“يوري تريفونوف” و نثر المدينة (1925 – 1981)
ظهرت في مرحلة معينة من مراحل تطور الأدب الروسي في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ظاهرة أطلق عليها اسم “نثر المدينة” (مقابل النثر الريفي) ، اشتهر هذا المصطلح بعد ظهور روايات وقصص يوري تريفونوف. تناولت واقع المدينة وارتباط الشخصيات الروائية بها ، والمشاكل التي يواجهها سكان المدن، وظاهرة الجشع في التعامل إضافة الى ذلك تميزت هذه الروايات بمعالجتها للقضايا النفسية والروحية مستندةً على الموروث الروائي لكلاسيكين الروس ولاسيما دوستويفسكي.
ولد يوري تريفونوف في 28 آب عام 1925 في موسكو، كان والده أحد الثوار الذين شاركوفي ثورة عام 1905 وأحد رجال الحرب الأهلية الذين شكلوا الحرس الأحمر في بتروغراد (بيتربورغ حالياً).
عندما بلغ الصبي السنة الثانية عشرة من عمره أُعدم والده واعتُقِلت والدته. وبقي هو و أخته برعاية جدته. وفي خريف عام 1941 كان في الصف التاسع تم إخلاءه أيام الحرب الى طشقند حيث أكمل المدرسة هناك ثم ذهب الى موسكو ليعمل في أحد مصانع الطيران.
بعد أن نشر عدة قصائد وقصة قصيرة بعنوان “موت البطل” قُبِلَ في معهد غوركي للأدب في صيف عام 1944. ثم صار ينشر قصصاً وقصائداَ في المجلات وبتوصية من ك . فيدين نشرت مجلة “العالم الجديد” الرصينة قصته الطويلة الأولى “الطلبة” عام 1950. وقد جلبت له شهرة واسعة وكسب من خلالها حب القرّاء ونالت القصة جائزة ستالين للآداب. تجري أحداث الرواية في العاصمة موسكو، حيث يعرض الكاتب تفاصيل دقيقة وموثّقة للحياة في موسكو فاتحاً الطريق لتيار أدبي مستقل يسمى الروايات المسكوفية.
جذب نثر تريفونوف اهتمام القراء بحيوية القضايا التي يطرحها وبدقة وبأصالة وصفه الفني. إن دقة وحيوية المواضيع الحياتية التي تعالجها القصص تؤكد التأمل الجدي للكاتب بالتناقضات الاجتماعية والأخلاقية في حياة المجتمع وإيمانه بالعلاقة المتبادلة بين الأجيال وبظاهرة تأثير الثقافة الروحية وتأثير التقاليد القومية والتراث الوطني على ثقافة المجتمع. يساعدنا نثر تريفونوف على فهم الملامح الحقيقية للحياة المعاصرة ، اذ أنه سار على خُطى الثقافة الكلاسيكية الروسية وبيّن في أعماله ما هومهم في زمانه وطباع معاصريه وغالباً ما يتضح ذلك من خلال التحليل الفني للظروف الحياتية التي تساعد الإنسان على تأكيد القيم الأخلاقية الاجتماعية الإيجابية أو تساعده على نفيها.
يؤكد تريفونوف دائماً على تمسكه بتقاليد الواقعية الروسية: “أذا ما تحدثتُ عن التقاليد الأقرب بالنسبة لي، فسأقول بالدرجة الأولى تقاليد الواقعية الانتقادية لأنها الأكثر خصباً”. لكن الباحث الألماني المعاصر ر. إزيلمان يرى في نثر تريفونوف أحد النماذج الواضحة المبكرة لما بعد الحداثة . ويرى هذا الباحث ان نظرة تريفونوف للتأريخ قريبة من الفلسفة الجمالية لما بعد الحداثة, التي تقوم أساساً على النفي والتدمير والتحرر ودرامية النهاية والعدمية واللا استمرارية.
كان الكاتب في زمن الاتحاد السوفيتي مثيراً لشكوك السلطة والرقابة. ورغم أنه لم يعارض بصورة مكشوفة ولم يوقع رسائل احتجاج، لكنه دائماً ما كان يتعرض للملامة لأنه لم يتناول في كتاباته ما كانت السلطة تريده ولأنه كان يكتب عن الحياة اليومية والأمور الفارغة حسب رأيهم ونتاجاته الأدبية مظلمة وخالية من الأمل. ومع ذلك تمتعت نتاجاته باهتمام القراء والمثقفين كثيراً. أما في روسيا الحالية ما بعد الاتحاد السوفيتي فيتعرض الكاتب لحملة من جانب ما يسمى “بالجندرمة الليبرالية” ويتساءل هؤلاء : لماذا لم يكتب رسائل احتجاج؟ لماذا لم يشارك المعارضين؟ لماذا لم ينتفض؟ وهم يرون أن الكاتب إذا نشر أعماله في دور النشر الحكومية يعني أنه خادم للنظام. لكن المنصفين من النقاد دافعوا عن الكتّاب الذين كانوا يقولون ما يريدون ولم يدخلوا في مواجهة مع النظام ومع ذلك قدموا أعمالاً رائعة.
يحلل تريفونوف عمليات التطور الأخلاقي للإنسان والمجتمع كونه كاتباً يتوجه الى الواقع بهدف التكامل المُطَّرد. وهو يسعى الى ادراك التناقضات الأخلاقية المعقدة للحياة اليومية وتقديمها بصورة فنية لتأكيد المُثُل الإيجابية التي تحدد الحركة الأساسية لحياة الناس البسطاء والمهمشين.
كتب تريفونوف في المدة من المدة (1950 – 1960) عدة قصص قصيرة مختلفة في مستواها الفني وبأسلوبها وطريقة عرضها ومادتها. نشاهد بعضاً منها يصطبغ بصبغة مذهب الطبيعية وتصور واقع الحياة اليومية المعاصرة مثل : “السفر”، “أزهار الخشخاش”، “القبّعة” أما البعض الآخر فينحومنحاً فلسفياً مثل : “الساعة الرملية”، “القصة الكبيرة ” و”الاوذيسة الإسبانية”. قدم فيها تفسره للأزمة التي عاشها معظم أبناء جيل الكاتب في تلك المدة بعد موت ستالين وفضح نهج “عبادة الشخصية” وتزعزع الإيمان بالقيم. اذ بحث الكاتب عن نفسه طويلاً وكتب أشياءً مختلفة وأندفع نحو الكتابة عن المواضيع الرياضية (كرة القدم والشطرنج).
خرج الكاتب من أزمته هذه بروايته الرائعة “إرواء الظمأ” ، التي ظل يعمل عليها منذ عام 1959 الى عام 1962 ونشرها في عام 1963. تتناول الرواية مسألة كرامة الفرد الحقيقية والوهمية في العالم المعاصر. إن التعطش للعدالة موضوع يحدد مسار حياة الكثير من أبطال الرواية الذين يعملون في مشروع شق قناة لسقي الصحراء القاحلة في تركمانيا .وتكشف لنا الرواية ظمأ الكاتب لإدراك معنى الحياة وصعوبتها وتأكيد قيمها الحقيقة وعرضها بصورة واقعية.
عرض الكاتب بصورة دقيقة وجلية الواقع المعاصر في سلسلة الروايات المسكوفية التي من اشهرها رواية “التبديل” (1969).
تناول تريفونوف في قصة “التبديل” موضوعاً بسيطاً : تمْرض كسينيافيدوروفنا والدة المهندس فيكتور دميترييف مرضاً شديداً لكن لم يتم تشخيص مرضها. وعندما تبدء كنتها لينا باتخاذ إجراءات لتبديل شقتها وشقة حماتها ذوات الغرفة الواحدة بشقة ذات غرفتين، تدرك الأم بأن أجلها قد حان.
يقوم الكاتب بتحليل عالم أبطاله الروحي وفي الوقت ذاته يطرح مسألة الحالة الأخلاقية التي تسمو فوق المواقف الحياتية اليومية. ويتجلى موقفه الإنساني عندما يؤكد على نقاء القواعد الأخلاقية للمجتمع. وان الانحراف عن هذه القواعد حتماَ سيقود الأبطال الى الخسارة الأخلاقية ويجعل القارئ يدرك فظاعة نتائج الحلول الوسط والمساومات على المبادئ
إن أزمة عائلة المهندس دميترييف التي ظهرت بسبب مرض والدته وضرورة تبديل الشقة، لها جذورها الحياتية التي يمثل طرحها التصادم النفسي و الأخلاقي في القصة، ويبدو فيها فيكتور دميترييف تحت التأثيرات اللا أخلاقية ويبقى موقفه خلالها سلبياَ ومرتبكاً.
يتناول الكاتب في القصة تحليل مواقف وطباع الشخصيات، عائلة دميترييف عائلة روسية مثقفة نموذجية، يمتاز أفرادها بنكران الذات والقناعة و باحترامهم العميق للقيم الروحية والأخلاقية. فقد قام فيودورنيكولايفيتش جد فيكتور طوعياً بالتضحية من أجل التغير الاجتماعي للناس ومن أجل الصالح العالم.
إما عائلة لوكيانوف التي تنحدر منها لينا زوجة فيكتور فكانت تسعى دوماً من اجل السعادة المادية. إن رغبات لينا غير المشروعة وقساوتها وتصميمها على تحقيق الرفاه المادي بكل ثمن تسبب بتحويلها الىإنسانة متعجرفة جافة لا تبالي بالأخرين.
لم يقاسم دميترييف عائلة لوكيانوف مواقفهم الحياتية لكنه كان يخضع تدريجياً لهم تحت ضغط صعوبات الحياة و إيقاعها اليومي ، ويؤدي فقدانه للمبادئ الأخلاقية الى عدة مواقف مشينة في نظرته للصداقة والحب وعلاقته بوالديه وبالنتيجة يفقد احترامه لنفسه. إن ما جرى في نهاية المطاف ليس “تبديل” الشقة بل “التبديل” النفسي و الروحي و الأخلاقي للمجتمع الذي تنكر للقيم.