«بروتوكولات حكماء صهيون»… أصل الأسطورة
لم يزل كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» يحظى برواج منقطع النظير في العالمين الغربي والعربي، إذ يعتبره كثيرون دليل إدانة انطلقت من فم اليهود أنفسهم، عبر تصريحات القيادات اليهودية العليا الممثلة في حاخامات أطلق عليهم تسمية «حكماء صهيون»، وشرح بالتفصيل مؤامرتهم العالمية للاستحواذ والسيطرة على كل دول العالم عبر المؤامرات والانقلابات والثورات. فما هو أصل هذا الكتاب الخطير؟ وكيف نشر؟ ومن يقف وراءه؟ وهل حسم أمر مصداقية ما ورد فيه من معلومات؟ أم ما زال هنالك جدل حول أكذوبة الكتاب، أو صحة نبوءاته؟
بات معروفا اليوم أن أول ظهور لكتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» كان في عام 1901، إذ نُشِر متسلسلا في جريدة «زناميا» في مدينة سانت بطرسبرغ عاصمة روسيا القيصرية، وتشير المعلومات إلى أن عملية النشر كانت مدعومة من الشرطة السرية في الإمبراطورية الروسية، نتيجة شيوع موجة معاداة اليهود التي كانت منتشرة في تلك الحقبة. وفي عام 1905 نشر سيرجي نيلوس الكاتب الروسي الأرثوذوكسي المتشدد كتابه «مجيء الدجال وحكم الشيطان» وضمنه ملحقا بنصوص البروتوكولات الأربعة والعشرين كاملة، وادعى أن هذه البروتوكولات، تم إقرارُها في المؤتمر العالمي الأول للصهيونية في بازل عام 1897. كما ادعى نيلوس أنه تسلم مخطوطة البروتوكولات عام 1901 من صديق له حصل عليها من امرأة اسمها مدام. ك، ادعت بدورها إنها سرقتها من أحد أقطاب الماسونية في فرنسا، لكن نيلوس نفسه عاد وأخبر أحد النبلاء الروس بأن هذه المرأة أخذتها من رئيس البوليس السري الروسي في فـرنسـا، وأن الأخير هو الذي سـرقـهـا من أرشيف المحفل الماسوني. والمفارقة أن نيلوس لم يكن يهاجم اليهود في كتابه، بل كان يهاجم وبضراوة الماسونية والماسونيين، لذلك احتوى الكتاب على الكثير من الخلط، الذي كان شائعا حينذاك في المجتمع الروسي القيصري بين اليهودية والماسونية، علما أن محافل الماسونية في القرن التاسع عشر كانت تحرم انضمام اليهود لها.
الموضوعات الأساسية المطروحة في البروتوكولات روسية، وهناك دفاع عن الاستبداد المطلق، وعن الارستقراطية الطبيعية الوراثية، وهجوم على الليبرالية والاشتراكية
تمت ترجمة الكتاب إلى اللغة الألمانية عام 1909، ويقال إن برلمان امبراطورية النمسا والمجر، اطلع على هذه الترجمة، وبعد اندلاع الثورة الروسية عام 1917 فرار الكثير من رجال العهد القيصري إلى أوروبا الغربية، انتشرت ترجمات «بروتوكولات حكماء صهيون» إلى مختلف اللغات الأوروبية حتى في البلدان التي لم يكن فيها جاليات يهودية ملحوظة، لكن الحقائق التاريخية تُشير إلى أن الكتاب انتشر بكثرة بعد ترجمته إلى اللغة الإنكليزية، التي قام بها الصحافي البريطاني فكتور مارسدين عام 1921 الذي كان مسجوناً في معتقلات البلاشفة أثناء تغطيته الإعلامية للثورة البلشفية، وقد أضاف إلى نصوص البروتوكولات المترجمة مقولات لرئيس المنظمة الصهيونية العالمية حينذاك حاييم وايزمان.
في السنة نفسها قام رجل الأعمال الأمريكي الشهير هنري فورد بدعم نشر سلسلة مقالات في جريدة «ديربورن إندبندنت» التي كان يمتلكها تحت عنوان «اليهودي العالمي… أخطر مشكلة»، ثم تم جمع المقالات عام 1921 وإصدارها في كتاب طبع منه نصف مليون نسخة، وقد احتوى الكتاب على إشارات كثيرة إلى نصوص «بروتوكولات حكماء صهيون»، كما صرح فورد عند صدور الكتاب بالقول: «إن البروتوكولات مطابقة لما يجري في العالم لحد هذا اليوم». وبلغت البروتوكولات قمة رواجـهـا في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين، وقد حاول كثير من الألمان تبرير هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطورية الألمانية بأنها طعنة من الخلف قام بها اليهود والمشتركون في المؤامرة اليهودية الكبرى أو المؤامرة العالمية، وهناك اعتقاد سائد لدى التيار المُشكك في حقيقة «بروتوكولات حكماء صهيون» أن النازية استعملت البروتوكولات في حملتها الدعائية ضد اليهود في الثلاثينيات من القرن العشرين، وفي عمليات الهولوكوست اللاحقة، واستناداً إلى المؤرخة الأمريكية نورا ليفين، فإن هتلر استخدم البروتوكولات كحُجة في عمليات الإبادة الجماعية، التي نفذتها ألمانيا النازية بحق اليهود، وتم ذكر البروتوكولات في كتاب هتلر الشهير «كفاحي»، حيث أشار إلى «أن البروتوكولات تظهر بشكل واضح أن تاريخ اليهود مُستَنَد إلى حد كبير على الأكاذيب والتزوير، وأن هناك مخاوف حقيقية من نشاطات اليهود وأهدافهم».
وعلى الرغم من الكثير من الدراسات المبكرة التي شككت بمصداقية البروتوكولات، إلا إنها لاقت مزيدا من الرواج والترجمات، إذ يشير الدكتورعبد الوهاب المسيري المختص بالدراسات اليهودية والصهيونية، في كتابه «البروتوكولات واليهودية والصهيونية»، إلى أن «بروتوكولات حكماء صهيون من أهم الوثائق التي يتداولها أصحاب النموذج الاختزالي التأمري». ويقول إن البروتوكولات نص مزيف اعتمد واقتبس الكثير من فقراته من كتيب فرنسی بعنوان «حـوار في الجحيم بين مكيافيللى ومونتسكيو، أو السياسة في القرن التاسع عشر»، کتبه صحافى يدعى موريس جولي سخـر فيه من نابليون الثالث، ونشر في بروكسل عـام 1864، فـتـحـول الحـوار إلى مـؤتمـر، وتحـول الفيلسوف إلى حكماء صهيون. كما يقدم عبد الوهاب المسيري في أكثر من كتاب، تحليله لزيف البروتوكولات، إذ يشير إلى أن تحليل الخطاب في البروتوكولات يحيلنا إلى أن هناك من الدلائل ما يدعم وجهة النظر القائلة بأنها وثيقة مزيفة، إذ يلاحظ أن البروتوكولات وثيقة روسية بالدرجة الأولى والأخيرة، فكاتب الوثيقة لا يعرف شيئا عن المصطلح الديني اليهودي، ولا يستخدم أي كلمات عبرية أو يديشية، وهناك إشارتان للإله الهندي فشنو، وإشارة واحدة لأسرة داود. وبطبيعة الحال يمكن إثارة القضية التالية، إذا كانت البروتوكولات وثيقة سرية، فلماذا لم يكتبها (حكماء صهيون) من الحاخامات اليهود بالعبرية أو الآرامية ليضمنوا عدم تسربها؟ كما أن الموضوعات الأساسية المطروحة فيها موضوعات روسية، فهناك دفاع عن الاستبداد المطلق، وعما يسمى بالارستقراطية الطبيعية الوراثية، وهناك هجوم شرس على الليبرالية والاشتراكية، ما يشير إلى أن اهتمامات الكاتب روسية بحتة، وتعكس رؤية الطبقة الحاكمة الروسية في السنين الأخيرة من حكم النظام القيصري، كما نتبين أن الهجوم الواضح في الكتاب على الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية يشير إلى الجذر الفكري للكاتب، وهو بلا شك أرثوذوكسي سلافي. وقد أشار عدد من الباحثين إلى أوجه الشبه بين كتاب «حـوار في الجحيم بين مكيافيللي ومونتسكيو» و»بروتوكولات حكماء صهيون»، حيث تضمنت هذه الأخيرة اقتباسات حرفية من الكتاب المذكور، وأحياناً تعبيرات مجازية وصوراً منه. ويشير المؤرخ الروسي ميخائيل ليبيخين إلى أن مؤلف البروتوكولات بشكله الحالي هو ماثيو جولوفينسكي، الذي كان عميلا روسيا مزدوجا للشرطة الإمبراطورية الروسية والبلاشفة، والذي انتمى في ما بعد إلى منظمة الأخوة المقدسة (Holy Brotherhood) التي كانت معادية للسامية. وإن الرأي السائد في الأوساط الأكاديمية اليوم، أن نشر البروتوكولات وإشاعتها إنما تم بإيعاز من الشرطة السياسية الروسية للنيل من الحركات الثورية والليبرالية، من أجل زيادة التـفـاف الشعب حول القيصر والارستقراطية والكنيسة، وذلك عبر تخويفهم من المؤامرة اليهودية الخفية العالمية. لقد أصبح كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» من أكثر الكتب رواجاً في العالم الغربي بعد الكتاب المقدس، وترجم إلى معظم لغات العالم الشائعة، بما في ذلك العربية، حيث ظهرت عدة طبعات منه، وما زال عدد من الكتاب العرب يروجون لمختلف نظريات المؤامرة معتمدين على نصوص يتم اقتباسها من «بروتوكلات حكماء صهيون».
كاتب عراقي