اعتقال الطائي و برنامج ( السينما والناس )
مَن مِنا نحن كبار السن لا يتذكر برنامج السينما والناس الذي كانت تقدمه فتاة لم تتجاوز العشرين من عمرها صاحبة اجمل واطول شعر اسود ينساب على كتفها وفي كل لحظة اثناء تقديم البرنامج تدفع به باطراف اصابعها الى كتفها يمنة مرة ويسرة.. لا تستطيع ان تحول عينك عنها لجمالها ورشاقتها وادائها وصوتها وثقافتها العالية.. لقد ملكت لب مشاهديها وعطفهم.. لقد كانت تستضيف شخصيات متخصصة مثقفة لها باع في التاريخ والفن والسياسة لمناقشة الفيلم والقصة والحدث والمرحلة التي يعالجها الفيلم..
لقد كانت مؤسسة الاذاعة والتلفزيون قد وصلت عصرها الذهبي في النصف الاول من السبعينات وخاصة مرحلة قيادة (الصحاف) للمؤسسة حيث احتضنت عشرات الكتاب والفنانين المصريين مثل (الدكتور احمد عباس صالح مؤلف كتاب اليمين واليسار في الاسلام والذي تاثرت انا به في عنفوان شبابي في الستينات وكذلك غالب هلسا والمخرج توفيق صالح) وغيرهم من المثقفين العرب.. كيف دخلت (اعتقال الطائي) التلفزيون؟ تجيب: صديقتي الفنانة التشكيلية سناء تم تعيينها في المؤسسة العامة للتلفزيون دعتني يوما لزيارتها في الدائرة..
وبينما نحن في كافتريا الاذاعة والتلفزيون دخل مديرها العام (الصحاف) برفقة صديق له من مدينته ومدينتي (الحلة) فجلسا وراح الصحاف يراقب الحاضرين لمحت صاحبه يوشوش في اذنه ويشير علينا.. بعد تناولهما الغداء توقف الصحاف وطلب من سناء ان ترافقني معها الى مكتبه.. بعد دخلنا عليه رحب بنا وتعرف على اسمي واختصاصي ثم تحدث عن الفن التشكيلي مشيرا الى لوحة في مكتبه لخيول رسمها (فائق حسن) قام الصحاف يشرح اللوحة ثم وجه سؤاله نحوي (مو تمام انسة؟ قلت لا مو تمام مو صحيح) لما سمع قوة الرد وهذه الجرأة عرض علي العمل في قسم الديكور لان المؤسسة بحاجة تطعيم بعض النساء..
اجبته: بعدم رغبتي بالعمل في التلفزيون لاني قدمت اوراقي لوزارة الثقافة لتدريس النحت وهو اختصاصي الا انه اصر على اقناعي خاصة بعد تجربة وعمل صديقتي سناء في قسم الديكور وانهم سوف لا يعاملوننا كبقية الموظفين في الدوام لان العمل والابداع اهم.. رفضت واصر ولم يهتم برفضي وقال لسناء خذيها ولتكتب الطلب.. بعد ثمانية ايام اتصلت بي سناء لتخبرني بقبولي في قسم الديكور.. بعد التحاقي قابلني الصحاف وشرح لي خطته لتطعيم المؤسسة باصحاب الشهادات الجامعية وبالاختصاص لان المؤسسة اضحت لكل من هب ودب من (العاهرات) ممن يتوسط لهن العاملين في المؤسسة.. قال هل تعلمين لماذا تمسكت بك وطلبتك للعمل لانك قلتي لا بوجهي بدون تردد لاني خلال قيادتي للمؤسسة كان كل العاملين عندما اناقشهم يجيبون (نعم استاذ/ صحيح استاذ) الا اني كنت اصرخ بوجههم شنو نعم هل كل ما اقوله صحيح؟ احيانا اتعمد ان اقول خطا في طرح الرأي وهم يجيبون نعم صحيح استاذ..
ولكنك انتي الوحيدة التي قالت لا لانك لم تقتنعي بوجهة نظري ولذا تمسكت بك.. بعد ثلاثة اشهر من التدريب رشحت مقدمة برامج.. كان اول فيلم قدمته في برنامج السينما والناس هو (الحرب والسلام لتولستوي) من اخراج بوندراتشوك.. اندهش اهلي في الحلة عندما شاهدوني على الشاشة اقدم البرنامج وكان الناس في المقاهي والبيوت يتسمرون امام التلفاز لمتابعة البرنامج ويسألون ابي أليست هذه (اعتقال ابنتك) فيجيب لا فتقول له امي ليش تنكر (قابل بنتك امسوية شي بالخفية) بعد نجاح البرنامج واستقطابه الجمهور العريض بدأ رؤساء الصحاف في القيادة يفرضون عليه بعض الشخصيات الحزبية لنستضيفهم لان اغلب المشاركين كانوا من مثقفي اليسار المحسوب على الشيوعيين.. عند عرضنا فيلم (تشارلي) فرض علينا ضيف هو احد وجوه البعث وشاعره ليعلق على الفيلم ويشرح متنه مما اساء للفيلم والموضوع..
يومها جعل معد البرنامج (علي زين العابدين) رئيس قسم الافلام يستشيط غضبا لمستوى الضيف المنحط.. قلت له (ليش صاير عصبي خل يشوف الجمهور مستواهم المتدني في الثقافة) خل الناس تحكم ثم قال: اي والله صحيح.. قبل ان نغادر طلبنا الصحاف ليسألنا عن مستوى الحلقة قلت له على الفور (كارثة) ثم ادركت الموقف فقلت: ممكن الضيف ان يكون شاعرا جيدا ولكن ليس بالضرورة يملك القدرة على تحليل الفيلم.. عندها علمنا ان الصحاف يربط جهازه على الاستوديو ويراقب البرنامج وعلم من متابعته فشل هذه الحلقة فامر بعدم بث الحلقة خاصة والضيف الشاعر البعثي قد سافر وهذا افضل حل.