانب آخر من وقائع وأفكار لعبت دورا أساسيا في تشكيل عالم «وليمة لأعشاب البحر»، وبالأخص تصويره للإسلام المعاصر. وهنا سيظهر فرانز فانون كبطل بديل بعد أن يئس من قادة الثورات في المشرق. كان فانون قد عيّن في عام 1953 في مستشفى بليدة جونيفيل (الجزائر)، وقد حاول خلال فترة تعيينه تطبيق بعض مبادئ العلاج النفسي المؤسسي على الجزائريين. لا يذكر لنا حيدر حيدر، أي الكتب التي قرأها لفانون (ولعله كتاب معذبو الأرض، لأن كتابه الآخر بشرة سمراء لم يكن قد ترجم بعد)، ويبدو أنّه تأثر به كثيرا، وهو تأثر لم يصرّح به بالضرورة. كان فانون قد حذّر من أنّ بداية إزالة الاستعمار تجلب معها تناقضات، في الأحزاب الإصلاحية والطبقات الجديدة تضع عقبات، وبدلا من تشجيع التغيير الاجتماعي الحقيقي، تعمل الخطابات والرموز العنيفة، بوصفها نوعا جديدا من تحويل الطاقة، ولذلك كان فانون يعتقد أنّ التمسك بالتقاليد بدعوى أنها تمثّل الهوية الأصلية هي رؤية كولونيالية، وأنّ الثورة لا تستطيع أن تستمدّ أشعارها من الماضي، بل من المستقبل.
هذا المخيال الفانوني، هو الذي سيتقمصه حيدر (أحيانا حرفيا) لفهم المدينة والإسلام في زمن ما بعد الكولونيالية للجزائر. ما سيلفت نظره أنّ الثورة الجزائرية، التي قدّمت مليون شهيد لم تتمكن من خلق مدرسة علمية متطورة في مستوى الثورة. ففي المدرسة التي درّس فيها كانت السلطة الوطنية تقوم بتكريس التراث القديم منبعا لما سمته الأصالة. وظهر واضحا أنّ ما كان تكتيكا إبان حرب التحرير قد تكرّس استراتيجيا، والأساس الذي أرسته جمعية العلماء المسلمين كرادع في وجه ما سمته الاستعمار الفرنسي المسيحي، أصبح هو المضمون الفكري السائد بعد الاستقلال. هذا التحليل الفانوني للإسلام الجزائري بعد الاستقلال ونكوصه هو الذي سيصنع تفاصيل واسعة من هيكل روايته «وليمة لأعشاب البحر»، إذ سيكتب لاحقا في إحدى يومياته البيروتية عام 1978 «أكتب للمرة الثالثة رواية وليمة لأعشاب البحر. اعتقد أنني سأكتبها للمرة الرابعة والخامسة ستلزمها سنة خامسة على ما أعتقد. فلة بوعناب المومس. هي ليست عاهرة، هم الذين عهّروها. كانت مناضلة نشيطة ومفعمة بالأمل، ولكنها سقطت في فخ جسدها.. هم قتلوا مواكبها.. هذا هو الاستعمار الحقيقي» في إشارة لفكرة فانون حول الكولونيالية الذاتية التي يصنعها المستعمر من حوله ظنا بذلك أنه ينتصر على الكولونيالية.
ويبدو أن هناك توترا أحيانا بين فانون وحيدر، ففانون من ناحية لا يرسم لنا صورة واضحة عن مجتمع ما قبل الكولونيالية، وثانيا يرى أنّ العودة التي يقوم بها المحلي للتراث والماضي، ناجمة بالأساس عن تأثر بالرؤية الكولونيالية المانوية، وفق تعبيره. في المقابل نرى حيدر منحازا أكثر لأرومته اليسارية التقليدية، فهو يرى أنّ هذا الانغلاق ليس وليد الكولونيالية، بل يعود إلى زمن الإسلام الأول. هنا تبدو الاستمرارية التاريخية متصلة الحلقات، بين الدين كثورة بورجوازية، كما يقول، لصغار التجار قادها النبي محمد ضد كبار تجار مكة، وهذه البورجوازيات المعاصرة النازعة نحو نوع من الإصلاحات الاجتماعية المحافظة. والنتيجة أنّ المدينة العربية التي تخيلها حيدر لن تنهض، لأنها ظلت تنحاز للعالم القديم، دون أن تتمكن من فتح أبواب جديدة للإبداع.
كاتب سوري