لاحتلال الأمريكي للعراق واستفحال المد الطائفي والعرقي
نبيل عبد الأمير الربيعي
إن احداث التاسع من نيسان 2003م هي من بين الأحداث التاريخية الكبرى بالنسبة للعراق، فالجسد العراقي كان جسداً مريضاً في بنيته التحتية في مجال الدولة والسلطة والنظام السياسي والعلاقات القومية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية، أي في كل مكوناته التي كانت تعاني من أمراض مزمنة.
فما جرى يوم التاسع من نيسان إن كان تحرراً ففي نفس الوقت كان احتلالاً، فهو احتلال بذريعة التحرر، ولولا انعدام الحرية وضعف الدولة والمجتمع لما حدث الاحتلال. وبما أن العراق يحتوي على قوميات واعراق وأديان ومذاهب متنوعة بوصفها جزءاً من تاريخه العريق وتسامحه الذاتي وتقاليده الكونية، من هنا فإن ظهور الطائفية والعرقية الناتئ فيما بعد 3 نيسان 2003م كان أمراً طبيعياً. فقد كانت جميع المكونات تعاني من ثقل الدكتاتورية، وبالتالي ليس خروجها إلا تعرضها من حيث الرؤية المستقبلية إلى شمس المعالجة الأولى في تاريخه الحديث.
إننا اليوم نقف أمام واقع انحطاط وتخلف للبنية الاجتماعية من جهة، وتصدع الفكرة الوطنية العراقية من جهة أخرى. وإذا كان من الممكن الإقرار نظرياً بأنهُ انحطاط وتصدع قابل للرأب، باعتباره نتاجاً لحالة سياسية أولاً وقبل كل شيء، بلغت ذروتها في سياسة الدكتاتورية المقبورة، فإن الأحداث التاريخية في مجرى السنوات بعد السقوط تشير إلى استمرار وإعادة إنتاج التجزئة بصورة منظمة، ولعل اخطرها الطائفية السياسية الآخذة في التحول إلى مرض مزمن شامل في الجسد العراقي.
ووجدت هذه الحالة المتراكمة من الانحطاط استمرارها في إفراغ التاريخ العراقي المعاصر منذ الاحتلال العثماني للعراقي، واستمرت حالة التراكم في فكرة سياسية اجتماعية وطنية عامة، بمعنى استمرار الصراع الخفي بين مكونات العرب العراقيين، الذي تجسد في منظومة رجعية من حيث المكونات الاجتماعية والمواقف السياسية للسلطة بعد انقلاب 1963م، وهو انقلاب شكل خطوة إلى الوراء وجرى استكماله في انقلاب 17 تموز 1968 الذي ارسى أسس الدكتاتورية. وهي تقاليد أدت خصوصاً في مجرى العقدين الأخيرين قبل سقوطها إلى استفحال التجزئة الجهوية والقومية والطائفية للعراق والعراقيين في مختلف نواحي ومستويات الحياة. مما أعطى لهذه التجزئة ابعاداً مركبة ومتشابكة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة والفكر والايديولوجيا ونمط الحياة والنفسية والاجتماعية. وهي تجزئة أخذ حجمها بالتوسع في مجرى التغيرات الراديكالية التي رافقت سقوط الدكتاتورية.
لقد كان التاسع من نيسان 2003 انقلاب تاريخي هائل، ظاهره نقمة وباطنه نعمة، وذلك لأنه انقلاب أظهر حقيقة الاعماق الخربة للعراق، وطبيعة ونوعية أمراضه الداخلية والدفينة، ومستوى الخراب والانحطاط المادي والمعنوي، وبقايا العقد والمتحجرات القديمة التي نمت وتضخمت في ظل الدكتاتورية بطريقة تبدو مفزعة ومثيرة. فبعد عام 2003 كانت المرة الأولى في تاريخ العراق تشترك فيها جميع مكوناته بطريقة تحتوي على اقدار مختلفة من العقلانية واللاعقلانية، والواقعية وغير الواقعية في صنع تاريخ العراق الحديث. وهي حالة تتصف بقدر كبير من التخريب كما هو الحال في استفحال ظاهرة العرقية الكردية بشكل خاص، وبصورة أقل أو جزئية عند بعض الحركات التركمانية والكلدو آشورية.
فالطائفية هي أما مرض وأما بقايا متحجرات، ومنهما عادة ما تتراكم مختلف مظاهرها، وشيوعها هو مؤشر على بقاء الأثنين في النفسية الجمعية ونماذج وعيها ونفسيتها وتقاليدها، ولو عدنا إلى صفحات التاريخ الإسلامي لنجد أن الأموية هي صانعة الفكرة الطائفية بوصفها سُنّة السلطة، أي القانون الذي يحكم سلوكها حالما تكون قوة مغتربة عن الأمة ومحكومة في نياتها وغايتها بقوة الجاه والمال، وهي صفات جوهرية جاهلية حاربها الإسلام المحمدي. وهو السبب الذي صنع خلاف العبارة في أهل الشام وأهل العراق، وهو افتعال السلطة، أي افتعال أموي.
فالطائفية في العراق كانت منذ البدء ذات ابعاد سياسية، ولكن بالإمكان تذليلها السريع في حال الاتفاق على أولوية وجوهرية المصالح الوطنية العامة. لكن التمسك بالطائفية السياسية بما معناه استعادة الانغلاق والإلقاء في شرنقة الأنا المتبجحة بذاتها. والطائفية تتعارض بل تتضاد مع فكرة الدولة البديلة بوصفها دولة شرعية محكومة بالقانون والدستور.
فالعراق في ظروف الانتقال إلى الدولة الشرعية وبناء الوطنية الجديدة يعاني من اشكالية الشعب والأمة. لكنه ليس مجموعة أو تجمع طوائف، فالعراق يحتوي على القوميات والأعراق والطوائف بسبب تاريخه العريق وبسبب قدرته على التعايش واستعداده على قبول مختلف المكونات وصهرها في بوتقته الثقافية. وللإرتقاء إلى رؤية التكامل البعيد المدى يجب رفع الوعي السياسي صوب الفكرة الوطنية العامة وتحريرها من عبودية السلطة وتوجيهها صوب فكرة الدولة بوصفها صانعة الوطنية الحقيقية.