هروب عكسي
الكاتب والروائي / عبد الجبار الحمدي
كحبات الساعة الرملية نتسابق للهروب خوفا من ضياع وقت نهاياته غير معروفة، فهروبنا العكسي لا تنقضي صلاحيته… كحبات الرمل نتساقط دون ايام نعدها، نلوذ بالغربة وطنا دائم الصلاحية، الرقي، التحرر والتحضر مثالي الى حد أن تكون مجبرا ان تتقيد بكل حذافير القانون فأنت يا صديقي مشردا قسرا… لا اطيل انت تريد معرفة رأيي بالهجرة و ها انا اخبرك الحقيقة المُرّة التي اعيشها ونفسي و عائلتي، أقسم لك أني اموت فسي الثانية ألف مرة، فحياتي قد بدأ السل الرئوي يفتك برئة الحياة التي كنت اعيش كأن هناك من يهدم كل ما احب بمعول الغربة.. وطن هجرناه بإرادتنا، عنف كان يرافقنا ونظام سادي دكتاتوري، دُعينا اننا مناضلين مجاهدين فتلك عبارات يغلفها الكثير من النفاق و الرياء نحن شعب لا يستقيم إلا بالقلم والساطور… على اية حال لا اريد ان اقص ريشات الامل التي تريد ان تحلق بأجنحته.. ساكون لك عونا إن قدمت.. سأبذل قصارى جهدي في تذليل الصعب مما يواجهك…
أشكرك عزيزي مؤيد… لعلك تعلم جيدا ما عانيت من النظام السابق.. لا اربد ان اتذكر واعيد سرد معاناتي، لكني اقسم لك بكل لحظة كنت اقضيها وإياك على شاطيء دجلة او على الجسر المعلق في بغداد حين كنا نرسم أحلامنا طائرات ورقية دافعين بها الى النوارس البيضاء… و اقسم لك أني اعيش بتلك الذكريات عند تمثال ابو النؤاس حين كنت تزورني ولا زال طعم الشاي على اطراف لساني حين اشربه معك قرب تمثال الحبوبي…. ذكريات … ذكريات لو احصيتها لكانت اكثر من الف ليلة وليلة… ليس هينا ان اترك بقايا روحي والتحق بك اشعر بمعاناتك… أدرك ان روحك فارقت جسدك حين بت تملك جنسية غير الجنسية العراقية لكن يا مؤيد الوضع اختلف الان، الحال اسؤا مما كنت احسبه او اتوقعه صرنا عبيد الفساد والولاءات الغير… فكل بحمل جنسيته التي اغترفها ولاءا ولعقا لأحذية وطات البراز وجاء محمولا كمحرر فاتح للقيروان… لست بعيدا عن الاحداث فمن2003 الى الان ونحن في مربعات ضيقة لا يخرج منا سوى من صار مسؤولا او برلمانيا او كما يطلقون على انفسهم المحررين … لا ادري ماذا حرروا الشعب والناس باتوا عبيدا لراية هنا او هناك … صرنا نبتاع التدين سمة مثل بطاقة الدخول الى الساحة الترفيهية او مثل البطاقة التموينية التي يسرقها موزع الكمية مدعيا شهر لك وشهر لي … كما قلت لك مسبقا إننا في حالة هروب جماعي عكسي نهرب الى الخارج بحجة الهروب الى الجنة رغم ان الجنة لا تستقبل الحثالات التي خرجت من بين ظهرينا… كل شيء يا مؤيد مباع حتى الهواء الذي نتنفسه مباع لدول الجوار… الجوار الغير آمن، فمن يجرؤ على التقول بغير ما يرغبونك ان تقوله… فهناك الموت المخبئ في عتمة ليل او صراحة في وضح النهار… القانون خرج يبتاع الحماية لنفسه، سلطة يحكمها مزامير أتوا بها بأجندات لا يمكن ان تقرأ إلا في خلوة خوف ان يعرف غيرهم السياقات الدنيئة لمستقبل وطن مباع…
هون عليك أخي رحيم أظنك لا زلت كما أنت فمنذ عشرة سنين كنت تتحدث عن الامل في ان العراق سيتعافى.. لكني أتلمس من جرح حديثك انها بلغت الحلقوم منك، اراك تختنق بالهواء الملوث الذي تتنفسه رغم أنه هواء في سماء العراق… اخ يا عراق وجعي اكبر وان يحتويك بداخلي… تسلقت أسمك بعد ان طفت في كعبة عناوينك و وجدتني يتيما دون أم او اب، ترى ما الذي حدا حتى تكون ملا تتكالب عليك السكاكين اسلامية وغير اسلامية؟ ألبسوك وجها مستعارا ما لبث غضبك حتى أزاح المساحيق المبهرجة… سعيت وسعوا نالوا منك حتى رضخت للواقع المزري… ارجوك رحيم لا تثير زوبعة الحنين فبالامس خرجت من المشفى بعد ان اصابتني الجلطة وانا اشاهد الارض التي اقتصتها دول الجوار والحكومة تصارع الثروات العراقية الى من يذهب الرصيد الاكبر… جميعهم مشاركين في دفع العراق الى الهاوية
اما انت يا رحيم فلا بد لك من الهروب الى الخارج، الهروب من واقعك الذي قتل كل من تحب… ساكون في انتظارك.. استقبلك بكل عمري الذي قضيته في صباي وشبابي معك… لا تنسى ان تجلب خبز من تنور والدتك فلا زال طعمه في فمي ورائحته تدفع بي الى الشهيق حد قطع النفس.. اخبرها ان تدهن واحدة منها بدهن الحر وان تضع السكر فوقه تلفه كما كانت تفعل عندما كنا نلعب ( جعاب ) باغطية قناني البيبسي الفارغة بعد ملئها بالطين…
رحيم هيا تعال ودع روحك في العراق كما فعلت انا… تعال كي نعيش اجساد بلا ارواح و هروب عكسي نحو الفراغ الكبير الذي يسمى الغربة.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي