الديكتاتور مذيعاً على قناة «الميادين».. خطاب الطاغية في إطار الميديا المعاصرة
من المألوف أن نصادف إعلامياً، أو مشتغلاً في مجال الفن، وقد أصبح سياسياً، الرئيس الأمريكي رونالد ريغن مثلاً، وقد كان ممثلاً سينمائياً، أو الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الممثل الكوميدي، الذي انتُخب رئيساً في حقبة عسيرة وقاسية على شعبه، لدرجة عافَ معها الفن والثقافة، إلى حدّ أنه أقالَ، الأسبوع الماضي، وزير الثقافة في حكومته بسبب «سوء تفاهم» حول ميزانية الثقافة في زمن الحرب. قالها زيلنسكي صراحة: كل الجهود الآن للدفاع. ما ليس سهلاً أن نعثر على حالة معاكسة؛ أي أن يتحول السياسي، خصوصاً إن كان برتبة رئيس البلاد، إلى مذيع، أو مشتغلٍ بعالم الفن. على الأقل لن يكون لديه الوقت الكافي لذلك.
مادورو لديه الوقت الكافي لتقديم برنامج تلفزيوني أسبوعي، في البلد المنكوب بجوعٍ مدوٍّ، وحصار مديد، وألف مصيبة ومصيبة.
الرئيس مذيعاً، أو مقدم برامج، حالة لن تعثر عليها إلا في فنزويلا، بدأتْ مع الرئيس الراحل تشافيز، واستمرت مع وريثه مادورو. والأخير سبق له أن استضاف، بين عامي 2013 و2017، برنامجاً أسبوعياً حمل عنوان «تواصل مع مادورو» ، تم تغيير عنوانه، عام 2017، إلى «الأحد مع مادورو» . استضاف بعدها برنامجاً «بين السياسة وموسيقى السالسا» ، وظهر فيه أحياناً راقصاً مع زوجته. وحينها قال عبارته: «يتهمونني بالجنون لأنني أرقص السالسا، لكن إذا رقص أوباما نقول إنه رائع وليس مجنوناً!».
يظهر الرئيس الفنزويلي، منذ شهور، أسبوعياً في برنامج تلفزيوني على شاشة محلية، باسم «مع مادورو أكثر». نعم، لديه الوقت الكافي في البلد المنكوب بجوعٍ مدوٍّ، وحصار مديد، وألف مصيبة ومصيبة. وقد كان بالإمكان أن يُعطى البرنامج، بفكرته والإمكانيات المتاحة له، لمذيع، أو مذيعة، وسيؤدي المهمة على أحسن ما يرام. لكنها رغبة الديكتاتور أن يكون كل شيء؛ العامل الأول، والمعلم، والطبيب، والرياضي، والخطيب، وخصوصاً هذه الأخيرة التي يبدو بعض الزعماء من خلالها وكأنهم أرادوا أن يصبحوا «الرئيس» من أجلها فقط، أن يكونوا الخطباء الذين يشقّون التاريخ، والأثير، والملايين. وهنا، على ما يبدو، المشترك الكبير بين مهنة الرئيس والمذيع.
العنوان سيدلّك على وجهة البرنامج وفحواه، في بلد مقبل على الانتخابات الرئاسية بعد عام ونصف. لماذا «مع مادورو» ، لا «مع فنزويلا»، «إن كنتَ تزعم أن لهذا البرنامج هدفاً مركزياً: إظهار فنزويلا الإيجابية، إظهار الثوابت الفنزويلية.وكيف نواصل الطريق، ونتقدم في بناء الهوية الفنزويلية». وعلى أي حال ليست مهمة «إظهار فنزويلا الإيجابية» أمراً إيجابياً بالضرورة في الأنظمة الاشتراكية، فالفكرة كانت تعني على الدوام سحق كل الأولويات والشؤون الإنسانية في سبيل عدم تعطيل عجلة التقدم.
في حلقة بُثت، أول أمس الأحد، على قناة «الميادين»، وهذا هو جديد البرنامج في حلقته التاسعة، يظهر أن البرنامج، حتى لو بدا في هيئة معاصرة، استديو واسع، وفيديوهات، ومقابلات وصور، وموسيقا، فهو ليس سوى خطاب باتجاه واحد. بإمكانك أن تتخيل خطاب أي دكتاتور عربي، بعد أن تم تكييفه عبر وسائط الميديا الحديثة.
إنها رغبة الديكتاتور في أن يكون كل شيء؛ العامل الأول، والمعلم، والطبيب، والرياضي، والخطيب،..
فقرات برنامج «مع مادورو» تبدأ باستعراض «الأسبوع الرئاسي» ، اللقاءات والزيارات والعروض العسكرية. أي أن المختلف عن نشرات الأخبار أن هذه كانت تقول: «استقبلَ السيد الرئيس» ، سيظهر هنا الرئيس شخصياً ليقول: «لقد استَقْبَلْتُ، أنا الرئيس..» . وبدل أن تقول نشرة الأخبار: «هتفت الجماهير باسم الرئيس» ، سيظهر الرئيس شخصياً ليقول: «لقد هتفت الجماهير باسمي» . وهذه الأخيرة ليست افتراءً على مادورو، فلقد أفردَ فقرة يتحدث فيها عن زيارته لمصر. هنا سيقول «زرت مصر، والسوق الرئيسي فيها. حاولتُ السير من دون أن أُلفتَ الانتباه، فكانت هناك احتفالية في كل زقاق، ولم نستطع المشي. كانوا يصرخون: يحيا مادورو. يحيا تشافيز.. إلى الأمام» .
بإمكان مادورو أن يتوقع أن هؤلاء الهتّيفة لم يكونوا إلا مجموعة واحدة انتقاها النظام المصري، وكانت هي نفسها تقفز في كل مرة من زقاق إلى زقاق، لتهتف لمادورو.
برنامج مادورو هو فرصة لسقاية «الأنا»، حتى وأنت تستضيف سيدة اتصلت بك في حلقة سابقة، لتشكو حال الشارع غير المعبد في حيّها، ومشكلة انقطاع الكهرباء، ثم تأتي هنا لتؤكد كيف أن المشكلة حلّت، كما لو أن الأمر سحرُ ساحر، كما لو أنها أعطية من أعطيات الرئيس القدير. شيء من قبيل «أجْزِلْ له العطاء» ، عبارة الملوك والأمراء الشهيرة عبر التاريخ، كما لو أنهم يعطون الشعب من مال آبائهم الخاص. أبعد ما يكون عن خيال الدكتاتور أن الرئيس موظف عند الشعب.
أما الضيوف في البرنامج، فبالإمكان أن تتخيل أي حرية لهم في الكلام، وأي حدود، وهم يبدأون كل عبارة لهم بـ» سيدي الرئيس» . كان مواطنو بلادنا يخاطبون مذيعاً من وزن علاء الدين الأيوبي في برنامج «الشرطة في خدمة الشعب»، بـ «ندمان يا سيدي» ، لا ندري ما سيكون الحال لو صار الأيوبي رئيساً، أو صار سيّده (بشار الأسد) مذيعاً مقدماً لبرنامج، على غرار مادورو.
كان مواطنو بلادنا يخاطبون مذيعاً في برنامج «الشرطة» بـ«ندمان يا سيدي»، لا ندري ما سيكون الحال لو صار ذاك المذيع رئيساً، أو صار سيّده (بشار الأسد) مذيعاً مقدماً لبرنامج.
الجديد إذن، في برنامج مادورو، ومناسبة الكتابة، أن المشاهد العربي بات على موعد أسبوعي مع الرئيس الفنزويلي على شاشة» عربية!» هي» الميادين» . لماذا؟ ماذا يفيد المشاهد العربي في التعرّف على «أنا» مادورو؟
لكنه غسان بن جدو، الذي كان حاضراً في الاستديو في هذه الحلقة، قدّمه مادورو للجمهور، ثم استمع منه إلى كلام بدأه بالقول «هذا برنامج للشعب الفنزويلي وليس لنا، ولذلك سأختصر بكلمة».
في الإعلان الترويجي سيقول بن جدو كلاماً كبيراً، كعادته، حينما يندلق في مديح الطغاة. يقول إن مادورو «يتكلم بلا قفازات، يوجّه رسائل بحكمة، يدافع عن القضايا الإنسانية بلا تراجع، في التبشير يعد بنهضة، (هو) المناضل الثوري، والأممي الثوري، المشارك في نهضة أمريكا اللاتينية…» .
على أي حال، ما من داع ليضيف بن جدو شيئاً، فاستضافة القناة الأسبوعية لبرنامج مادورو هي مساهمة صريحة في بروباغندا الديكتاتورية. ثم إن الرجل ظهر مرتدياً الأحمر الساطع في الحلقة، وهو يعرف جيداً ما يجب أن يرتدي في ظل أيّ بلاط.