لماذا فشل انقلاب فاغنر في روسيا؟
كانت 23 ساعة من ترقب خطر الفوضى الذي يمكن أن يضرب أكبر بلد نووي في العالم. سيسجل التاريخ المعاصر يوم 23 حزيران/يونيو بهذا الوصف. إذ أعلن رئيس شركة فاغنر العسكرية الخاصة تمرده على الجيش الروسي، وسعيه للتحرك باتجاه موسكو، وفرض إرادته على الدولة الروسية. البعض لم يأخذ التهديد على محمل الجد، لكن أغلب المراقبين وصفوا الحدث بأنه أشبه بتمرد الوحش فرانكنشتاين على صانعه الديكتاتور بوتين، وهنا سنحاول الإجابة على بعض الأسئلة التي طرحت بعدما انتهت محاولة انقلاب فاغنر مثل: ما هي الأسباب التي دعت يفغيني بريغوجين للتمرد؟ وهل كان تمرده ضد الرئيس بوتين؟ أم كان ضد جنرالات الجيش الروسي؟ وما هي الخسائر التي تكبدها الجيش الروسي في عملية الصدام مع قوات فاغنر في مدينة روستوف الاستراتيجية جنوب روسيا؟ وما هو دور رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو الذي أطفأ نار التمرد، التي كادت تحرق الجميع؟ وما هو مستقبل شركة فاغنر ورئيسها بريغوجين بعد كل ما حدث؟
كيف بدأت قصة يفغيني بريغوجين، الذي يشبهونه بالوحش فرانكنشتاين الذي صنعه الديكتاتور فلاديمير بوتين؟ تبدأ قصة بريغوجين في مدينة بطرسبورغ التي ولد فيها عام 1962، وكان شابا فاشلا ومنحرفا وذا سلوك إجرامي، وقد حكم عليه عام 1980 بالسجن 12 عاما، قضى منها عشر سنوات بتهم تتعلق بالسرقة والانتماء إلى عصابة. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، وظهور النظام الجديد في روسيا، حاول بريغوجين استغلال الفرص المتاحة للعمل في التجارة. وبدأ مشروعه التجاري الانفتاحي ببيع سندويتشات الهوت دوج، التي تعتبر رمزا للغرب في روسيا الجديدة، ليتحول عمله بعد نجاحه إلى سلسلة أكشاك لبيع الهوت دوج، تطورت لتصبح سلسلة مطاعم «كونكورد» الراقية، وعبر هذه المهنة توطدت علاقاته بالسياسيين الجدد في عهد يلتسين، الذي عمت فيه الفوضى وسيطرة المافيات، لكن عمله قرّبه لاحقا من الرئيس الجديد فلاديمير بوتين، الذي استضاف الرئيس الفرنسي جاك شيراك في أحد مطاعم بريغوجين، ليصبح لقبه الرسمي «طباخ الرئيس» ولتفتح له أبواب الكرملين وعقود تغذية في وزارة التربية والدفاع الروسية بمليارات الدولارات.
عندما تفشل الانقلابات، يمكن أن يعتمد بقاء القادة غالباً على نطاق وعمق عمليات التطهير التالية التي تحدثها الحكومة في صفوف النخبة من المشكوك بولائهم
أما عن دور يفغيني بريغوجين في تأسيس شركة فاغنر للمرتزقة، فإنه اعترف بذلك على حسابه على منصة تليغرام للتواصل الاجتماعي، ففي بيان نشر على حساب شركته «كونكورد»، أكد أنه أسس هذه المجموعة لإرسال مقاتلين مؤهلين إلى منطقة الدونباس الأوكرانية في حرب 2014. وأضاف «منذ تلك اللحظة في الأول من أيار/مايو 2014، ولدت مجموعة وطنيين اتخذت اسم مجموعة كتيبة فاغنر التكتيكية». وتابع مؤكدا تدخل هذه الميليشيا في أكثر من نزاع في مختلف دول العالم بالقول: «والآن إليكم اعتراف، هؤلاء الرجال الأبطال دافعوا عن الشعب السوري، وشعوب عربية أخرى (يقصد ليبيا والسودان) والافارقة والأمريكيين اللاتينيين المعدومين، لقد أصبحوا أحد ركائز أمتنا». إذن تحول بريغوجين إلى القبضة الفولاذية التي تنفذ المهمات القذرة لبوتين في الخارج، إذ لعبت مجموعة فاغنر أدوارا مهمة في الحرب الأوكرانية، وحسمت معارك مهمة كان آخرها السيطرة على مدينة باخموت، وهذا الأمر أدى إلى تصاعد الصراع بين أمراء الحرب من جنرالات الجيش وقيادات فاغنر، وعلى رأسهم بريغوجين الذي كان يسعى للحصول على حظوة أكبر لدى الرئيس بوتين، لكن لماذا تمرد بريغوجين على صانعه الرئيس بوتين؟ تشير التقارير الغربية إلى أن وزارة الدفاع الروسية كانت قد أصدرت في 10 يونيو أمراً في ظل الصراع مع بريغوجين وفي محاولة لتقليم أظافره ينص على إلزام متطوعي شركة فاغنر توقيع عقود مع وزارة الدفاع بحلول 1 تموز/يوليو 2023. وبالتالي كان بريغوجين سيفقد دجاجته التي تبيض ذهبا، وكانت الحجة التي استخدمها بريغوجين لتمرده العسكري هي أن الجيش الروسي قصف مواقعه (وهذا تصعيد خطير وليس مجرد تكرار للاتهامات المعتادة بعدم تقديم الدعم والذخيرة لقواته). وكتب الصحافي رياض محمد من الولايات المتحدة تغطية للموضوع جاء فيها؛ «استنادا إلى مصادر المخابرات الأمريكية والفرنسية، فقد كان لبريغوجين مؤيدون داخل الأمن الفيدرالي الروسي، وقد ساهم هؤلاء بتضليل الحرس الوطني الروسي في الساعات الأولى للتمرد، ما سمح لقوات فاغنر بالسير بسرعة باتجاه موسكو، لكن المفاجأة كانت في انحياز بوتين للجيش، وهنا أدرك بريغوجين أنه خسر الرهان».
ومن الأسئلة التي طرحت أيضا: هل كان على الغرب استثمار تمرد فاغنر ومساعدته على إطاحة نظام بوتين؟ وقد جاءت كل المعلومات والمواقف رافضة لهذا الرأي، فقد تعاملت الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي بحذر مع معطيات الواقع على الأرض في الأزمة الروسية، وقد كان موقف إدارة بايدن يذكر بموقف إدارة جورج بوش من انقلاب 1991، الذي اتسم بالحذر والحيطة وعدم التأيد، لأن نتيجة الانقلاب في أكبر دولة نووية تمتلك حوالي 6000 رأس نووي أمر خطير جدا. أما بالنسبة للخسائر التي تكبدها الجيش الروسي في مواجهته تمرد فاغنر، فقد أشار الرئيس بوتين في بيان صدر في 26 يونيو إلى «سقوط الطيارين الأبطال»، لكنه لم يخض في التفاصيل حول عدد الضحايا أو عدد الطائرات المفقودة. وقال يفغيني بريغوجين إن قواته أصابت طائرات روسية «كانت تلقي قنابل وتشن هجمات صاروخية» في محاولة لوقف تقدم قواته نحو موسكو، وأعرب عن أسفه لاضطراره إلى إسقاط طائرات روسية. وتزعم السلطات الأوكرانية أن قوات فاغنر دمرت ست طائرات هليكوبتر روسية وطائرة مقاتلة من نوع إليوشن إيل 22 خلال القتال. وقد فحصت BBC عشرات مقاطع الفيديو، التي تم التقاطها خلال القتال بين قوات فاغنر والقوات الروسية، وتم التأكد من إسقاط طائرة عسكرية بالقرب من بلدة كانتيميروفكا، كما أشارت BBC إلى إنه وفقا لتقارير وسائل التواصل الاجتماعي، تم التأكد من إسقاط ما مجموعه ست طائرات هليكوبتر، تضم طائرتي هليكوبتر هجوميتين، وثلاث طائرات تستخدم في الحرب الإلكترونية وطائرة هليكوبتر للنقل. ويبدو أن مستقبل مجموعة فاغنر قد حسم في الساحة الأوكرانية، بعد الوساطة التي قدمها رئيس بيلاروسيا الكسندر لوشينكو، إذ تم إسقاط التهم الجنائية عن بريغوجين ومقاتلي فاغنر، الذين سلموا معداتهم العسكرية وأسلحتهم للجيش، كما أن وزارة الدفاع ستفتح معهم صفحة جديدة عبر فتح باب التطوع لهم للانخراط في الجيش. أما يفغيني بريغوجين نفسه، فيكاد يكون في شبه إقامة جبرية في قبضة حليف بوتين ديكتاتور بيلاروسيا إلى أجل غير معروف، لكن اللافت في التصريحات الروسية والتسريبات الإخبارية أن نشاطات شركة فاغنر في الشرق الأوسط وافريقيا وأمريكا اللاتينية باقية على حالها، إذ يمارس أفراد فاغنر نشاطاتهم المعتادة من دون تغيير حتى إشعار آخر. كما تساءل المراقبون؛ هل أصبح فلاديمير بوتين في خطر؟ وهل أضعفته محاولة الانقلاب التي قام بها صنيعته يفغيني بريغوجين؟ ويرى بعض المحللين أن من الخطأ الافتراض أن الجيش الروسي بلا أسنان، أو أن محاولة انقلاب بريغوجين هي «بداية النهاية» بالنسبة لبوتين، لقد تعرض بوتين للإذلال بالتأكيد، وكما يجادل زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين، فإن الجيش الروسي فاسد وغير فعال، لكن لا يوجد ما يشير حتى الان إلى أن النظام ينهار. كما أننا لا نملك معلومات مؤكدة عما حدث بالفعل. هل كان بريغوجين يحاول القيام بانقلاب، كما أشارت التقارير المبكرة؟ أم أن الأمر مجرد اقتتال داخلي بين أمراء الحرب في نظام مبهم؟ على الأرجح أن هذا هو ما حصل.
عندما تفشل الانقلابات، يمكن أن يعتمد بقاء القادة غالباً على نطاق وعمق عمليات التطهير التالية التي تحدثها الحكومة في صفوف النخبة من المشكوك بولائهم. وكان على بوتين أن يقوم بعمليات التطهير قبل أن يتفجر الخلاف بين النخب الأمنية والعسكرية ويصل إلى نقطة اللاعودة، ويرى بعض المراقبين أن قدرة بوتين على تثبيت حكمه تعتمد على كيفية إدارته لتداعيات الانقلاب، وما إذا كان سيتحرك لتطهير نظامه والتخلص من داعمي بريغوجين في صفوف القيادات العليا من المشتبه في عدم ولائهم المطلق، وهو مؤشر مهم يجب مراقبته في المستقبل القريب.
كاتب عراقي