مملكة عربايا: أهي الرُّها أم الحَضَر وما علاقتها بالعرب؟ 2من2
علاء اللامي*
مزيج حضاري ودول ثنائية الهوية
إنَّ هذه الفكرة حول المزيج الحضاري، أو الثنائية القومية في الممالك والإمارات الآرامية والعربية في الجزيرة الفراتية وعموم شمال العراق القديم وشرقي سوريا، قريبة أيضاً من الفكرة الخاصة بالعلاقة بين اللغتين العربية والآرامية والتي عبر عنها الباحث الهولندي البروفيسور هولغر غزيلا، في مقابلة معه / ضفاف 18 كانون الأول 2017، قال فيها: “يمكن القول إنَّ الآرامية بمثابة ابنة عَمٍّ للعربية، وليست شقيقة مباشرة، فاللغتان ساميّتان غربيتان، لكن الآرامية تنتمي إلى الفرع السامي الشمالي الغربي، أو إلى لغات بلاد الشام القديمة بالمعنى الجغرافي”، أي أنه يضع الآرامية بالتزامن، أو إلى جوار العربية المنتمية إلى اللغات السامية الشمالية الغربية أيضا، ولكن إلى جنوبها جغرافيا (وشمال الجزيرة العربية). كما يوضح فكرته في موضع آخر بقوله “لا يمكن الحسم بهيمنة العربية في المناطق التي ذكرت (تدمر والحَضَر وأورفا)، فالأسماء تهاجر كما تعلم وليست دليل انتشار عرقي. هنا يأتي دور الدين والثقافة. الأسماء تهاجر مع الأفكار. ولتلافي التعميم في حالة شرقي المتوسط في العصر الروماني، يمكننا الحديث عن مجتمعات ثنائية اللغة، آرامية-عربية، في سورية الوسطى والشمالية، مع أكثرية عربية في الأردن وشمال الجزيرة العربية (الأنباط)”.
وفي السياق، يفرق غزيلا بين لغة سريانية يسميها “القديمة”، وهي كما يقول لغة النصوص الدينية من العصور القديمة المتأخرة، ولم تكن لغة الكلام اليومي (لسان)، ولا يجب الخلط بينها، وبين ما يعرف بـ “السريانية الحديثة”، التي تشكّلت مع انتشار المسيحية في الشرق، والدالة على اللهجات الآرامية الشرقية المحكية حاليا في مناطق متفرقة من العراق والجزيرة السورية وجنوب تركيا، ويمكن مقارنة السريانية القديمة بالعربية الفصحى، التي هي لغة الأدب والتعليم والثقافة والدين، لكنها ليست لغة التواصل اليومي التي هي بالأحرى اللهجة الآرامية العامية التي كتبت فصارت تسمى “السريانية الحديثة”. إن هذه الفكرة التي يقدمها غزيلا حول الفرق اللغوي واللهجوي بين العربية والسريانية يمكن استلهامها بشيء من الحذر عند الحديث حول المكونات العرقية المتجاورة والمتداخلة في المنطقة في العهدين الفارسي فالروماني بهدف رفض المنطق القومي الأيديولوجي المعاصر والساعي لفرض هوية عرقية واحدة هي السريانية أو العربية في حالتنا على سكان الممالك القديمة في هذه المنطقة وخصوصا في منطقة مملكة الرها. أما فيما يخص هوية مملكة الحضر الثقافية والسكانية فيبدو أن هويتها العربية كانت أكثر نضجاً ووضوحا، من دون أن يعني ذلك الشطب على موضوعة “الثنائية القومية واللغوية” تماما، فلغة الكتابة في مملكة الحضر كانت الآرامية، وخصوصاً وهي تحتل موقعاً وسطاً بين الرها شمالها والممالك العربية الأخرى جنوبها.
لقد عثر على دليل آثاري داخلي يؤكد عروبة الحضر، أو في الأقل يؤكد ما سماه هولغر غزيلا “الغالبية العربية” وقبلة توصل الباحثان العراقيان د. يوسف قوزي ود. محمد روكان في كتابهما “آرامية العهد القديم”، إلى هذا الاستنتاج فكتبا “وقد كان سكان هذه المملكة – الحضر – أخلاطاً من الآراميين والعرب ويبدو أن القبائل العربية كانت تشكل غالبية سكانها لذلك يطلق عليها اسم (عربايا)، أو ربما لأن ملوكها كانوا من أصل عربي. ص 30”. عوداً إلى الدليل الآثاري والذي يمثله نقش وُجِدَ على تمثال الملك الحضري سنطروق ونصه بالآرامية: “صلما دي سنطروق ملكا دي عرب(ز-ك-يأ-) بر نصرو مريا بر نشريهب”. وترجمته الشائعة هي: “تمثال (صلما /قارن مع صنم العربية) سنطروق، ملك العرب المنصورين/ الظافرين، ابن نصرو سيدي، ابن نشريهب”. ولكني أتحفظ على عبارة “ملك العرب المنصورين/أو الظافرين” التي أرجحُ انها لم ترد حرفياً في العبارة الآرامية بل وردت “ملك دي عرب زكأ” وأعتقد أنها تعني، كما يوحي السياق، “ملك العرب الظافر”، دون أن أجزم بذلك لأنني لا أجيد اللغة الآرامية، ولكن المعنى العام المؤكد لعروبة الملك ورعيته لن يتغير كثيرا.
ثمة تمثال آخر للملك سنطروق مصنوع من حجر الحلان “الجيري” يؤكد ما تقدم ويضيف إليه غلبة العرب السكانية فقد دُوِّنت عليه بالآرامية في سطرين الحروف التالية:
1– ص.ل.م.أ. د.ي. س.ن.ط.ر.و.ق. م.ل.ك.أ. د.ي.
2– ع.ر.ب. ب.ر. ن.ص.ر.و. م.ر.أ.ي
وترجمتهما: تمثال سنطروق ملك العرب ابن نصرو سيدي.
وفي كِلا النصين، لا يمكن نسبة كلمة “العرب” إلى البادية أو الصحراء، كما يعتقد البعض ممن ينفون عروبة مملكة الحضر، بل إلى هوية السكان. وقريب من هذا الاستنتاج ما يورده د. قوزي الذي فسر كلمة عربايا في هامش له على ص، 45، م. س، قال فيه إنه آتٍ من سكانها المختلطين من الآراميين والبدو الرحل (رعاة غنم/ عِربايي).
مملكة الحضر في الأدب العربي قبل الإسلام
ومن الأدلة الثقافية التي تفيدنا في سياق تأكيد عروبة هذه المملكة الكاتبة بالآرامية، يمكن إيراد اهتمام المؤرخين والشعراء العرب في عصر الإسلام وما قبله بعدة قرون بقصة مملكة الحضر وملوكها، فقد ذكروها في أشعارهم، وسمّوا أشهر ملوكها؛ قال ياقوت الحموي (ت 1229) إن مؤسسها هو الملك الساطرون، وهي تحريف من “سنطروق” كما يرجح الباحث فؤاد سفر في الكتاب الذي ألفه بالاشتراك مع زميله طه باقر “المرشد إلى مواطن الآثار/ص33” ولكنه للأسف لم يبينِّ للقارئ معنى الاسم وجذره.
في هذا الكتاب ينقل لنا فؤاد سفر وصف الحموي لأبراج عاصمة الحضر الستين، وتفاصيل سقوط مملكة الحضر وتدميرها ومقتل ملكها الضيزن / سنطروق الثاني بأيدي جنود الملك الفارسي شاهبور بعد صمود رائع أمام جيوشهم. (يعتقد البعض أن سنطروق كلمة آرامية وتعني “الملك”، أما الضيزن العربية فمن معانيها؛ الحافظ الثقة، والمزاحِمُ غيره في أمر). وقد ذكر مملكة الحضر مؤرخون وأدباء عرب كثر منهم ابن قتيبة وابن إسحاق، وأورد أبو الفرج الأصفهاني وياقوت شعراً عربياً مقفىً لشعراء عرب من عصر ما قبل الإسلام منهم مثلا عمر بن آلة وفقَ رواية أبي الفرج الأصفهاني، أو جدي القضاعي حسبَ رواية ياقوت، كما نسبت الأبيات الى عمرو بن كلثوم، في رثاء الحضر وأهلها:
أَلَم يَحزُنكَ وَالأَنباءُ تَنمي
بَما لاقَت سَراةُ بَني العُبيدِ
وَمَقتَلُ ضَيزَنٍ وَبَني أَبيهِ
وَإِخلاءُ القَبائِلِ مِن يَزيدِ.
وبنو العُبيد – بضم العين – هم بطن من عشيرة سليح من قبيلة قضاعة القحطانية اليمنية. كما ورد ذكر مملكة الحضر في قصيدة للشاعر الجاهلي عَدي بن زيد العبادي التميمي (توفي سنة 587 م وكان شاعراً ومترجماً ودبلوماسيا، عربيا مسيحياً من أهل الحيرة) التي خاطب فيها النعمان بن المنذر عاهل مملكة المناذرة جنوبي العراق مذكراً إياه بمأساة الحضر وملكها الضيزن وشعبها، فهذه الإشارات الأدبية والتأريخية تؤكد الهوية العربية لمملكة الحضر وملوكها، بل إننا نضع أيدينا على إشارات في التراث العربي القديم على أن غالبية سكان الحضر وربما نخبتهم كانت من قبيلة قضاعة اليمنية كما يذكر مثلا ياقوت الحموي وفق توثيق فؤاد سفر، ومن قبائلها بني يزيد وبني عُبيد التي أجلاها الغزاة الفرس والرومان من أراضي الحضر.
عوداً إلى موضوع العلاقة بين مملكتي الحضر والرها، وإيهما كانت تسمى عربايا، يمكن القول إن دليلاً آثارياً آخر ثم العثور عليه في أطلال مدينة الحضر ربما حسم الإجابة نسبياً على هذا السؤال وأكد أن مملكة الحضر هي عربايا نفسها. وهذا الدليل هو “لوح رخامي يحتوي نقشاً أنيقاً بالخط الآرامي يذكر اسم “الحضر” كمركز لمنطقة “عربايا” (مملكة عربايا). خلال فترة الاحتلال الفارسي البارثي، من القرن الأول إلى القرن الثالث الميلادي. والنقش معروض في المتحف العراقي في بغداد” وهو أيضا معروض بهذا التعريف على الموسوعات الحرة.
ولكن هذا النقش، بنص تعريفه الذي تقدم، والذي وردت فيه آن واحد كلمتا “المنطقة والمملكة”، قد يثير تحفظات وأسئلة من أخرى من قبيل؛ هل وردت عبارة “الحضر مركز لمنطقة ومملكة عربايا” نصاً وحرفياً في النقش، أم أن هذا التعريف هو مجرد استنتاج من قبل الطرف المعرِّف بالنقش؟ وعلى الإجابة على هذا السؤال – بعد الاطلاع على النص الأصلي وترجمته بدقة، تترتب نتائج مهمة على صعيد التعريف والتحديد الماهوي.
النفي الأيديولوجي للحضور العربي
إن مملكة الرُّها لا تختلف من حيث الهوية الحضارية كثيراً عن مملكة الحضر، على الرغم من احتمال غلبة الطابع الآرامي على الأولى، والعربي على الثانية، فأسماء ملوك الرها “الأباجرة؛ جمع أبجر” والتسميات الأجنبية التي أطلقت عليها تؤكد أنها على الأرجح كشقيقتها الحضر مزيج سكاني وثقافي من العرب والآراميين. وعلى هذا، فإنَّ الخلاف حول هويتها وهل هي عربية أم آرامية “سريانية” فقط ولا علاقة لها بالعرب، هو خلافٌ نافل ولا يخلو من شحنة أيديولوجية وعاطفية معاصرة ولكنها لا علمية. أما إضافة الفرس الآريين كمكون ثالث لسكان الحضر كما يفعل بيرتولينو (R. Bertolino)، فهو أمر لا يمكن القبول به بحثياً، فالفرس دخلوا المنطقة عدة مرات كجيوش غازية، شأنهم شأن الإغريق والرومان، لأراضي ممالك شعوب أخرى مختلفة عنهم لغة وانتماء عرقياً، ثم رحلوا عنها برحيل جيوشهم ولم يبق منهم سوى حالات فردية اندمجت في الموجود المجتمعي السائد.
نجد مثالاً على هذه النظرة الأيديولوجية القومية الباترة لدى هنري بدروس كيفا الذي يصف نفسه بالباحث الاختصاصي بتاريخ الأراميين، وهو من القائلين بأن مملكة عربايا تعني مملكة الرها لا الحضر، فهو ينفي أن تكون عبارة “ملكا دي عرب زَكّأ” الآرامية تعني “ملك العرب المظفّر” كما يقول منطوقها، بل تعني “ملك البادية المظفر” مع اعترافه بأن الرها بعيدة نسبيا عن الصحراء. وهو يعتقد أن “منطقة الحضر كانت تابعة جغرافيا لبيت عربايا التي يعتبرها الرها، وهذه الأخيرة لا تعني بلاد العرب تاريخياً وجغرافياً ولغوياً، كما يعتقد، بل تعني “البادية”. بمعنى أن كيفا يحاول تحويل المعطى الإثني الصريح والمعبر عنه بكلمة “عرب” إلى آخر جغرافي محتمل وبعيد نسبيا عنها هو البادية أو الصحراء التي جاءوا منها وليس بسكانها.
من الحجج التي يوردها كيفا أن القبائل العربية كانت تتنقل من الصحراء العربية الجنوبية إلى البادية السورية فعلاً، ولكنها لم تستقر في بيت نهرين وعاصمتها الرها في “بيت عربايا” ولهذا بقيت بيت عربايا آرامية! أما لماذا لم يستقر العرب في مملكة تحمل اسمهم – كما تزعم هذه القراءة – وظلوا يعيشون بمحاذاتها في الصحراء المجاورة لها، ولماذا نَسب الملك الحضري سنطروق المظفر نفسه الى العرب (أي البادية بقراءة كيفا) ولم ينسبها الى الآراميين أو إلى مملكته الحضر، وماذا عن سلسلة ملوك الرها (الأباجرة) وغالبية أسمائهم العربية؟ فهذا ما لم تفسره لنا هذه القراءة.
ويضيف كيفا حجة أخرى يصفها بالجغرافية فيقول “لقد أطلق علماء التاريخ والجغرافيا القدامى من اليونانيين تسمية ” بلاد العرب “على المناطق الواقعة جنوب سوريا وشرقي نهر الأردن وليس على المناطق الواقعة قرب الرها أو نصيبين”، ما قد يعني أن بلاد العرب لا تشمل وادي الرافدين ولا منطقة أعالي الجزيرة الفراتية. وعبثا يحاول السيد كيفا إبعاد العرب عن مملكته الخاصة بكل الوسائل، فإذا ما علمنا أن هذه المنطقة التي نسميها بلاد الشام وسهول بلاد الرافدين حتى منطقة الحضر وشمالها الرها هي منطقة مفتوحة لا عوائق طوبوغرافية فيها، تعزل أجزاءها عن بعضها، وهي مفتوحة تماما على شبه الجزيرة العربية، وهي أيضا صفيحة تكتونية واحدة تمتد من جبال طوروس شمالاً وحتى البحر العربي وساحل حضرموت جنوبا وتسمى الصفيحة التكتونية العربية (Arabian tectonic plate)؛ وإن الكيانات السياسية التي نشأت فيها منذ أقدم الأزمان كانت تتسع أحياناً لتشمل هذه المنطقة كلها بل وتعبر أحياناً صحراء سيناء نحو وادي النيل كما حدث في عهد الآشوري آسرحدون سنة 673 ق.م، وتضيق أحياناً أخرى في عهود انحطاطها وضعفها فتنكمش إلى حدود عواصمها الأولى؛ إذا ما علمنا كل هذه الحيثيات، أصبحت وجهة النظر النافية لعروبة مملكة الحضر متهافتة ولا معنى لها، وبالمثل لا يمكن القبول بالشطب على الوجود العربي الممتزِج والمتداخل مع الوجود الآرامي في مملكة الرها.
عوداً إلى ملوك مملكة الرها، فلا يمكننا الجزم في ما إذا كانت كلمة “أبجر وجمعها أباجرة” التي تَسمى بها أحد عشر ملكا من ملوكها هي اسم لسلالة عرقية أم اسم علم ملكي لجدهم أبجر الأول (68–92 ق. م)! فكلمة أبجر – بالجيم القاهرية غير المُعطشَّة- يمكن أن تكون آرامية مثلما يمكن أن تكون عربية فهي تعني بالآرامية “الأعرج” وبالعربية “البطين”، كما يخبرنا كاتب آخر هو جورج شمعون.
ويضيف شمعون معلومة أخرى مفادها أن هناك مزاعم أرمنية بأن “مؤسس مملكة الرها هو أبكار وهو مرادف لأسم “ابجر”. وينقل عن مؤرخ أرمني هو موس الخوريني قوله: إنَّ أرشام بن أرتاشيس من آل الملك ديكران الكبير جلس على عرش المملكة عام 33 ق. م. وحكم الرّها مدة ثلاثين عاماً. ولكن مؤرخاً، يسميه “روبانس”، نفى هذه المزاعم ووصفها “بأنها حكاية مزورة لفقوها ترويجاً لبضاعتهم”!
باختصار، يمكن الاتفاق مع جورج شمعون على أنَّ هوية مملكة الرها هي مملكة آرامية لغةً، بدليل أن غالبية الآثار والكتابات التي عثر عليها فيها كانت باللغة الآرامية السائدة. وسيادة اللغة لا يمكن اعتبارها دليلاً حاسماً على السيادة العرقية لأهل اللغة فالآرامية كما قلنا كانت لغة الدولتين الفارسيتين “الأخمينية والبارثية”، أما أسماء الملوك فهي مزيج بين العربية والآرامية (بينهم ملوك بأسماء عربية بحتة كعبدو وبكرو ومعنو وأبجر، وأخرى آرامية كأريو وسومقا)، وهذا ما يجعلنا نميل إلى مقولة الهوية الثنائية الآرامية العربية للملكة، مثلما كانت حال النسيج السكاني كله لمنطقة الجزيرة الفراتية في شمالي بلاد الرافدين. لقد كان هذا الإقليم على الدوام منطقة وسيطة بين دولتي فارس والرومان المتصارعتين في حروب دامية وطويلة، فدفعت ثمن باهظا لهذا الصراع الطويل بينهما واستهدفها الطرفان بالاضطهاد والحروب المستمرة، مع غلبة نسبية ومتصاعدة للحضور العربي كلما توجهنا نحو جنوب الجزيرة الفراتية وللحضور الآرامي كلما توجهنا نحو شمالها.
نعلم أيضاً أن “الملك أبجر الخامس (أبْگر حَميشويو) قد عاصر يسوع المسيح وراسله، ومن ثم اعتنق المسيحية على يد “مار أدي” أحد التلاميذ الاثنين والسبعين وفقاً للتقليد الكنسي وفي سياق معجزة دينية مشهورة شعبيا، تحسب ضمن باب المرويات ذات النكهة الأسطورية الشعبية الكثيرة، والتي لا يمكن البت بصحتها منهجيا. ولكن الثابت هو أن مملكة الرها أصبحت أول دولة مسيحية في التاريخ في عهد الملك أبجر التاسع في القرن الثاني الميلادي كما يرى بعض الباحثين، سابقةً تنصر الإمبراطورية الرومانية بقرن تقريبا.
يُفهم من الإحداثيات الكرونولوجية المسجلة أن المملكتين – الرُّها والحضر – قد تزامنتا لفترة قصيرة، ثم زالتا من الوجود بفرق زمني قد لا يتجاوز العام الواحد. وهناك معلومات تأريخية أخرى تؤكد أن المملكتين تحالفتا في فترة تاريخية معينة مع إمارة حيداب ومركزها أربيل وحاكمها المتهوِّد إيزاط الأول سنة 194م، لمواجهة الهيمنة الرومانية وانتهت تلك المواجهة بهزيمة الحلفاء وتحويل مملكة الرها شبه المستقلة إلى ولاية رومانية تابعة.
إن القول بالكيانية الجغرافية المتحولة إلى أخرى حضارية تأريخية ثنائية أو مختلطة السكان عرقيا، لا يعني – إذا كان الحديث هنا عن العرب والآراميين في مناطق الجزيرة الفراتية – أي تأكيد أو تأييد لما يزعمه بعض المعاصرين لوجود سكاني أو ثقافي آشوري وكلداني، فالآشوريون والكلدان كيانات حضارية وسياسية انتهت بانتهاء دولها الإمبراطورية البائدة، وذابت كشعوب في شعوب وأمم أخرى طالعة، ولا يمكن من الناحية العلمية جعل الآراميين السريان امتدادا عرقيا للآشوريين أو الكلدانيين القدماء أو العكس في عصرنا، ولأسباب سياسية وأيديولوجية، وهذا موضوع يستحق مقاربة منهجية علمية مفصلة أخرى مستقبلا.
*كاتب عراقي