د. يوُسُف سَلامَة عَلَى دَربِ الكبير طه حُسين يَحثُّ الخُطى
(بورك من جمع بين همة الشباب وحكمة الشيوخ) طه حُسين
يَحيَى غَازِي الأَمِيرِيِّ
مِنْ حَافظةِ الذاكرةِ المُتوقِّدةِ المُتوهِّجة وَبصوتٍ وَاثقٍ خَفيضٍ يَستلُّ سَيلَ كلماته المُتَّزنة، وَهو يَروِي للحضورِ الذِي حَضَرَ لقاعةِ الأمسيَّةِ، كانَ حديثهُ المُسترسِل السَّلِس بالضَّبطِ متطابقٍ كما جاء في وصفِ الإعلان التعريفي بالأمسية (لقاء مع البرفسور د. يوسف سلامة في حوارٍ من القلبِ، حديث وجداني عَنْ الإنسان الداخلي وبعض من ذاكرة وحنين وحكايا نسمعها أول مرة)
بكلماتٍ شَفيفةٍ رَقيقةٍ رَشِيقةٍ رَحبتْ، مديرة أدارة الجلسة وَالحوار الأستاذة (ندى العلي) بالحضور الكريم وبالمحتفى به البرفسور الدكتور (يُوسف سَلامة) معلنة عن بدأ الأمسية ومحاورها، معرفة بالضيف المحتفى به: كاتب فلسطيني/ سوري / أستاذ الفلسفة الغربية المعاصرة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق من عام (1998 حتى 2011). رئيس تحرير مجلة (قلمون)المحكمة، له عدد كبير من الدراسات والبحوث والمؤلفات والمحاضرات المنشورة.
ثم تم عرض فيلم وثائقي عن حياته، تخللته شهادات حية لبعض من طلابه به وبأسلوبه في طريقة التدريس، وأخر محطات حياته حيث يحط فيه الرحال والترحال لاجئ في (مملكة السويد) مقيم في (مدينة مالمو) مع زوجته الكاتبة والناشطة الست (وفاء أحمد سليمان) وعائلته.
بودٍ طلبَ منها الدكتور (يُوسف سَلامة) الحديث للتوضيح أن حديثه هذه الأمسية سيكون بعيداً عن الفلسفة ومحاضراتها، سيكون حديثاً أخوياً عفوياً عَنْ بعضٍ مِنْ مَراحلِ حياته.
كانَ السؤالُ الأول الذي طلبت مديرة الجلسة الست (ندى العلي) أن يحدثنا عنه ضيف الأمسية، الولادة والنشأة …
من مواليد (فلسطين / قرية أم الزينات/حيفا/ التي تقع على سفح جبل الكرمل) بعمر حوالي (3) سنوات بدأت رحلة حياته مع عائلته في مخيمات للاجئين في سوريا…. حدثنا بألمٍ وأسى عَنْ حياةِ المخيماتِ معرفاً اياهُ (المُخيمُ لا وجود) وَ (المُخيمُ بؤس عظيم) أو واصفاً المُخيم كما يقولُ المفكر الأستاذ (إدورد سعيد 1935- ت 2003م): (جرحٌ فِي القلبِ، جرحٌ فِي الذاكرةِ).
ثمَ استطرد يحدثنا بألمٍ من لغةِ الذاكرة البعيدة: (لَمْ أذهبْ مع الأولاد الذين بعمري للمدرسة عندما كبرت وأصبحت بعمر المدرسة، كنت أشعر بالعذاب والألم جميع الأطفال في المدرسة وأنا قعيد الدار أعمى) …حدثنا كيف كان يلعب أحياناً مع الأطفال الذين بعمره بالشارع.
وفي البيت كنت استيقظ مع (والدي) مبكراً من الصباح وأسمعه وهو يقرأ (القرآن) وكذلك أسمعه عند عودته من العمل وهو يقرأ (القرآن)في المساء من خلال هذه الفترة حفظت أجزاء كبيرة من (القرآن)…
عندما أدخلوا طريقة (برايل) لتعليم المكفوفين في سوريا، دخلت مدرسة المكفوفين للتعلم وأنا بعمر حوالي (14/15) عاماً… خلال فترة قصيرة جداً تعلمت؛ خلال سنتين أكملت الصف (التاسع) وأدركت زملائي والتحقت بالثانوية!
أخذت البكلوريا بشكل نظامي، (أمي) كانت تشجعني وتدعمني على إتمام دراستي الجامعية، فيما كان أبي يفضل أن أصبح (شيخاً) أو أذهب للتعلم بالأزهر، سمعت كلام (أمي) وتشجيعها!
وسألته مرة أخرى الست (ندى العلي) عن المرحلة الأخرى من مراحل حياته الدراسة الجامعية، فحدثنا عن كثيرٍ من المواقفِ والمحطات فيها … ومنها:
(بليتُ بلاءً حسناً في الجامعةِ وحصلتُ عَلَى المرتبةِ الأولى … وحصلتُ عَلَى بعثةٍ دراسيةٍ للدكتوراه!
حَدثنا عن طريقةِ تعلمه في الجامعة والصعوبات الكبيرة والكثيرة التي كانتْ تقفُ امامه، لكن صبره وطموحه وإيجابية تفكيره ابتكر لنفسه عدة طرق ليتعلم.
كان خيار الدراسة العليا أما الموسيقى أو الفلسفة.
(أبليتُ بلاءً حسناً في دراسةِ الموسيقى… دَرستُ ما استطعت عن الموسيقى، درستُ الموسيقى الشرقية والغربية، وأطلعت على تاريخ الموسيقى، فحصلت في (السبعينات) على منحة دراسية لدراسة الفلسفة في (القاهرة / جمهورية مصر العربية) فتركت الموسيقى وذهبت لدراسة الفلسفة، والتي تتطلب ضمن دراستها دراسة اللغات الأجنبية فدرستُ اللغة الفرنسية والإنكليزية والألمانية …)
خلالَ حديثه الشيق والمتميز، سَرحتُ محلقاً بعيداً جداً رحتُ أقارن بين هذا الرجل الوقور الجالس أمامنا وهو يحدثنا عن تجربته الفريدة المثيرة.
طفلٌ صَغيرٌ مُهجرٌ نازحٌ معَ عائلتهِ مِنْ قرية (أم الزينات) الفلسطينية لتتلقفهُ أهوال العيش في المخيماتِ وَمعها تصيبهُ مصيبةٌ (آفة العمى).
كنتُ أصغي بكلِ جوارحي لحديثه لكنْ معها كانتْ صورة الكبير عميد الأدب العربي (طه حسين 1889- ت1973م) ترافقني، وسيرته في كتابه الشهير (الأيام) وموسوعته الأدبية الكبيرة (حديث الأربعاء) ورحلاته وجولاته في الحديث وطلب العلم، ومعها صور الشاعر الجهبذ المفكر الفيلسوف الزاهد (أبي العَلاء المَعري 973- ت1057م) (رهين المَحبسين) فهو أيضاً فقد بصره وهو طفل صغير بعمر (4) سنوات عَلَى أثر أصابته بمرضِ(الجدري) وكذلك لهُ الكثير من الجولاتِ والرحلاتِ في بقاعِ الأرضِ لطلبِ المعرفةِ وِالعلم؛ (أبو العلاء المعري) الذي أحبِ بلده (الشام) وكلما بَعِدَ عنها يشتاقُ ويحن لها ففي كل رحلاته لمْ يطلْ البعاد عن (معرَّة النُعمان) التي ولدَ وماتَ فيها.
وها هو يتحدثُ أمامي بثقةٍ الدكتور (يُوسُف سَلامة) عن الأملِ والعملِ وعن الفلسفة ومدارسها وهو في ديار الغربة مختاراً أقصى شمال أوربا (السويد) موطناً جديداً له كلاجئ …
إنَّهُ بِحقّ إنسانٍ مُكافِحٍ عَنيد، لَمْ يَفقدْ الأمَل؛ وَآفةُ العَمَى تَنالُ مِنهُ وَهُوَ طَفلٌ صَغير، فِي مُخَيَّمٍ بائسٍ للاجئِين…
وَعَنْ مرحلةِ التدريس في الكليةِ وهو أستاذاً للفلسفةِ المعاصرة في جامعةِ دمشق… قال كنتُ أُومن بطريقةِ(الحوار) مع طلبتي وَليس بطريقةِ المحاضرة المسترسلة…
وتحدثَ عن الحرية والديمقراطية… وأهمية الحوار، واحترام الأخر، والإقناع بالحجة، فهنالك احتمالات كثيرة مفتوحة للحقائق…
وَفِيما يَخصُ المَعرفةَ فقالَ عَنها إنها مَفتُوحة إلى ما لانِهاية …
قَبلَ نهاية اللِقاء، السِتُّ(نَدى) مُديرة الجلسة تُفجر للحضور مفاجئة جميلة معلنة أنَّ ضَيفنا يُجيد الغناء وَيحِب أغاني الفَنان المُطرب (مُحمد عَبدِ الوَهاب) وبصحةِ عازفِ العودِ القادمِ من الدنمارك الموسيقار (محمد عبد الوهاب) أشنف أذاننا بصوتٍ شجيٍ عذب ببعضِ المقاطع من أغاني الفَنان (مُحمد عَبدِ الوَهاب).
وَقد أخبرنا د. (سَلامة) بسعادته أنه أتيحتْ إليه فرصة وهو في (السويد) بهذا العمر بزيارة البلدة التي ولد فيها (أم الزينات/ حيفا) وحقق الزيارة وهي المرة الأولى له يزورها منذ غادرها قبل أكثر من (70) سنة.
في نهاية اللقاء كانتْ هنالك فقرة لبعض الأسئلة والاستفسار من الحضور للضيف المحتفى به (يُوسُف سَلامة) أجابِ عليها جميعاً بروح شفافة.
فيما كانَ مسكُ الختام فقرة جميلة (شعرية طربية) قدمها الشاعر المتألق صاحب الصوت الشجي الصديق العزيز (خضير كريم الرميثي) يصاحبه العزف على آلة العود الموسيقار (مُحمد عَبدِ الوَهاب) فقرأ العديد من القصائدِ الغزليةِ وغناها بذاتِ الوقت، أستمتعنا بها … والتي نالتْ أستحسان وحرارة تصفيق الحضور.
في الختامِ كانتْ هنالك فسحة للحديث بين الحضور وتناول القهوة والمعجنات، والتقاط بعض الصور للذكرى.
كانتْ سَاعدتي كبيرة جداً بهذهِ الأمسيةِ الثقافية الفنية المتميزة والتي دعوتُ إليها من جمعية (إيد بإيد) في مالمو، فشكراً لها.
مالمو / السويد
الجمعة 2023.05.26