مَنْ يستخدم الميليشيات يُصبح عبداً لها
ألقت الأحداث الأخيرة في روسيا حزمة ضوء ساطع، على الدور الذي تقوم به ما تسمى الميليشيات، أو الجيوش الرديفة، أو الجيوش الخاصة، كما أوضحت أزمة صانع القرار السياسي في التصرف حيال هذه التشكيلات في حال تمردها.
بداية لا بد من القول بأن ما حصل في روسيا من قبل ميليشيا فاغنر ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم تكن محاولة انقلابية، كما يزعم البعض، فلا السريّة في تحرك القوات كانت موجودة، ولا السيطرة على المواقع الحساسة قد حصلت، وهما شرطان مهمان في تحقيق أي انقلاب على نظام الحكم. فقد وجدنا رئيس فاغنر يعلن عبر وسائل الإعلام عن توجه قواته إلى موسكو، وبذلك يصبح الحدث تمردا وليس محاولة انقلابية، فقد أصدرت السلطات المختصة قرارا بدمج هذه الميليشيا داخل القوات النظامية ابتداء من الشهر الجاري، وبذلك شعر زعيمها بريغوجين بأن ذلك القرار يعني تجريدا له من النفوذ والسطوة، كما أنه سيكون تحت إمرة ألد أعدائه وهما رئيس الأركان ووزير الدفاع، لذلك تحرّك كي يقول لبوتين لا لهذا الأمر.
وعلى الرغم من احتواء الأزمة من دون إراقة دماء، لكنها كشفت عن صعوبة اتخاذ قرار حاسم ضد المتمردين، ففي الوقت الذي اتهم فيه بوتين زعيم فاغنر بالخيانة، وقال إن ما حدث هو تمرد وطعنة في ظهر الشعب الروسي، نجد أن المتحدث باسم الكرملين أعلن عن إعطاء ضمانات لبريغوجين وإصدار نوع من العفو عنه، وهذه تناقضات مزعجة للمجتمع الروسي، الذي تعوّد أن يكون زعيم البلاد شخصية قوية قادرة على اتخاذ القرارات بصورة حاسمة وبلا تردد، لكن من دون شك يبدو أنه يخشى من بعض التبعات، وهذه التبعات قد تكون ملفات حساسة في يد بريغوجين ورجالاته، ويشكل إعلانها ضررا بالغا على الأمن القومي الروسي، خاصة في الوقت الحالي، حيث الحرب الأوكرانية ما زالت مستمرة وحلف شمال الأطلسي يتربص به، لذلك لم يكن أمامه من حل سوى مسك العصا من الوسط، والتراجع عن تخوين بريغوجين واستمالته، من دون إلقائه في غياهب السجن، لكن لا عودة له إلى موسكو، وبذلك يكون الرئيس الروسي قد كسب المعركة، لكن الواقع يقول بأنه قد واجه تحديا سافرا لسلطته. لا شك في أن موقف بوتين كان أقرب إلى الضعف منه إلى القوة، لكن في الوقت نفسه لا يعني ذلك أن بريغوجين ينافس بوتين، فالمسألة برمتها هي صراع داخلي أو صراع وجودي بين فاغنر والجيش الروسي، على الرغم من أن بوتين اتهم الغرب بالوقوف وراء الأحداث، فوزارة الدفاع الروسية ألزمت مقاتلي فاغنر بالتسجيل لديها، ومعنى ذلك أنهم سيصبحون جنودا نظاميين، ولا يبقون ضمن فاغنر، لكن اتهام الغرب بصناعة الحدث هو أحد تجليات الحرب الباردة، التي ما زالت كامنة في العقلية السياسية الروسية، حيث يعتقدون أن الغرب هو الشيطان الذي يدخل في كل التفاصيل، وهو كذلك في أحيان كثيرة. فإذا كان الغرب هو المُسبب لهذا الصراع بين فاغنر والجيش الروسي، أليس من المنطقي أن نرى بريغوجين، أو بعض قادته قد فروا إلى الغرب بعد الحادثة الأخيرة؟ ما يؤكد أن الحدث هو صراع أجنحة بين الجيش النظامي والجيش الخاص الذي تمثله فاغنر، فهذه الأخيرة انتفخت بعد النجاحات التي حققتها في بعض المناطق الأوكرانية، وباتت ترى في نفسها قوة مهمة تتفوق على الجيش، فانفجرت العلاقة بين الطرفين بالشكل الذي رأيناه مؤخرا. وهنا انكسرت المعادلة التي صنعها بوتين، والتي كانت قائمة على أساس أن يُكمل الجيش ما تقوم به فاغنر من مهمات في الحرب، وأن تُكمل فاغنر ما لم يستطع الجيش القيام به، لكن هل يمكن القول بأن الأزمة قد انتهت الآن؟
صانع القرار السياسي في أي بلد يبقى هدفه تجنب حدوث أزمات داخلية، وحتى في حالة حصولها فإنه يكون حريصا على عدم تعميق الاستعصاء السياسي أو الأمني
يقينا أن صانع القرار السياسي في أي بلد يبقى هدفه تجنب حدوث أزمات داخلية، وحتى في حالة حصولها فإنه يكون حريصا على عدم تعميق الاستعصاء السياسي أو الأمني، والرئيس الروسي هو كذلك، فقد أشار في كلمته عن الأزمة الأخيرة الى ما حصل من حرب أهلية بعد الثورة الروسية في عام 1917 وهو يعني بهذه الإشارة إلى ضرورة الدفع بكل الوسائل لتجنب الحرب الأهلية، لذلك لم تتضمن كلمته إجابات وافية عن الأسئلة التي تدور في أذهان الناس، وابتعد عن التفصيل في الحدث، وهذا دليل واضح على وجود مجموعات نفوذ داخل القيادة الروسية. ولم يشأ أن يتخذ موقفا يُحسب عليه بأنه مع طرف ضد آخر، فدراسة الواقع السياسي في روسيا تُبيّن، أن بوتين كان قد اعتمد ومنذ زمن طويل سياسة المناورة بين مجموعات النفوذ هذه، وبموجب هذه السياسة تشكّل تكتيك سياسي معين في الحياة السياسية الروسية، يبدو أنه كان فعّالا لسنوات طوال من رئاسة بوتين، لكن الظرف غير الطبيعي، جراء الحرب في أوكرانيا، والضغوطات الغربية الاقتصادية والسياسية والأمنية، جرّدت هذا التكتيك من فاعليته، ولم يعد صالحا بعد اليوم. وعلم السياسة يقول بأن بعض التكتيكات السابقة لا تكون فعّالة مئة بالمئة في ظل أوضاع متغيرة، لذلك من المتوقع أن الرئيس الروسي سيتمرد على هذا التكتيك، ربما على المدى المتوسط، وستكون ردة فعله باثر رجعي على كل من تمرّد عليه عسكريا أو سياسيا، إنما بعد أن تهدأ الأمور وتنجلي الحرب في أوكرانيا، ويمكن إطلاق تسمية استراتيجية التريث في هذه المسألة. فوحدة الداخل الروسي هدف سياسي أسمى من كل هدف لدى الرجل، وإفشال المخطط الغربي بتقسيم المجتمع الروسي وإحداث اضطراب داخلي فيه، يتقدم على الانتقام والثأر من الموتورين في الوقت الحاضر.
يقينا أن بوتين اليوم في موقف حرج جداً أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، كما أنه في موقف صعب أمام جنرالات الجيش، الذين هم بفعل الحرب الدائرة في أوكرانيا اليوم باتوا أسياد الموقف، حيث يصروّن على إدماج فاغنر في الجيش النظامي، ثم إنه يرى اليوم أن قراره دخول الحرب ضد أوكرانيا، أنتج له صراعا على الصعيد الداخلي بعد عام ونصف العام تقريبا على نشوبها. وهذه كلها مخرجات سياسية سلبية تؤثر في الحاضر والمستقبل، وتأكل من جرف الرئيس بوتين، لذلك كي تعود الأمور إلى نصابها فإن ذلك يتطلب إطلاق مرحلة جديدة لإعادة زمام المبادرة واستلام الإطار العام، وأن تتضمن عملية فرز لمن لم يعد هو بحاجة إليه، ولمن هو فعلا بحاجة إليه سواء في روسيا أو في أوكرانيا. كما ينبغي التشديد على انخراط فاغنر في وزارة الدفاع، خاصة أنه اتخذ موقفا إلى جانب هذه الوزارة ضد فاغنر، التي باتت عاصية وخرجت عن السيطرة الأساسية. إذن روسيا أمام منعطف جديد من إعادة التشكيل والهيكلة وتصويب بوصلة فاغنر. فصانع القرار الروسي لا يمكن أن يتخلى عنها، وهي مصدر مال وتأثير وتحكّم وسيطرة في مفاصل أساسية في الداخل الروسي، وكذلك في افريقيا وسوريا وليبيا والسودان، ودول أخرى كثيرة قيل إن عددها يبلغ الثلاثين دولة، بل إن الكثير من هذه الدول يرتكز أمنها القومي وأمن المنظومات الحاكمة فيها على أداء شركة فاغنر.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية