ربيع الانقلابات الافريقي والصفعة الكبرى لفرنسا في النيجر
توّجت النيجر مؤخرا سلسلة انقلابات عسكرية حصلت في غرب افريقيا، بانقلاب حصل فيها في 26 يوليو المنصرم. وقد أُعلن عن اعتقال الرئيس محمد بازوم من قبل الحرس الرئاسي، وتشكيل مجلس عسكري لإدارة البلاد. لاحقا أيّد قائد الجيش في النيجر الانقلاب، ونصّب قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبدالرحمن تيشاني نفسه رئيسا لما سُمي المجلس الوطني، في حين تعهدت الولايات المتحدة باستعادة النظام الدستوري في البلاد، وأكد الاتحاد الأوروبي أنه لا ولن يعترف بسلطات الانقلاب، كما عقد الرئيس الفرنسي اجتماعا عاجلا لمجلس الأمن والدفاع الفرنسي، فما أهمية النيجر؟
تبلغ مساحة النيجر 1.2 مليون كم مربع مع 25 مليون نسمة، وعلى الرغم من أنها تنتج اليورانيوم، الذهب، البترول، الفحم، خام الحديد، والفوسفات، لكنها تُعتبر من أفقر الدول، وتتلقى مساعدات مالية من الغرب، وهي دولة لها أهمية جيوسياسية كبيرة، بسبب مساحتها وموقعها ضمن منطقة الساحل، كما أنها مشاركة في الحرب ضد بوكو حرام، وتُعتبر حليفا مهما لفرنسا، وبسبب مواردها هي والدول المجاورة فقد أصبحت المنطقة منطقة صراعات، انعكست في انقلابات عسكرية متتالية، سببتها الاختراقات الدولية للمؤسسة العسكرية في هذه البلدان، حيث كل جهة تريد إزاحة الجهة الأخرى من المنطقة.
أمريكا والغرب يعيشان تحديات متتالية في افريقيا حيث النفوذ الروسي والصيني وأفول النفوذ الفرنسي، لذلك أمريكا تريد أن تعود بفحوى سياسية واقتصادية إلى الافارقة
وقد تميزت النيجر عن باقي دول الساحل بتجربتها الديمقراطية، التي تمثلت بالانتخابات، ووصول رئيس مُنتخب إلى سدة الحكم، ومشاركة أطراف واسعة في النظام السياسي والتشريعي في البلاد. ويبدو أنها كانت تجربة ناجحة إلى حد ما، لكن التجاذبات والتقاطعات وتعثر التداول السلمي للسلطة، كانت حجر عثرة أمام تقدمها. تحوز النيجر أهمية كبرى في الأجندة الغربية، ويمكن اعتبار الانقلاب الأخير فيها صفعة مدوية ليس لفرنسا وحسب، بل لدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية أيضا، فعلى سبيل المثال، عندما قُطعت العلاقات السياسية والأمنية بين فرنسا ومالي، جراء التدخل الروسي فيها، اضطرت فرنسا إلى إعادة تموضع حوالي 1500 جندي فرنسي وأكثر من 100 جندي ألماني، من قوة برخان المنتشرة في الساحل، والتي كان هدفها المُعلن هو محاربة الجماعات المتطرفة، وقامت بإعادة تموضعهم في النيجر. فكانت النيجر بالنسبة لفرنسا المركز الذي انطلاقا منه تستمر هي والتحالف الدولي في محاربة الإرهاب في المنطقة. وعندما تسقط هذه الورقة الاستراتيجية العسكرية تصبح خسارة استراتيجية كبرى وتشكل تحديا للغرب، فإما أن يحتضن الغرب النظام الذي سينتج عن هذا الانقلاب العسكري ويتعاطى معه وفقا للمصالح، وإما إذا تعامل معه بالتهديد وفرض العقوبات، فإن المجلس العسكري، بلا شك، سيولي وجهه إلى روسيا كجارتيه بوركينوفاسو ومالي، اللتين ارتمتا في الحضن الروسي بعد انقلابات عسكرية مشابهة، لكن هل ما حصل في النيجر كان بفعل عوامل داخلية أم خارجية؟ غالبا ما تكون العوامل الداخلية جاذبة للعوامل الخارجية، فنقاط الضعف الداخلي تشكل نوافذ مهمة للتدخلات الخارجية، ففي النيجر كانت هناك صراعات داخل الحزب الحاكم، وكذلك بين المجموعات الإثنية، ويبدو أن هذه العناصر هي التي دفعت لحدوث انقلاب عسكري. فعند انتخاب الرئيس محمد بازوم بقي الرئيس السابق يمتلك الصلاحيات الأكبر في البلاد، وقد ظهر هذا الخلاف منذ اللحظة الأولى في تشكيل الحكومة، حيث تقدم الرئيس السابق بقائمة ترشيحات وزارية، رفضها الرئيس محمد بازوم، الأمر الذي عطّل إعلان تشكيل الحكومة عدة أشهر، وقد استمر الصراع بينهما، فقبل الانقلاب أعدّ الرئيس محمد بازوم قائمة فيها تغييرات كبيرة في الحكومة والأجهزة الأمنية والعسكرية. وقد أزعج هذا الفعل العديد من الأطراف السياسية والعسكرية المرتبطة بالرئيس السابق، خاصة أنه يُنظر إلى الرئيس بازوم على أنه ينتمي إلى أقلية إثنية تشكل أقل من 5% من عدد سكان النيجر، فيما ينتمي جميع الرؤساء النيجيريين الذين سبقوه إلى إثنية الهوسا، التي تشكل أكثر من 50% من إجمالي السكان، لذا تبدو الفرضيات الداخلية في صنع الانقلاب أكثر من الفرضيات الخارجية. أيضا هناك عامل آخر ساعد في تكرار حالة الانقلابات في افريقيا. وهو حالة الامتعاض الشعبي من حكومات افريقية تتماهى مع السياسات الغربية، خاصة الفرنسية. وهذا أدى بمجموعات الضغط والأحزاب السياسية في هذه البلدان، إلى أن تُركّز على إماطة اللثام عن السياسات الغربية الاستعمارية القبيحة في افريقيا. فتشكّل جيل جديد يُفكّر بأن عليه بناء مستقبل لافريقيا، وساعد في هذه المهمة التوجهات الروسية والصينية نحو المنطقة، وتعاملهما غير المشروط مع هذه الدول عكس المشروطيات الغربية، فهل كان الانقلاب متوقعا؟
نعم يبدو كذلك، فمنطقة الساحل الافريقي كلها منطقة صراع دولي كبير، ومنجم ثروات طبيعية مهمة لكل الأطراف، كما أن هنالك لاعبا جديدا في منطقة الساحل وهو التمدد الرسمي الروسي، والتمدد غير الرسمي الروسي أيضا عن طريق شركة فاغنر. يعزز هذه الإجابة، أن محيط النيجر تم اختراقه من قبل روسيا ضد فرنسا، في مالي وبوركينوفاسو المجاورتين. وهنا يقول وزير خارجية النيجر في تصريح صادر عنه، إن القوات الفرنسية لم تقم بواجباتها في ما يتعلق بتأمين حدود النيجر الغربية، ما يعطي مؤشرا على أن النجاح الذي حققته روسيا على الصعيد الأمني في مالي، بات له صدى في الدول المجاورة، وربما النيجر إحداها. وقد التقى هذا الصدى مع رغبة أطراف داخلية بعدم التعامل مع الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا، وقد أشار الحرس الرئاسي النيجري في معرض تبريرهم للانقلاب بالقول، إن السبب الرئيسي الذي دفعهم للقيام بهذا الفعل هو عدم الاستقرار الأمني في البلاد. فكيف تبدو الأمور في النيجر بعد الانقلاب؟
يقول وزير الخارجية الأمريكي (نحن متفقون على إدانة الأعمال التي حدثت في النيجر، وندعو للإفراج الفوري عن الرئيس بازول. كما ندعو للاستعادة الفورية للنظام الديمقراطي في البلاد). يبدو أن تصريح بلينكن يحمل بعض الرسائل المُبطّنة، خاصة أنه لم يصف ما وقع في النيجر بأنه انقلاب. لقد تفادى هذا التصنيف كي لا يصبح لزاما على الولايات المتحدة اعتبار النيجر دولة مارقة وفق التصنيف الأمريكي، وبالتالي يُجبر الانقلابيون على الذهاب إلى روسيا، لكنه قال إنه يخشى على التعاون وعلى الاستثمارات التي تُقدّر بمئات الملايين من الدولارات، أي أنه يتحدث بلغة الاقتصاد السياسي، وهذه رسالة واضحة للانقلابيين بأنهم سيخسرون المساعدات الأمريكية. وهنا لا بد من القول بأن الولايات المتحدة والغرب يعيشان تحديات متتالية في افريقيا، حيث النفوذ الروسي الصيني، وأفول النفوذ الفرنسي، لذلك أمريكا تريد أن تعود بشكل استراتيجي وبفحوى سياسية واقتصادية إلى الافارقة، لكنها تصطدم بحقيقة أن المسار الديمقراطي الذي تسعى إليه في افريقيا، يتعارض مع طبيعة ما يحدث ميدانيا. اليوم هناك ذروة في الانقلابات العسكرية في افريقيا، وليس أمامها من طريق إلا العقوبات، لذلك ستكون الولايات المتحدة مُجبرة على تطبيق عقوبات اقتصادية على النيجر، إن لم يستجيب الانقلابيون لها، ولا خيار أمام الانقلابيين إلا الارتماء في الحضن الروسي.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية