دليل المواطن العربي لفهم القائد… مقتدى الصدر نموذجا
غالبا ما يتلفت المواطن العربي حوله مذهولا وهو يشهد تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، وانعكاسهما الحتمي على الأوضاع الاجتماعية، في بلاده ونزولها المتسارع نحو الحضيض، على الرغم من تمتعها بثروة المصادر الطبيعية وكثرة اليد العاملة الشابة وماضيها الذي ساهم بتأسيس وبناء الحضارة البشرية.
هل يكفي إلقاء اللوم على «الأجنبي» والاستعمار وواقعنا، يشير إلى أنه لم يغادر بلداننا بل بقي مهيمنا بشكل معاهدات واتفاقيات تضمن له الاستغلال الرأسمالي المُتحكم بالمصادر والتوزيع والتصنيع، وتسويق السلاح؟
هل يكفي إلقاء اللوم على قادة ورؤساء وحكام الدول العربية باعتبارهم الأداة التنفيذية المحلية لسياسة الاستعمار أوما صار متعارفا عليه بالاستعمار الداخلي، على الرغم من التشدق الدؤوب بالوطنية والسيادة؟ هل يكفي جلد المواطن لذاته لينتشل نفسه من حالة الاحباط، التي تكاد تكون مزمنة، وتدفعه إلى نشد الأمان في ذات الدول التي سببت مأساته؟
لتفادي الدخول في مسابقة الضحايا وأي نظام عربي أكثر سوءا من غيره. يوفر لنا العراق بقيادته السياسية ـ المذهبية ووجود مقتدى الصدر، نموذجا، لتفكيك صورة القائد ومحاولة لفهم نفسية وسلطة القائد العربي، خاصة وهناك ما يشير إلى عودته، بعد غياب، إلى الفضاء السياسي العراقي واستعادة دوره كقائد للتيار الصدري وكتلته السياسية، ليضع بذلك حدا لاعتزاله العمل السياسي الذي كان قد أعلن عنه في شهر أغسطس/ آب 2022 بعد اعتصام أنصاره داخل البرلمان العراقي.
أعاد مقتدى الصدر، أتباعه والموالين له إلى طقوس المبايعة والبصم بالدم، إثباتا للشرعية الدينية التي يحاول إثباتها، بعد أن فشل في إمكانية إقناعهم بقيادته وأخلاقية سياسته من خلال توقيع مواثيق شرف ومواثيق وطنية متتالية. ففي مبادرة أطلقها الشهر الماضي، طلب الصدر من أتباعه توقيع وثيقة عهد بالدم. والمعروف أن التوقيع بدم المرء هو عمل شعائري ورمزي، يلتزم فيه المّوقع بالالتزام بقسم أو ميثاق للدلالة على الجدية والتضحية والتفاني.
وطالما مورس في مختلف الثقافات والسياقات عبر التاريخ، مهما كان مضمون الملتزم به خيرا كان أو شرا. طلب الصدر من أتباعه التوقيع بالدم على التعهد: «أنا العراقي: أتعهد بيني وبين ربي ألا أحيد عن حب الشهيدين الصدريين، وأن ألتزم بوصايا وأوامر من قلدت منهما، وألا أقلد ابتداءً إلا من كان ملتزماً بنهجهما، وأن ألتزم نهج من قلدت من الشهيدين الصدريين، وأن أخلص له في دنياي وآخرتي… وأن ألتزم بحب كل عراقي مسالم صالح محب لوطنه، ولا سيما عائلتي (التيار الصدري) وألا أكون ضمن تجمعات مشبوهة تريد النيل من العراق والمذهب والتيار».
هل يكفي إلقاء اللوم على «الأجنبي» والاستعمار، وواقعنا يشير إلى أنه لم يغادر بلداننا بل بقي مهيمنا بشكل معاهدات واتفاقيات تضمن له الاستغلال الرأسمالي المُتحكم بالمصادر والتوزيع والتصنيع، وتسويق السلاح؟
هذه ليست المرة الأولى التي يصدر فيها الصدر ميثاقا من هذا النوع أو ذاك. فقد أطلق، بواسطة كتلة الأحرار التابعة له، في 27 فبراير 2015، ميثاق «الشرف الوطني» للمصالحة الوطنية. تلاه إصدار ميثاق جديد لـ « حقن الدماء» في 4 يوليو 2017.
ولكن… لم ميثاق أو عهد الدم؟ لعلها الخطوة الأكثر تأثيرا لإثبات قوة نسبه وبالتالي مكانته. فمن الواضح أن الصدر ما كان سيوصف بأنه القائد الأكثر شعبية وقوة بالعراق لولا كونه سليل عائلة ذات بعد مذهبي، في مجتمع يُقدس الأنساب، خاصة مع التفاخر بالانتماء إلى أهل البيت. ويتبدى الموقف من مقتدى الصدر استنادا إلى نسبه وموقع والده وعمه، في تصريح للشيخ مهند الغراوي، عضو لجنة الإشراف والإدارة في مكتب الصدر، مخاطبا المتظاهرين في مدينة الديوانية: «إن من يحاول النيل من آل الصدر والسيد القائد مقتدى الصدر (أعزه الله) مصيره العار والخزي في الدنيا والآخرة وإن صوت السيد الشهيد الصدر والسيد القائد مقتدى الصدر (أعزه الله) قد وصل إلى أبعد نقطة في العالم» أو «فالذين ينصبون العداء للسيد القائد مقتدى الصدر هم أعداء لأبيه السيد الشهيد الصدر من حيث يشعرون أو لا يشعرون».
على الرغم من ذلك كله، فشل الصدر، عمليا، في تجسيد المؤمل منه كقائد مؤهل لاحتلال مكانة والده أو عمه، لعدة أسباب من بينها غياب العدو الرئيسي الذي يمنحه من خلال محاربته والانتصار عليه سمة البطولة، كما أن ظهور الانقسامات بين أتباعه وتشكيل مجموعات وميليشيات منافسة، انعكس بقوة على سلوكه السياسي غير المتوازن أساسا. فكانت خيبة أمله وغضبه على أتباعه ومعاقبته إياهم بتجميد الكتل تارة والابتعاد عنهم إلى أماكن يتفرغ فيها للدراسة وكتابة الخواطر تارة أخرى.
وإذا كان تزايد الانشقاق في صفوف تياره وكتلته السياسية قد «جرحه» حسب تعبيره، فإن ظهور بوادر التصدع في «البيت الشيعي» عموما، أشعره بأن الله تعالى يتعرض لتعد وقح يستدعي تدخلا سريعا منه، فدعا في الثاني من كانون الأول 2020، في تغريدة له إلى كتابة «ميثاق شرف عقائدي» قائلاً: «في خضم التعدي الواضح والوقح ضد (الله) ودينه ورسوله وأوليائه من قبل ثلّة صبيان لا وعي لهم ولا ورع تحاول من خلاله تشويه سمعة الثوار والإصلاح والدين والمذهب.. مدعومة من قوى الشر الخارجية ومن بعض الشخصيات في الداخل، أجد من المصلحة الملحة الإسراع بترميم البيت الشيعي من خلال اجتماعات مكثفة لكتابة ميثاق شرف عقائدي وآخر سياسي».
إن صورة «سماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد القائد المفدى مقتدى الصدر أعزه الله» كقائد عربي إسلامي بإمكانه تحشيد الأتباع ودفعهم إلى إعلان ولائهم له بالتوقيع بالدم، ليست فريدة من نوعها وليست وليدة اليوم. وهو ليس الوحيد بين القيادات العربية التي تنتمي أو تحرص على حمل الألقاب الدينية أو ارتداء المسوح الإسلامية وربطها بالموقع السياسي، والاستناد إلى رمزية النسب الديني، مع وجود الفرق في هيكلية إدارة السلطة، بدرجات متفاوتة وبألقاب ربما أقصر طولا.
وإذا كانت قائمة التساؤلات المُحيرة للمواطن العربي طويلة، كما هي ألقابه، هي الأخرى، إلا أن جوهرها يكاد يكون واحدا وهو: هل بإمكان المواطن القدرة على التغيير العضوي النابع من مجتمعه وهو يقضي أيامه لاهثا وراء لقمة العيش وتوفير الأساسيات لنفسه وعائلته، في ظل قيادة سياسية بهذا المستوى ولسان حاله يقول «بوجود أصدقاء مثل هؤلاء من يحتاج الأعداء»؟