“روح السياسة”.. والصالح العام
عبد الحسين شعبان
استحق نيكولو ميكافيلي، المفكر الفلورنسي المدفون تحت قباب كنيسة سانتا كروشيا الشهيرة، لقب مفخرة إيطاليا، علمًا بأن عددًا من عظماء إيطاليا ووريَ الثرى في تلك المقبرة الجميلة مثل مايكل أنجلو الرسام والنحات والمهندس والشاعر (1475 – 1564)، محور الفن في عصر النهضة، وغاليليو غاليلي، (1564 – 1642)، العالم الفلكي والفيلسوف والفيزيائي، الذي لعب دورًا بارزًا في الثورة العلمية؛ ودانتي أليغيري (1265 – 1321)، الشاعر الكبير وصاحب “الكوميديا الإلهية“، والتي تعتبر قمة في الأدب العالمي.
ونُقشت بحروف من ذهب مآثر هؤلاء العظماء، باستثناء صاحب كتاب “الأمير“، فلم يُنقش عليه سوى هذه العبارة “ميكافيلي 1527″، أي سنة وفاته، لأنه لم يبلغ مجده ولم يصل سموه أحد. وقد احتفلت إيطاليا في العام 2013 بمرور 500 عام على صدور كتاب “الأمير”.
لم يقتصر صيت هذا الكتاب النفيس على الفترة الزمنية التي عاش فيها ميكافيلي أو عهودًا أعقبتها، بل ما يزال “راهنيًا” على الرغم من التطورات والتغيّرات التي حصلت في علم السياسة على المستوى الكوني. إنه بحث عن الممكنات وليس عن الكمال، وتلك هي السياسة صراع واتفاق مصالح.
استوقفني مجددًا موضوع “الشرعية” و”المشروعية”، وأنا أعيد قراءة كتاب غوستاف لوبون (1841 – 1931)، “روح السياسة” الذي صدر قبل 113 عام، فالأولى لن تتحقق طالما افتقد الحكم إلى رضا الناس ومنجز ملموس، والثانية تفترض حكم القانون لتأمين الأمن والاستقرار للناس وحماية حياتهم وممتلكاتهم. ولوبون الطبيب النفسي والمؤرخ الفرنسي، ليس منظّرًا فحسب، بل يمتلك عقلًا عمليًا اكتسبه من تجربته الشخصية، وقد انشغل أيضًا بدراسة الحضارات الشرقية، ومنها الحضارة العربية – الإسلامية، وعمل على إنصافها، ومثلما حظي كتاب “روح السياسة” بشهرة كبيرة، فإن كتابه “سايكولوجية الجماهير” لا يقلّ شهرة.
“روح السياسة” تعني فن الحكم، مع اعتماد العلم وقوانين التطوّر والنزاعات والحروب وأحوال الرجال من جهة، ومراعاة مزاج الناس من جهة أخرى، وتمثّل تلك الروح، العقلية الفردية والجماعية للشعوب والأمم، بما فيها من جوامع، والمقصود الهويّة المشتركة وأساسها اللغة والثقافة والتاريخ والدين، إضافة إلى عوامل اقتصادية ونفسية.
ووفقًا ﻟ “روح السياسة” يمكن أن تحلّ المعضلات وتُذلّل العقبات التي تعترض طريق العلاقات الدولية، من خلال تفاهمات واتفاقيات وتسويات، وعكس ذلك ستكون الحرب هي البديل بكلّ ما تحمل من تبعات ومآسٍ. ولعلّ المعرفة بعلم السياسة وفنونها تجنّب الكثير من القادة والزعماء اتّخاذ قرارات أو الإقدام على مغامرات أو ارتكاب حماقات قد تؤدي إلى فناء شعوبهم ودمارها قبل غيرها.
وبقدر ما يكون الحديث في السياسة “سهلًا” لدرجة الابتذال أحيانًا، فإن قلّة من السياسيين قرأتْ كتبًا في جوهر السياسة مثل “السياسة” لأرسطو، و”الجمهورية” لأفلاطون، و“الأمير” لميكافيلي، فضلًا عن دراسة تاريخ السياسة وفلسفتها والممارسة السياسية التي لا غنى عنها، فلا سياسة حقيقية دون ممارسة. السياسة غاية، أما الممارسة فهي وسيلة لتحقيقها.
وتزداد فنون السياسة كلّ يوم، بما فيها دور القوّة الناعمة والديبلوماسية الاقتصادية والثقافية وغيرها خصوصًا والعالم في الطور الرابع للثورة الصناعية. ولا شكّ أن عنصر الإقناع في السياسة يبقى ضروريًا، فالقناعة إذا ما تولّدت لدى الناس تصبح قوّة ماديّة يَصعُب اقتلاعها، وكان نابليون يؤكّد أن التكرار أشدّ عوامل الإقناع تأثيرًا، وحسب لوبون، فإن الناس لا يسلّمون بالمعتقدات الصحيحة فحسب، بل يسلّمون بها عندما تستولي على عقولهم، بفعل التكرار والعدوى الفكرية، والتأثير على دائرة اللاشعور التي هي علّة فينا.
وإذا كان دستور اليونيسكو يؤكد أن الحروب تُصنع في العقول، فإن تشييد حصون السلام ينبغي أن يكون في العقول أيضًا، فالتواصل بين الشعوب والأمم والجماعات والأفراد يخفّف من غلواء الكراهية والأحقاد والتعصّب والتطرّف الذي هو وليده، وإذا ما انحسر ذلك ستتقلّص دائرتي العنف والإرهاب، والأخير عنف منفلت من عقاله، غايته إحداث رعب وهلع في المجتمع الدولي، وإضعاف ثقة المواطن والمجتمع بالدولة وبالنظام الدولي، خصوصًا حين يضرب العنف عشوائيًا.
روح السياسة تجسّد الخير العام حسب عبد الرحمن بن خلدون، وهو ما كان يعتبره أرسطو الأساس في كتابه “السياسة” حين تحدّث عن الخير العميم (الصالح العام)، وحسب المنجدات اللغوية فترجمته تأتي من الفعل ساس (يسوس)، أي حُكم الناس والحُكم بينهم، وبهذا المعنى تصبح روح السياسة فن إدارة الحكم من خلال علاقة الحاكم بالمحكوم، فهما قطبا الرحى فيها، وبقدر ما تكون العلاقة سالكة وتتمتّع بشيء من الثقة، فذلك يعني نجاح وظيفة الحاكم، خصوصًا بالاعتماد على واقع يتجدّد ويتغيّر بتبدّل نظمه وقوانينه، وهو ما قالت به العرب قديمًا “تبدّل الأحكام بتبدّل الأزمان”، ولعمري ذلك يجسّد روح السياسة وجوهرها وهويّتها الحقيقية وفلسفتها.